[مقدمة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه استفتح الحمد لله الذى افتتح بالحمد كتابه، وألهمه عباده، وجعله مستزيدا لهم من فضله، وذريعة إلى ما قرّب منه وأزلف عنده. وصلّى الله على محمد نبيّه وخاتم رسله، وصفوته من خلقه، وخيرته من عباده، صلاة تزلفه لديه، وتحظيه عنده؛ وسلّم تسليما.
إن الله ﷿ خلق خلقه لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عمّا حرّمه، ووعدهم رحمته، وحذّرهم عقابه، فكان أحسنهم طاعة له، وأشدّهم تقرّبا منه، وأبعدهم ممّا حرّمه ونهى عنه العلماء، وذو [و] العقل والفضل من خلقه، فإنّه يروى أنّ رسول الله ﷺ [قال]: إن الله يعاقب العاقل بما لا يعاقب به الجاهل. ففضّل الله جلّ اسمه ذكر العالم فى زمانه على سائر نظرائه من خلقه، وجعله قدوة لأهل عصره، وذكرا لمن يبقى بعده.
من ذلك ما يروى أنّ الأحنف بن قيس رأى الناس بالبصرة يقصدون الحسن البصرىّ فى أمورهم، ويسألونه عن أحوال دينهم، فقال: كادت العلماء أن يكونوا «١» اربابا، وكلّ عزّ لم يوطّد بعلم فإلى ذلّ يصير.
ويروى من غير وجه: سمعنا أن زيد بن ثابت أتى عبد الله بن عباس فتلقّاه عبد الله، وأخذ بركاب بغلته حتى نزل عنها، فلامه زيد على ما فعله، فقال: كذا أمرنا
1 / 1
رسول الله صلّى الله عليه أن نفعل بعلمائنا، فقال له زيد: ادن منّى، فدنا منه، فقبّل يده ثم قال: كذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه أن نفعل بأهل بيته.
وإنما سلك زيد فى ذلك ما يروى أن رسول الله صلى الله عليه قال: «لا يحلّ لأحد أن يقبّل يد أحد إلّا يد عالم أو يد رجل من أهل بيتى» . ويروى أنّه قال:
إذا كان يوم القيامة قيل للعابد قم فادخل الجنّة، ويقال للعالم: قم فاشفع» .
وقال ﵇: فضل العلم خير من فضل العمل.
وقال الله جل ثناؤه: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ
. فجعل- عزّ اسمه- العالمين بحدوده هم الخائفين من عقابه، وأولياءه وأهل طاعته.
ثم أفضل العلم ما عمل به، وانتفع بثمرته، فإنه يقال: إن أبعدهم من الله عالم لا ينتفع بعلمه. وقال بعض الحكماء: فلان أحوج إلى كذا من علم إلى عمل، ومن قول إلى فعل، ومن قدرة إلى عفو، وعلى ذلك قول الشاعر:
لا خير فى القول إلّا الفعل يتبعه ... والفعل للقول ما أتبعته أدم «١»
وقال سلمان: إنّك لن تكون عالما حتى تكون به متعلّما، ولن تكون بالعلم عالما حتى تكون به عاملا.
ولكنّ الله- جل ذكره- لم يؤت عباده من العلم إلا قليلا، فمن لم يكن نصيبه فى ذلك القليل كالمحتوى على أكثره، ولم يكن أغلب الخصال عليه عقله، وأشرف ما يعتقده عليه تقواه لم يعدّ فاضلا. وقال أمير المؤمنين ﵇:
قيمة كل امرىء ما يحسن.
1 / 2
وللعالم سقطات، وللمّتقى هفوات. وكان ابن عمر «١» يقول: إذا ترك العالم قول «لا أدرى» أصيبت مقاتله.
