في سنة 1852 احتفلت حكومة الجمهورية الفرنسية بإقامة تمثال من البرنز صنعه «دافيد الشهير» في أحد ميادين ثغر الهافر لرجل جليل عظيم الهيبة، تتألق ملامحه بالبشر والنور، وتفيض عيناه بالوداعة واللطف، وهو ممسك بإحدى يديه قرطاسا وبالأخرى قلما، وعند قدميه صبي وصبية عاريان يتصافحان تحت ظل شجرة من أشجار المناطق الحارة.
من هما ذانك الصبيان المتصافحان؟ وما معنى تلك الشجرة التي ليست من نبات هذه البلاد؟ وما عسى أن يكون ذلك الرجل الذي كتب له الحظ أن يكون محلا لعناية «دافيد» واهتمام الجمهورية؟
أرادت فرنسا بأسرها أن تخلد ذكرى رجل من أبنائها قضى حياته محبا للحرية واستقلال الرأي، وإن ناله بسببهما الأذى، منقبا عن الحكمة وهو يتفانى في تمجيدها، عاشقا للطبيعة وهو يتغنى بمحاسنها، ينسق قلمه القدير كل يوم للأدب إكليلا يانعا من أزاهير الجمال، وتسمو به نفسه الطاهرة الأبية إلى سماء الإنسانية للعمل على تخفيف ويلات البشر وآلامهم، فكان رجلا ذكيا عالي الهمة، حكيما، كبير النفس ، يعرف للطبيعة حقها وفضلها، كاتبا فذا جم الشعور، ملأت فراغ قلبه فيوض الرحمة بالبشر إلى حد يجعله في صف القديسين.
وما كان هذا الرجل بحاجة إلى أثر يخلده؛ وفي رأسه وقلمه ونفسه مثل تلك الآثار الخالدة يحيا بها على تعاقب السنين.
2
ولد برناردين دي سان بيير في التاسع عشر من شهر يناير سنة 1727 بالهافر، من أبوين كانا يدعيان اتصالهما بالنبيل أوستاش دي سان بيير، حتى إنه ولع من صغره بهذه النسبة فانتحل لنفسه لقب «شفالييه»، وأخذ يحلي صدره بأوسمة يصنعها بنفسه تتفق مع شرف هذا اللقب.
ولقد كان في صباه رقيق المشاعر، عصبي المزاج، كثير الجري وراء الخيال، حتى طمحت نفسه إلى تأسيس جمهورية واسعة من طائفة العاثرين البائسين؛ يكون هو واضع شريعتهم ومنظم حياتهم؛ ليضمن لهم سعادة العيش، فكان في هذا الخاطر مثل جان جاك، إلا أن هذا كان يرى أن يعود الناس إلى فطرتهم الأولى طاهرين من الأرجاس، خالصين من الأدران، فيعيشون عيشة صافية هنية في ظل شريعة الكون العامة التي سنها الخالق، أما برناردين فكان يرى أن يضع لهم نظاما جديدا يحارب به قسوة الحياة الحالية وويلاتها.
ولكنه كان لا يزال طفلا قليل الحول والحيلة، حتى إن أحد أعمامه - وكان قبطانا لسفينة تجارية - أخذه معه إلى جزر المارتينيك، ولكنه عاد منها مثقلا بالهموم وكراهية العيش، فسلمه أبوه لجزويت كاين.
وعند ذلك عادت تلك الفكرة السامية إلى رأسه الصغير لما كان يسمعه من أحاديث المبشرين عن رحلاتهم في البلاد المتوحشة، حتى تمنى لو أنه يقفو أثرهم فيهدي إلى سبيل السعادة فريقا من عباد الله الأشقياء الجاهلين.
على أن أباه عجل بنقله إلى مدرسة رووين، ثم إلى مدرسة الهندسة، ثم التحق بعد ذلك بالجيش، ولكنه كما ذكرنا كان عنيدا لا يسمع غير صوت نفسه وإن خرج في ذلك عن حدود الواجب، حتى إن رئيسه عقد مجلسا لتأديبه ثم أوقفه.
Unknown page