Explanation of the Three Fundamental Principles

Abd al-Rahman bin Nasir al-Barrak d. Unknown

Explanation of the Three Fundamental Principles

شرح الأصول الثلاثة

Publisher

سلسلة منشورات مؤسسة شبكة نور الإسلام

Genres

شرح الأصول الثلاثة للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ﵀ تأليف فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك أعد أصله اللجنة العلمية بشبكة نور الإسلام راجعه وقرأه على المؤلف عبدالرحمن بن صالح السديس

1 / 3

بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله﴾ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ [آل عمران: ١٠٢]﴾ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا﴾ [النساء:١]﴾ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما﴾ [الأحزاب:٧٠،٧١] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فهذا شرح مختصر على " الأصول الثلاثة " للشيخ محمد بن عبد الوهاب، شرح الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، ألقاه في أحد مساجد في مدينة الرياض، رغبت مؤسسة "شبكة نور الإسلام" بمراجعته وعرضه على الشيخ لإقراره وتعديله وإخراجه على صورة كتاب مقروء؛ ليعم به النفع. وكان المنهج الذي سلك في هذا الشرح كما يلي: ١ - مراجعة النص والتأكد منه. ٢ - تهيئته وتنسيقه ليتناسب مع الطباعة.

1 / 5

٣ - عزو الآيات إلى أماكنها من المصحف. ٤ - تخريج الأحاديث وذلك باختصار، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفي بذلك، وإن كان في غيرهما فإنه يقتصر في الغالب على الكتب الستة، مع ذكر كلام المحدثين في صحة الحديث وضعفه، ولا يستقصى ذلك. ٥ - عزو الأقوال إلى قائليها وأماكنها. ٦ - ضبط المتن على طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود، وجعله بين قوسين، بلون أحمر. ٧ - قراءة الشرح على الشيخ؛ لتعديل أو حذف أو إضافة أو إصلاح ما يراه مناسبا. وفي الختام نحمد الله ﷻ أن يسر إتمام خدمة هذا الكتاب، ونسأل الله أن نكون قد وفقنا لهذه الغاية، وبالله التوفيق فهو نعم المعين. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. المكتب العلمي في شبكة نور الإسلام www.islamlight.net

1 / 6

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀ في هذه الرسالة القيمة المعروفة بـ"الأصول الثلاثة": (اعلم رحمك الله) هذا خطاب لطالب العلم، والمعنى: تعلم، واجتهد في العلم. وقوله: (رحمك الله) هذا من تلطف الشيخ بطلاب العلم بالدعاء لهم، ومن ﵀؛ أفلح وسعِد، ونال خير الدنيا والآخرة. وقوله: (أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل) أي: أربع مسائل يجب علينا معرفتها. (الأولى: العلم) والعلم منه ما هو فرض عين على كل مكلف، ومنه ما هو فرض كفاية. (وهو: معرفة الله) بأسمائه وصفاته، (ومعرفة نبيه) محمد ﷺ، (ومعرفة دين الإسلام بالأدلة). وهذه المعارف الثلاثة هي: الأصول الثلاثة التي سيتكلم عنها الشيخ إجمالًا وتفصيلًا. (الثانية: العمل به.)؛ لأن هذا هو المقصود من تعلم العلم، وليس المقصود مجرد تحصيل معلومات في الذهن، وإنما المقصود بالعلم الشرعي: هو تحقيق الإيمان، والعمل الصالح؛ فالعلم بلا عمل يكون وبالًا على صاحبه، وحجة عليه - نعوذ بالله ـ. (الثالثة: الدعوة إليه.) فإذا اجتهد الإنسان وحصَّل علمًا، وعمل به

1 / 7

فعليه - أيضًا - أن يُعلِّم، ويدعو، ويأمر وينهى، وينفع الآخرين؛ لأنَّ هذه وظيفة الرسل وأتباعهم. (الرابعة: الصبر على الأذى فيه.) لأن من تصدى لدعوة الناس وأمرهم ونهيهم عمَّا تعودوه؛ لابد أن يحصل له منهم أذى بالكلام وبالفعل، فلابد له من الصبر على ذلك، وهكذا قال الله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ [الأنعام:٣٤]. فالصبر هو أساس القيام بالمهمات والأعمال الصالحة. قال الشيخ: (والدليل) على هذه المسائل (قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:١ - ٣]) فهذه السورة ثلاث آيات: الأولى قوله تعالى: " ﴿وَالْعَصْرِ﴾ " وهذا قسمٌ من الله، والله ﷾ يقسم بما شاء من خلقه، والعصر هو: الدهر المكون من الليالي والأيام، والشهور والأعوام (١)، وهو عمر الإنسان، وهو ميدان العمل. الآية الثانية: قوله تعالى: " ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ﴾ " هذا هو المقسم عليه، و"الـ" هنا للجنس، والمعنى: أن كل إنسان في خسارة، والخُسر: ضد الربح، إلا من استثنى الله بقوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ فمن حقق هذه الأركان الأربعة؛ فاز بالربح العظيم، ونجا من الخسران؛ فحظ الإنسان من الربح بحسب حظه من هذه الخصال الأربعة. ﴿إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُوا﴾ والإيمان لا يكون إلا بعلم، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾

(١) جامع البيان: (١٥/ ٢٨٩).

1 / 8

وهذا ثمرة العلم والإيمان، فمن رزقه الله العلم والإيمان؛ عمِلَ الصالحات. ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ﴾ أي: نصح بعضهم بعضًا، وذكَّر بعضهم بعضًا، والحق: يشمل العلم والإيمان، والعمل الصالح. ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ وأوصى بعضهم بعضًا بالصبر. والتواصي بالحق والتواصي بالصبر هما من جملة العمل الصالح، وهو يدخل في الإيمان، فهذه الأمور الأربعة بعضها يدخل في بعض، فعطف الأعمال الصالحة على الإيمان، وعطف التواصي على عمل الصالحات، كلها من عطف الخاص على العام. فدلت هذه السورة على المسائل الأربع التي ذكرها الشيخ: ١. مسألة العلم يدل لها قوله تعالى: ﴿إلاَّ الَّذِينَ ءامَنُوا﴾. ٢. ومسألة العمل يدل لها قوله تعالى: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. ٣. ومسألة الدعوة يدل لها قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ﴾. ٤. ومسألة الصبر يدل لها قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. (قال الشافعي رحمه الله تعالى) الإمام المعروف محمد بن إدريس أحد الأئمة الأربعة المتبوعين. (لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم (١». ومراده أنها سورة موجزة مختصرة، إلا أن لها دلالة عظيمة، حيث إنها دلت على أن الناس فريقين: خاسر ورابح، وفيها ذِكر أسباب الربح والفوز والفلاح. (وقال البخاري رحمه الله تعالى) الإمام محمد بن إسماعيل صاحب

(١) ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة ص ٤٨٢، وابن كثير في تفسيره: ١/ ٢٠٥ بنحوه.

1 / 9

الصحيح في كتابه: "الجامع الصحيح " في "كتاب العلم": (بابٌ: العلمُ قبل القول والعمل. والدليل قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ [محمد:١٩] (١» فأمر الله أولًا: بالعلم بالتوحيد ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلا اللَّهُ﴾، ثم أمر ثانيًا: بالاستغفار فقال: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ وهو من العمل. قال الشيخ: (فبدأ بالعلم قبل القول والعمل) أي: بدأ الله في الآية بالعلم قبل القول والعمل، وهو: الاستغفار. يقول الشيخ ﵀: (اعلم رحمك الله) هذا من جنس ما قبله. (أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن). معناه: أن العلم بمسائل الدين فرض على كل مسلم ومسلمة، على الرجال والنساء، فرض عين أو كفاية، قال الله تعالى:﴾ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:٩٧]. (الأولى): أي: المسالة الأولى من المسائل الثلاث أن نعلم (أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملًا)، أي مهملين لا نؤمر ولا نُنهى، ولا نسير على منهج قويم، (بل) إنه ﷾ قد (أرسل إلينا رسولًا) بالهدى ودين الحق (فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار). هذه المسألة الأولى ومعناها: الإقرار بتوحيد الربوبية، ومن ربوبيته تعالى إنعامه على عباده، وأعظم نعمه على عباده إرسال الرسل، وإنزال الكتب لتعريف العباد بربهم، وبحقه عليهم. قال: (والدليل) على هذه المسألة: (قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ [المزمل:١٥ - ١٦]) فاستدل على الرسالة بقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا﴾ أي: أرسل تعالى إلى الناس محمدا ﷺ

(١) صحيح البخاري ١/ ٢٤ بنحوه.