وقال علىّ رحمة الله عليه: يا بردها على الكبد من عالم يقول: «لا أدرى» ! وأحسن ما روى فى جبلّة الإنسان الّتى جبل عليها كلام يروى عن علىّ رحمة الله عليه، يشبّه بكلام الأنبياء ﵈، يصدّق ذلك ما روى عنه أنه مسح يده على بطنه، وقال: كنيف «٢» ملىء علما، أما والله لو طرحت لى وسادة لقضيت لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، ولأهل القرآن بقرآنهم. وكان رسول الله صلى الله عليه يقول: أنا مدينة العلم وعلىّ بابها. وكان كلامه فى فطرة الإنسان كلام من قد عرف ذلك من نفسه، أو يقرؤه من كفّه:
وأعجب ما فى الإنسان قلبه، وله موادّ من الحكمة، وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء «٣» أذلّه الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب استبدّ به الغيظ، وإن أسعد بالرضا نسى «٤» التحفّظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر، وإن اتّسع له الأمر استلبته الغرّة «٥»، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عارضته فاقة فضحه الجزع، وإن جهده الجوع
1 / 3
قعد به الضعف، وإن أفرط فى الشّبع كظّته البطنة. فكلّ تقصير به مضرّ، وكل إفراط له مفسد.
وأفضل ما قصد له من العلوم كتاب الله- جلّ ذكره- والمعرفة بما حلّ فيه من حلاله وحرامه وأحكامه، وإعراب لفظه وتفسير غريبه. ويروى أن المأمون أمر معلّم الواثق بالله- وقد سأله عمّا يعلّمه إياه-[أن يعلّمه «١»] كتاب «٢» الله جلّ اسمه، وأن يقرئه عهد أردشير، ويحفّظه كتاب كليلة ودمنة.
وأفضل العلوم بعد علم اللّغة وإعراب الكلام، فإن بذلك يقرأ القرآن، وعليه تروى الأخبار والأشعار، وبه يزيّن المرء كتابه، ويحلّى لفظه، قال الله ﷿:
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ
. وقال الشاعر «٣»:
النحو يطلق من لسان الألكن ... والمرء تعظمه إذا لم يلحن
فإذا طلبت من العلوم أجلّها ... فأجلّها منها مقيم الألسن
وقال ﷺ: أعربوا فى كلامكم تعربوا فى كتاب الله.
وقال «٤» عمر بن الخطاب رحمة الله عليه: تعلّموا العربية تحرزوا المروءة.
ولحن رجل بين يدى سليمان بن عبد الملك بعد أن فاوضه فوجده عاقلا، فقال سليمان: زيادة عقل على منطق هجنة،. وزيادة منطق على عقل خدعة.
وأحسن الأشياء ما شاكل بعضه بعضا.
وكان الصدر الأوّل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه يعربون طبعا، حتى خالطهم العجم ففسدت ألسنتهم، وتغيّرت لغاتهم.
1 / 4
ويروى أن عمر بن عبد العزيز رأى قوما من الفرس ينظرون فى النحو فقال:
لئن أصلحتموه لأنتم أوّل من أفسده.
ويروى أن رجلا قال لبعض العلماء: أسألك عن شىء من الغريب، فقال:
هو كلام القوم «١»، وإنّما أنت وأمثالك فيه غرباء.
وذكر أن السبب الذى بنى له أبواب النحو وعليه أصّلت أصوله أن ابنة «٢» أبى الأسود الدئلّى قالت: يا أبت ما أشدّ الحرّ! قال: الحصباء بالرّمضاء. قالت: إنما تعجبت من شدّته، قال: أو قد لحن الناس؟ فأخبر بذلك عليّا- رحمة الله عليه- فأعطاه أصولا بنى منها، وعمل بعده عليها، فأخذه عن أبى الأسود عنبسة بن معدان المهرىّ «٣» الذى يقال له عنبسة الفيل.
وأبو الأسود أوّل من نقط المصاحف. ثم أخذ النحو عن عنبسة ميمون الأقرن، ثم أخذه عن ميمون عبد الله بن أبى إسحق الحضرمىّ الذى يقول فيه الفرزدق «٤»:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكنّ عبد الله مولى مواليا
ثم أخذه عنه عيسى بن عمر، وأخذه عن عيسى الخليل بن أحمد الفرهودىّ «٥»، ثم أخذه عن الخليل سيبويه- واسمه عمرو بن عثمان الحارثى- ثم أخذه عن سيبويه الأخفش، وهو سعيد بن مسعدة المجاشعىّ.
1 / 5
وأفضل ما فى الإنسان المعبّر عن ... شأنه المبيّن لمعرفته لسانه،
وقال الشاعر «١»:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلّا صورة اللّحم والدم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه فى التكلّم
وقال الآخر «٢»:
«٣» وما المرء إلّا الأصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلق مصوّر
فإن طرّة راقتك يوما فربما ... أمرّ مذاق العود والعود أخضر
وقال عمرو بن العاص: لسان المرء قطعة من عقله، وظنّه قطعة من علمه.
