فلما نزل عمر بإيلياء واطمأن الناس، بعث أبو عبيدة إلى أهل إيلياء: أن انزلوا إلى أمير المؤمنين فاستوثقوا لأنفسكم، فنزل إليه أبو الجعبة في ناس قليل من عظمائهم، فكتب لهم عمر كتاب الأمان والصلح، فلما قبضوا كتابهم وأمنوا دخل الناس بعضهم في بعض.
وأقام عمر أياما ثم قال لأبي عبيدة: لم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزارني غيرك. فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، إني أخاف أن أستزيرك فتعصر عينيك في شيء. قال: فاستزرني. قال: فزرني. فأتاه عمر في بيته، فإذا ليس في بيته شيء إلا لبد فرسه، وإذا هو فراشه وسرجه، وإذا هو وساده، وإذا كسر يابسة في كوة بيته، فجاء بها فوضعها على الأرض بين يديه، وأتاه بملح جريش، وكوز خزف فيه ماء، فلما نظر عمر إلى ذلك بكى ثم التزمه، قال: أنت أخي، وما من أحد من أصحابي إلا وقد نال من الدنيا ونالت منه غيرك. فقال له أبو عبيدة: ألم أخبرك أنك ستعصر عينيك.
قال: ثم إن عمر قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أهل الإسلام إن الله قد صدقكم الوعد، ونصركم على الأعداء، وورثكم البلاد، ومكن لكم في الأرض، فلا يكونن جزاؤه منكم إلا الشكر، وإياكم والعمل بالمعاصي؛ فإن العمل بالمعاصي كفر النعم، وقل ما كفر قوم ما أنعم الله عليهم ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم، وسلط [عليهم] عدوهم. ثم نزل وحضرت الصلاة فقال: يا بلال ألا تؤذن لنا رحمك الله. قال بلال: يا أمير المؤمنين، ما أردت أن أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن سأطيعك إذ أمرتني في هذه الصلاة وحدها. فلما أذن بلال وسمعت الصحابة صوته، ذكروا نبيهم صلى الله عليه وسلم فبكوا بكاء شديدا، ولم يكن من المسلمين يومئذ أطول بكاء من أبي عبيدة ومعاذ بن جبل، حتى قال لهما عمر: حسبكما رحمكما الله. فلما قضى صلاته انصرف أمير المؤمنين راجعا إلى المدينة.
Page 62