1 / 10

﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ وهو: موسى وهارون ﵉ ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ أي: كذَّب فرعونُ موسى وهارون، ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى﴾ [النازعات:٢٤،٢٣]، قال الله: ﴿فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ أخذه الله أخذا وبيلا، أي: شديدا؛ بأن أغرقه وجنوده في البحر، ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخرة والأولى﴾، فالمعنى: فاحذروا أن تكذبوا رسولكم فيأخذكم كما أخذ فرعون. والدليل على أن الله خلقنا ورزقنا قوله تعالى:﴾ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾ الآية [الروم:٤٠]. (الثانية: أن الله لا يرضى أن يُشرَك معه أحد في عبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل). وهذه المسألة هي مسألة توحيد العبادة، وهو: إخلاص الدين لله، وإفراد الله بالعبادة، وصرف جميع أنواع العبادة له ﷾، فلا يجوز أن يُشرك معه في عبادته، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وما دونهما من باب أولى. (والدليل قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن:١٨]). فنهى عن دعاء غيره سبحانه. فتضمنت المسالة الأولى توحيد الربوبية، وتضمنت المسالة الثانية توحيد العبادة، ولا يكون الإنسان مسلما حتى يقر بالتوحيدين جميعا، فلا يكفي الإقرار بتوحيد الربوبية، فقد أقر به المشركون ولم يدخلهم في الإسلام. المسألة (الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحَّد الله) أن من أطاع الرسول كما في المسألة الأولى، ووحد الله كما في المسألة الثانية (لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب) لا يجوز له أن يحب أعداء الله، وأن يحتفي بهم، وأن يكرمهم وأن يعظمهم، فلا تجوز موالاة من حاد الله ورسوله من الكفار والفجار، والمحادَّة تطلق على:

1 / 11

المعاداة والمخالفة الشديدة، ويُعبَّر عنها بالمشاقَّة، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر:٤]. (والدليل قوله تعالى: ﴿لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة:٢٢]). لا تجد قوما مؤمنين يوالون الكافرين؛ لأنَّ الإيمان يمنع من ذلك، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء﴾ [المائدة:٨١]؛ ولكنهم لا يؤمنون بهذه الثلاثة؛ فاتخذوهم أولياء، وهذا الكلام يعود إلى الذين قال الله فيهم: ﴿تَرَى كَثِيرًا مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [المائدة:٨٠]، وهنا قال: ﴿لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ فإذا وجدنا من يواد ويوالي ويعظم الكافرين المحادين لله ورسوله؛ علمنا أنه ليس بمؤمن، لأنَّ المؤمنين لا يكونون كذلك، قال الله: ﴿وَلَوْ كَانُوا ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ﴾ وقال في آية أخرى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا ءابَاءكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [التوبة:٢٣]، ﴿وَلَوْ كَانُوا ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ﴾. فهؤلاء المؤمنون الصادقون المعادون لأعداء الله؛ هم الذين كتب الله الإيمان في قلوبهم، ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾ وهؤلاء هم حزب الله، وحزب الله هم المفلحون، وقد ذكر الله هؤلاء في مقابل حزب الشيطان، وهم: الكفار والمنافقون الذين قال الله فيهم: ﴿يَوْمَ

1 / 12

يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة: ١٨ - ١٩] هما حزبان، فعاقبة حزب الشيطان الخسارة، وعاقبة حزب الرحمن الفلاح والفوز، والظفر بالمطلوب والمحبوب والنجاة من المرهوب. ثم قال الشيخ: (اعلم) أمر بالعلم وفيه توجيه وتنبيه وتعليم، (أرشدك الله لطاعته): أي: وفقك وهداك الله لطاعته، وهذه عادة الشيخ يصدر بعض الدروس بالدعوة لطالب العلم. (أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله وحده مخلصًا له الدين). الحنيفية نسبة إلى الحنيف، والله ﷾ وصف إبراهيم ﵇ بأنه حنيف، قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾ [النحل:١٢٠]، وجاء في الحديث: " بُعثت بالحنيفية السمحة " (١) قال ﷾: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:١٢٣]، فالملة الحنيفية ملة إبراهيم هي: عبادة الله وحده لا شريك له، بإخلاص الدين له ﷾. يقول الشيخ: (وبذلك أمر الله جميع الخلق، وخلقهم لها.) أمر الله جميع الناس بإخلاص العبادة له، كما قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة:٢١] إلى قوله: ﴿فَلاَ تَجْعَلُوا للَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، فالله أمر جميع الناس أن يعبدوه وحده لا شريك له، وقال سبحانه في الآية الأخرى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء:٣٦]، وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الْطَّاغُوتَ﴾ [النحل:٣٦]، وقد خلق الله الجن والإنس ليعبدوه

(١) أخرجه أحمد ٥/ ٢٦٦ من حديث أبي أمامة ﵁، وضعفه ابن رجب في فتح الباري ١/ ١٤٩، والعراقي في المغني ٤/ ٢٣٤، وانظر: المقاصد الحسنة (٢١٤) فقد ذكر له عدة شواهد.