وقيل: ما الإنسان لولا اللّسان إلّا بهيمة مهملة، أو صورة ممثّلة. وقال علىّ رحمة الله عليه: المرء مخبوء تحت لسانه.
وقال النمر بن تولب «٤»:
أعذنى ربّ من حصر وعىّ ... ومن نفس أعالجها علاجا
وقال آخر «٥»:
وما بى من عىّ ولا أنطق الخنا ... إذا جمع الأقوام فى الخطب محفل
1 / 6
وقال أحيحة «١» بن الجلاح:
والصمت أحسن بالفتى ... ما لم يكن عىّ يشينه
والقول ذو خطل إذا ... ما لم يكن لبّ يعينه
وبعد معرفة النحو علم الدين، والفقه والتفقّه فيه، ومعرفة الحلال والحرام منه.
وقيل للحسين: ما المروءة؟ قال: الدّين المتوسّط.
وقال له رجل: علّمنى دينا وسوطا، لا ذاهبا فروطا، ولا ساقطا هبوطا.
فقال: نعم، خير الأمور أوساطها. وأنشد أبو عبيدة «٢»:
لا تذهبنّ فى الأمور فرطا ... وكن من الناس جميعا وسطا
وعلى قدر دين الرجل حسن منقلبه، وعلى حسب سريرته منزلته من ربّه.
وإنما يبين عن الناس أعمالهم، ويلحقهم بالصّلّاح والطّلّاح آثارهم- واعتمدنا تأليف هذا الكتاب، والحثّ على طلب الأدب والترغيب فيه، والحضّ على الإكثار منه، فإنّ المستكثر من شىء، «٣» إن لم يدرك آخره ولم يأت على غابره استكثر من الصواب، واستقل من الخطأ، وتزيّن به عند الناس، واستتر به من لؤم الأصل، وإنّما الإنسان بنفسه وابن خبره.
وقالت عائشة: كلّ لؤم دونه شرف فالشرف أولى به، وكل شرف دونه لؤم فاللؤم أولى به.
1 / 7
وقال الشاعر «١»:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك محموده عن النّسب «٢»
وكان بعض العلماء إذا سأل عن رجل قال: أعصامىّ هو أم عظامىّ؟
أى [أ] هو ممن يفخر بآبائه وسلفه وبمن قد مضى من أهله، وهو خال ممّا كانوا فيه، أم هو بنفسه؟ كما قال الشاعر «٣»:
نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما
وجعلته ملكا هماما
وسنذكر فى كتابنا هذا أبوابا من كلام العرب وبعض ما روى عنها، ونثرا من أخبارها، ونفصل ذلك بأشعار وأخبار من قديم وحديث وما بينهما، ونقدّم العذر فى تقصير إن وقع فيه أو خلل إن لزمه، فإنا ألفناه من غير خلوة به ولا تمييز لما تضمّنه، ونسأل الله توفيقه وحسن معونته، ونتوكّل عليه ونسترشده، وبه الحول والقوّة.
1 / 8
[باب فى فضل الشعر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم حدّثنى أبو الفضل العباس بن الفرج الرّياشى قال: روى لنا أشياخنا أنّ رسول الله ﷺ كان يستحسن الشعر ويستنشده من أهله، ويثيب عليه قائله. ثم يروى أن شاعرا أنشده مدحا فى الله ومدحا فيه، فأثابه على مدحه لله ولم يثبه على مدحه له.
وكان يتمثّل بقول طرفة «١»: «ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار» لأن الشعر لم يجر قط على لسانه. وقال يوما لأبى بكر رحمة الله عليه: كيف قال العباس بن مرداس «٢»:
«أتجعل نهبى ونهب العبيد بين الأقرع وعينية»؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله (صلّى الله عليه): «بين عيينة والأقرع» . قال: أليس هما سواء! وكان يستحسن «٣»:
ألا كلّ شى ما خلا الله باطل ... وكلّ نعيم لا محالة زائل
وكان يقول: «إن من الشعر لحكمة، وإنّ من البيان لسحرا. وكان حسان بن ثابت شاعره. ويروى أنّه أنشده فى كلمة له «٤» يقول فيها:
1 / 9
لو لم تكن فيه آيات مبيّنة ... كانت بداهته تنبيك بالخبر
فأعجب بذلك، ﷺ، وأثاب حسانا ودعا له.
