وإنه لكذلك إذ شعر بيد قد وضعت على عاتقه وبأحرى ترفع رأسه، فانتبه فإذا فرجيني واقفة أمامه ودموعها تترقرق في عينيها، فذعر إذ رآها وظل ينظر إليها نظرا حائرا مضطربا، فقالت له: ما بقاؤك هنا وحدك في هذا المكان يا بول؟! فقال لها: لقد حدثوني عنك أنك مسافرة بعد يومين أو ثلاثة، وأنك ذاهبة لتفتشي لك عن أخ آخر غيري يصلح لك وتصلحين له؛ لأنك عرفت أنك فتاة شريفة سرية لا يجمل بك أن تتصلي بفتى وضيع مسكين مثلي، فأحزنني ذلك حزنا عظيما، وكنت أظن أنني أستطيع أن أحمل نفسي على الصبر عنك واليأس منك، فعجزت، فلم أر بدا من أن أروح عن نفسي ببضع قطرات من الدمع أذرفها في هذا المكان الخالي.
ثم أشار إليها أن تجلس بجانبه، وأقبل عليها، وظل يقول لها: إلى أين تريدين أن تذهبي يا فرجيني؟ وأي أرض تلك الأرض التي اخترتها وآثرتها على أرضك التي نشأت فيها، وألفت ماءها وهواءها، وظلالها وأفياءها، وخضراءها وغبراءها؟ وأي قلب ذلك القلب الذي رأيت أنه يحمل لك في سويدائه من الحب والعطف أكثر مما يحمل لك قلب أمك فاستبدلته به وسكنت إليه من دونه؟
لمن تتركين تلك المرأة المسكينة وأنت أنس وحشتها، وسمير وحدتها، وعماد حياتها، وكل أملها ورجائها في هذا العالم؟
كيف تستطيع أن تهنأ بنومها حينما تمد يدها في ظلام الليل وسكونه إلى مضجعك فلا تراك بجانبها؟ وكيف تستقبل وجه النهار إذا فتحت عينيها في الصباح فلا تقعان على وجهك المشرق الجميل؟ أو تجد لذة الطعام والشراب إذا جلست إلى المائدة فلا تراك بين الجالسين إليها؟ أو تصغى إلى أصوات الطبيعة المترنمة وصوتك لا يجلجل بينها، ولا تنبعث رنته بين رناتها؟
وكيف لي بتعزيتها وتعزية أمي عن همومهما وأحزانهما إذا دخلت إليهما فرأيتهما باكيتين منتحبتين تسألان عنك الليل والنهار، والأصائل والأسحار، والظباء السانحة، والطيور البارحة، فلا تسمعان ملبيا ولا مجيبا، ولا تقبلان عزاء ولا سلوى؟
وصمت هنيهة ثم قال وعيناه مخضلتان بالدموع: وما أصنع أنا من بعدك أيتها الغادرة القاسية إذا ظللت أفتش عنك في كوخك ومخدعك، وتحت ظلال الأشجار، وعلى ضفاف الأنهار، وفي جميع الأماكن التي أعلم أنك تأوين إليها، لأجلس إليك ساعة أتمتع فيها بلذة حديثك، وحلاوة سمرك، فلا أراك في واحد منها؟ ومن لي بمن يستقبلني حينما أعود من المزرعة تعبا لاغبا فيبتسم لي تلك الابتسامة العذبة الجميلة التي تذهب بجميع أوجاعي وآلامي؟ ومن ذا الذي يصحبني في هدوء الليل وسكونه إلى شاطئ البحر وقد بسط القمر أشعته على أمواجه المنبسطة، وصبغها بلونه الفضي الجميل، فيجلس بجانبي على رملة من رماله الميثاء فيسمعني تلك الأناشيد الساحرة الخالبة التي تستغرق شعوري ووجداني، وتملك علي مداركي وعواطفي، ويخيل إلي حين أسمعها أنها هابطة من الملأ الأعلى، وأنها نغمات الحور الحسان في فراديس الجنان؟
إنني لا أستطيع أن أعيش من بعدك يا فرجيني، ولا أستطيع أن أسألك أن تستصحبيني معك في سفرك، فأنت أجل من ذلك شأنا وأعظم خطرا، ولقد أفضت إلي أمي اليوم بسر حياتك وسر حياتي، فعلمت أنك فتاة شريفة جدا، وأنني فتى وضيع جدا، لا أصلح أن أكون أخا لك، بل لا أصلح أن أكون عشيرك وجليسك، وإنما أسألك أن تأذني لي بركوب السفينة التي تركبينها لأكون ملاحا من ملاحيها، أو خادما من خدمها، فأراك على البعد، فأجد في رؤيتك راحتي وسلوتي، وأعدك وعدا صادقا لا أغدر فيه ولا أحنث أنني لا أجالسك ولا أدنو منك، ولا أتصل بك بوجه من الوجوه إلا إذا عرض لك خطر من الأخطار، فإنني أبذل لك في تلك الساعة جميع ما تملك يدي، وما تملك يدي غير حياتي، فأبذلها لك طيب النفس عنها.
ما الذي طرأ عليك يا فرجيني؟ وما الذي نال من نفسك هذا المنال كله حتى استحالت حالتك إلى حالة أخرى أكاد أنكرها ولا أعرفها؟
كنت تخافين البحر أشد الخوف، وتجزعين لرؤية عواصفه وأنوائه جزع الأطفال الصغار، وتعجبين كل العجب للذين يخاطرون بأنفسهم في ركوبه، فإذا أنت مزمعة أن تعبريه، وأن تلبثي بين أمواجه الثائرة تسعين يوما كاملة.
كنت تتألمين أشد الألم لفراق أمك يوما واحدا، فها أنت تريدين أن تفارقيها طويلا لا يعلم مداه إلا الله تعالى، ومالك حيث تذهبين من الأرض أم سواها.
Unknown page