ويروى أنه قيل لحسّان بعد موت رسول الله ﵇ «١»: ما بالك لا ترثى رسول الله ﵇؟ قال: لأنى أستقلّ كلّ شىء يجيئنى فيه.
وروى أبو عبيدة قال: كان ابن عبّاس يقول: إذا أشكل عليكم الشىء من القرآن فارجعوا فيه إلى الشعر فإنه ديوان العرب. وكان يسأل «٢» عن القرآن فينشد الشعر.
وسئل عن الزّنيم، فقال: هو الدّعىّ الملصق «٣»، ألم تسمع إلى قول الشاعر «٤»:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد فى عرض الأديم الأكارع
وسئل عن قوله ﷿: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ
. قال: وما جمع، ألم تسمع إلى قول الراجز:
إنّ لنا قلائصا حقائقا «٥» ... مستوسقات لو يجدن سائقا
وكان يفسر قوله: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ
. قال: بالأرض، ألم تسمع إلى قول أميّة بن أبى الصّلت الثّقفىّ «٦»:
فذاك جزاء ما عملوا قديما ... وكلّ بعد ذلكم يدوم
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم
1 / 10
وتحدّث عمر بن شبّة قال «١»: بينما ابن عباس فى المسجد الحرام وعنده ناس من الخوارج وابن الأزرق يسائلونه إذ أقبل عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة فقال:
أنشدنا، فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجّر
حتى جاء على آخرها. فأقبل عليه ابن الأزرق فقال: تالله «٢» يابن عباس، إنا نضرب إليك أكباد الإبل عن أقاصى البلاد لنسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل علينا، ويأتيك مترف من مترفى قريش فينشدك:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وأمّا بالعشىّ فيخسر
فقال ابن عبّاس: ليس هكذا. قال: فكيف قال؟: فأنشده:
رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأمّا بالعشىّ فيخصر
فقال: ما أراك إلّا وقد حفظت هذا البيت، قال: نعم! وإن شئت أن أنشدك القصيدة كلّها كما [أنشدك] أنشدتك، قال: نعم، فانّى أشاء، فأنشده القصيدة حتى جاء على آخرها، ثم أقبل على عمر فقال: أنشد، فأنشده: «٣»
تشطّ غدا دار جيراننا
فقال ابن عباس:
وللّدار بعد غد أبعد
فقال: كذا قلت! قال: كذا يكون- إن شاء الله- فاضطرب ابن أبى ربيعة وخجل، فقال له ابن عباس: إنما عنيت أنّك أنت قلته، قال: يا عمّ، فكيف علمت؟
فقال: لا يكون بعد هذا إلّا ذا.
1 / 11
ويروى أنّ أعرابيّا سأله عن قول الشاعر «١»:
لذى الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلّا ليعلما
من الّذى قاله؟ ومن عنى به؟ قال: عمرو بن حممة الدوسىّ، قضى على العرب ثلاثمائة سنة وهو ابن سبعين، فألزموه السادس من ولد ولده حيث كبر، فجعل بينه وبينهم أمارة إذا اختلط أن يقرع له العصا ليرتدع. فذلك قول المتلمّس:
لذى الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
ويروى أنّ رسول الله صلّى الله عليه سمع كعب بن مالك بن أبى كعب الأنصارىّ ينشد «٢»:
ألا هل أتى غسّان عنّا ودوننا ... من الأرض خرق غوله متتعتع «٣»
مجالدنا عن جذمنا «٤» كلّ فخمة ... مدرّبة «٥» فيها القوانس تلمع
فقال صلى الله عليه: لا تقل عن «جذمنا» وقل «عن ديننا» . فكان كعب يقرأ كذلك ويفتخر بذلك، ويقول: ما أعان رسول الله صلى الله عليه أحدا فى شعره غيرى.
وحدثنى الرياشىّ فى إسناد قال: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه المدينة اجتمعت عليه الأنصار، وجعلوا يخبرونه عن أمورهم، قال: وأنشده حسّان «٦»:
وقد أروح أمام الحىّ منتطقا ... بصارم مثل لون الملح قطّاع
1 / 12
يدفع عنى ذباب السيف سابغة ... موارة مثل مور النّهى بالقاع
فى فتية كسيوف الهند أوجههم ... لا ينكلون إذا ما ثوّب الداعى
قال: ورسول الله صلّى الله عليه يتبسّم، فظنّ أن تبسّمه لما يسمع من وصفه مع ما هو عليه من جبنه. وذكر الزبير أن قومه كانوا يدفعون أن يكون جبانا، ولكنه أقعده عن الحرب أنّ أكحله قد قطع، فذهب منه العمل فى الحرب، وأنشد الزبير قول حسّان «١»:
أضرّ بجسمى مرّ الدّهور ... وخان قراع يدى الأكحل
وقد كنت أشهد وقع الحروب ... ويحمرّ فى كفّى المنصل
ورثنا من المجد أكرومة ... يورّثها الآخر الأوّل
وحدّثت عن الأصمعى قال: الدليل على أن حسّانا لم يكن جبانا من الأصل أنه كان يهاجى خلقا فلم يعيّره أحد منهم.
وكان أبو بكر الصديق رحمة الله عليه- فيما يروى- شاعرا، وعمر شاعرا، وعلىّ أشعر الثلاثة. وينشد لعلىّ ﵇ «٢»:
فلو كنّا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كلّ حىّ
ولكنّا إذا متنا بعثنا ... فنسأل بعد ذا عن كل شىّ
وكانت عائشة رحمها الله تفسر قول رسول الله صلّى الله عليه: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه (من الورى) خير له من أن يمتلىء شعرا. قالت: يعنى الهجاء منه.
1 / 13
وسمع أبو بكر يوما قول لبيد «١»:
أخا لى أمّا كل شىء سألته ... فيعطى وأمّا كلّ ذنب فيغفر
فقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه.
وحدّثنى الريّاشىّ قال: أنشد منشد أبا بكر قول زهير فى هرم بن سنان:
أن نعم معترك الجياع إذا ... خبّ السفير وسابئ الخمر «٢»
ولنعم حشو الدّرع أنت إذا ... دعيت نزال ولجّ فى الذّعر
ومرهّق النّيران يحمد فى ال ... لأواء غير ملعّن القدر
وجعل أبو بكر ﵀ يقول عند كلّ بيت: ذاك رسول الله، حتى أنشده:
والسّتردون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر
أى يكون لك سترا دون الفاحشات من دون الخيرات. فقال: هكذا كان والله رسول الله صلى الله عليه. ثم قال: أشعر شعرائكم زهير.
باب منه [أخبار وأحاديث]
قال «٣» محمد بن على بن الحسين بن على- صلوات الله عليهم: إن الله جلّ وعزّ- أدّب محمدا صلّى الله عليه أحسن الأدب، فقال ﵎:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ.
فلمّا قبل عن ربّه جلّ وعزّ، وعمل بما أمره به ربّه أثنى عليه فقال:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
1 / 14
وقال «١» صلّى الله عليه: أوصانى ربّى بتسع خصال: الإخلاص فى السرّ والعلانية، والعدل فى الرّضا والغضب، والفضل «٢» فى الفقر والغنى، وأن أعفو عمّن ظلمنى، وأعطى من حرمنى، وأصل من قطعنى، وأن يكون نطقى ذكرا، وصمتى فكرا، ونظرى عبرا،،.
وقال أنس بن مالك: لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه المدينة جاءت بى أمّى إليه فقالت: يا رسول الله، هذا ابنى جئتك به ليخدمك، فخدمته عشر سنين ما سمعته قال أفّ قطّ، ولا قال فى شىء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال فى شىء لم أفعله: لم لم تفعله؟ فلما كانت السنة الّتى توفّى فيها رسول الله صلى الله عليه جاءته أمّى، فقالت: يا رسول الله خادمك أنس تدعو الله له، فقال:
اللهمّ أطل عمره، وكثّر ولده وماله، واغفر له. فقال أنس: قد دفنت من ولدى مائة إلّا اثنين، أو مائة واثنين، وغلّتى تأتينى فى السّنة مرتين. وبلغ سنّه مائة سنة وسنين بعد ذلك لم يعدّه، وخلّف من الولد عددا كالقبيلة الوافرة. قال أنس:
وإنى لأرجو الله فى الدعوة الرابعة. ولم يسأل صلى الله عليه الله ﷿ شيئا فمنعه.
ويروى أنه نظر إلى عصابة قادمة من الأعراب ولم يكن عنده فى ذلك الوقت شىء يقسمه بينهم، فتناوله بعضهم بما كرهه، فجاءوه فقالوا: يا رسول الله الله اقتصص منا، فقال ﵇: لا أفعل.
وقال صلّى الله عليه لوافد وفد عليه، فسأله عن شىء فكذبه: أسألك فتكذبنى! لولا سخاء فيك ومقك الله عليه لشردت بك من وافد القوم.
1 / 15
وقدم عليه علىّ بن أبى طالب رضوان الله عليه بأسراء، فأمر بقتلهم إلّا واحدا منهم، فقال علىّ: يا رسول الله، الرب واحد، والدين واحد، فما بال هذا من بينهم؟ فقال: إن جبرئيل أمرنى عن الله ﵎ بترك هذا لسخاء فيه شكره الله له.
ولما دخل المدينة قال لبنى سلمة «١»: من سيّدكم؟ قالوا: جدّ بن قيس، على بخل فيه. فقال ﵇: وأى داء أدوى من البخل؟ لا يسود البخيل، بل سيّدكم الأبيض الجعد عمرو بن الجموح،، ويقال: بشر بن البراء «٢» . وجاء فى الحديث أن رجلا سأله ﵇ أىّ الأعمال أفضل؟ قال: «حسن الخلق» .
وسئلت عائشة رحمة الله عليها عن خلق رسول الله صلى الله عليه فقالت:
أو ما تقرءون القرآن: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه مع أصحابه فصنعت له طعاما، وصنعت له حفصة طعاما، وسبقتنى، فقلت لجاريتى: اذهبى فأكفئ قصعتها، فلحقتها وقد أهوت أن تضعها بين يدى رسول الله صلّى الله عليه فكفأتها، فانكسرت القصعة، وانتشر الطعام، فجمعها رسول الله صلّى الله عليه وما فيها من الطعام على نطع فأكلوا، ثم بعثت قصعتى إلى حفصة فقلت: خذوا هذه ظرفا مكان ظرفكم فكلوا ما فيها. قالت: فما رأيت ذلك فى وجه رسول الله صلّى الله عليه.
وجاءه رجل فقال: يا رسول الله أوصنى، فقال: عليك بتقوى الله واليأس عما فى أيديهم، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وإذا صليت فصلّ صلاة مودّع
1 / 16
وإياك وما يعتذر فيه «١»،،. فقال: زدنى، قال: «حسن الخلق وصلة الرّحم يزيدان فى العمر» . وروى عنه أنه قال: «من أقال نادما ببيع أقال الله عثرته، ومن سعى فى حاجة أخيه كان الله معه» . وقال ﵇: «إن من الصدقة- أو قال:
من المعروف- لفضل لسانك تعبّر به عن أخيك» . وقال ﵇:
«لعن الله المثلّث» . قيل: وما المثلّث؟ قال: «الذى يسعى بجاره «٢» إلى سلطانه، فقد أهلك نفسه وجاره وسلطانه» .
وروى محمد بن علىّ بن الحسين ﵈ قال: [قال] رسول الله ﵇: «اهتبلوا عثرات الكرام» . يقول: اغتنموا أن يعثروا فتصفحوا عنهم.
وقال ﵇: «لا يزال المرء فى فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» .
وروى عن أمير المؤمنين ﵇ أنه قال: من أخذه الله بمعصيته فى الدنيا فالله أكرم من أن يعيدها عليه فى الآخرة، ومن عفا عنه فى الدنيا فالله أكرم من أن يأخذه بها فى الآخرة. فيقال إن هذا أحسن حديث روى فى الإسلام.
وروى أنه لما همّ رسول الله صلّى الله عليه بتزويج فاطمة عليّا رحمهما الله أمر بجمع المهاجرين والأنصار، ثم قال لعلىّ ﵇: «تكلّم خطيبا لنفسك» .
فقال: الحمد لله حمدا يبلغه ويرتضيه، وصلّى الله على نبيه صلاة تزلفه وتحظيه، والنكاح مما أمر الله تعالى به، واجتماعنا مما قدّره الله وأذن فيه، وهذا محمد بن عبد الله رسول الله صلّى الله عليه زوّجنى ابنته فاطمة على خمسمائة درهم، وقد رضيت، فاسألوه واشهدوا.
1 / 17
ويروى أن أبا طالب خطب «١» لتزويج رسول الله صلّى الله عليه خديجة بنة خويلد رحمها الله فقال: الحمد لله الذى جعلنا من زرع إبراهيم، ومن ذرّية إسماعيل، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكّام على الناس فى محلّنا الذى نحن فيه، ثم إن ابن أخى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب لا يوزن برجل من قريش إلّا رجح به، ولا يقاس به شىء إلا عظم عنده، وإنه وإن كان فى المال قلّ فإن المال بعد رزق جار، وله فى خديجة رغبة، ولها فيه تلك، والصداق ما سألتموه عاجله وآجله فمن مالى، وله والله خطر «٢» عظيم، ونبأ شائع جسيم.
باب نوادر من غريب ولغة
حدّثنى المازنىّ قال حدّثنى الأصمعىّ قال سمعت أعرابيّا يقول: جاءت فقيم تفايش بقبائلها «٣»، أى تفاخر، كما قال جرير «٤»:
ولا تفخروا إن الفياش بكم مزر
وحدّثنى الأصمعىّ قال: سيف قساسىّ: منسوب إلى معدن، وأنشدنى لرجل يصف معولا:
أخضر من معدن ذى قساس «٥» ... كأنه فى الحيد ذى الأضراس «٦»
يرمى به فى البلد الدهاس «٧»
1 / 18
وأنشدنى أبو عثمان «١»:
لو عرضت لأيبلىّ «٢» قسّ ... أشعث فى هيكله مندسّ
حنّ إليها كحنين الطسّ
جاء به على الأصل، وذلك أن أصله الطسّ، وإنّما التاء بدل من السين، كما قالوا: ستّة، وأصله سدسة، وجمع السدس أسداس مبنىّ عن أصله، والسدس مبنىّ عن ستّة، والطّست يجمع على طساس، ويصغّر على طسيسة.
وأنشدنى أبو عثمان المازنى «٣»:
وما البتوت «٤» غير صوف بحت ... مصبوغة ألوانها بالزّفت
فضمّ الزاى، كقولهم: الضعف والضعف، والفقر والفقر.
ويقال: قلوت الإبل إذا سقتها سوقا شديدا، ودلوتها إذا هوّنت عليها السير، وأنشدنى عن أبى زيد «٥»:
لا تقلواها وادلواها دلوا ... إنّ مع اليوم أخاه غدوا
وأخبرنى الرياشىّ عن الأصمعىّ، يقال: حبض السهم إذا قصّر عن الهدف ثم سقط، وأنشد:
والنّبل تهوى خطأ أو «٦» حبضا
1 / 19
وقال أبو زيد: حبض السهم إذا خرج عن الوتر فوقع بين يدى الرامى، والناقر:
السهم الذى يصيب الهدف ثم يسقط، والعاصد: المائل عن الهدف، والحابض:
الذى يقع قدّام الرامى، والقاصر: الذى يقصر عن الهدف، والزالج: الذى يصيب الأرض ثم يرتفع فيصيب الهدف، والمعظعظ «١»: الذى يمرّ ملتويا غير مستقيم، وأنشدنى التّوزىّ لعنترة:
وعظعظ ما أعدّ من السهام
ويقال: فوّق له بسهم، وأفوق له بسهم إذا وضعه فى الوتر. قال المازنىّ:
قال أبو زيد: أصابه سهم غرب وسهم غرب، والغرب: الذى يأتيك من حيث لا تدرى، فأمّا سهم غرب فإذا رمى غيره فأصابه، والغرب: الذى يرمى غيره فأصابه هو.
يقال: خبرت الطعام إذا خلطته بدسم، وسمرته إذا أعريته من ذاك.
قال رجل من الأعراب لأمرأته: عليك بهذا الطعام فاخبريه ولا تسمريه.
والخبرة: الدسم، والسمار: اللبن الرقيق، يقول: اجعلى فيه دسما ولا تجعلى فيه سمارا.
والخبرة أيضا: النصيب من الجزور «٢» وأنشد:
إذا ما جعلت العنز «٣» للقوم خبرة ... فشأنك إنّى عامد لشؤونى
اى إذا ما فرغت «٤» من طعام الضيف فافعلى ما شئت.
ويقال: الجاثى على ركبتيه، والجاذى على ركبتيه ورجليه قائما، وأنشد:
لقد طالما جرّبتنى فوجدتنى ... على مركب «٥» السّوء المذلة جاذيا
1 / 20