1 / 13

وحده لا شريك له (كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذّاريات:٥٦].) قال الشيخ: (ومعنى يعبدون: يوحدون) أي يعبدوه ﷾ وحده لا شريك له، والعبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، فإذا دخلها الشرك أفسدها، ولم تكن عبادة، فمن عبد مع الله غيره فإنه لا يعد عابدًا لله. قال الشيخ: (وأعظم ما أمر الله به التوحيد) فأوجب الواجبات على الإطلاق هو توحيد الله بالعبادة، وهذا هو معنى "لا إله إلا الله"، وهي أول واجب على العبد. وأعظم الذنوب هو الشرك الأكبر، ويختص من بين سائر الذنوب بثلاثة أشياء: أولًا: أنه لا يُغفر ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء:٤٨]. ثانيا: أنه يحبط جميع الأعمال، فمن عبد مع الله غيره حبطت سائر أعماله. ثالثا: أنه موجب للخلود في النار لمن مات عليه، فمن مات على الشرك الأكبر؛ فهو مخلد في النار، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة:٦]. قال الشيخ: (وهو) أي: التوحيد (إفراد الله بالعبادة). (وأعظم ما نهى عنه الشرك، وهو دعوة غيره معه) واتخاذ الند له، قال ابن مسعود ﵁: سألت النبي ﷺ أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندًا وهو خلقك " (١) أي: مِثلًا. (والدليل) على هذا (قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ

(١) أخرجه البخاري (٤٤٧٧)، ومسلم (٨٦).

1 / 14

شَيْئًا﴾ [النساء:٣٦]). فأمر بعبادته ونهى عن الشرك به، فيجب على كل مسلم أن يجتهد في تحقيق التوحيد، وأن يحذر من الشرك الأكبر، يقول ابن القيم: والشركُ فاحذره فشركٌ ظاهرٌ ** ذا القسم ليس بقابلِ الغفرانِ وهو اتخاذ الند للرحمن أيـ ** ـًا كان من حجر ومن إنسان يدعوه بل يرجوه ثم يخافه ** ويحبه كمحبة الديان (١) يقول الشيخ ﵀: (فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمدًا ﷺ) هذه هي الأصول التي سميت بها هذه الرسالة "الأصول الثلاثة" أو "ثلاثة أصول"، وهي أصول العلم الشرعي، أو أصول المعرفة الصحيحة. الأصل الأول: معرفة العبد ربه: بأنه الله الخالق لكل شيء المتفضل على عباده بجميع النعم، المستحق للعبادة. الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ﷺ بما يشتمل عليه من عقائد وأحكام. الأصل الثالث: معرفة النبي محمد ﷺ أنه رسول من عند الله إلى الناس كافة جاء بالهدى ودين الحق. وهذه الأصول الثلاثة هي التي يُسأل عنها الإنسان في قبره، وهي فتنة القبر، فإذا وضع الميت في القبر: " يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول ربي الله فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ " قال: " فيقول: هو رسول الله ﷺ، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء أن قد صدق عبدي فافرشوه من الجنة

(١) الكافية الشافية ص ١٨٩.

1 / 15

وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة " قال: " فيأتيه من روحها وطيبها " قال: " ويفتح له فيها مد بصره " قال: " وإن الكافر " فذكر موته قال: " وتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب فافرشوه من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار " قال " فيأتيه من حرها وسمومها " قال: " ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه" (١). ويمكن أن يقال عن هذه الأصول الثلاثة: معرفة الرسول والمرسل والرسالة، فالله هو المرسِل، ومحمد رسوله، ودين الإسلام هو الرسالة التي جاء بها. وقد ذكر الشيخ هذه الأصول مجملة، وسيتكلم عنها بالتفصيل واحدا واحدا بطريقة السؤالِ والجوابِ، وطريقةُ السؤال والجواب طريقة تعليمية جيدة ومفيدة. ثم شرع الشيخ- رحمه الله تعالى - في تفصيل الأصل الأول فقال: (فإذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني) أي خلقني وأنشأني (وربى جميع العالمين بنعمه) فهو المنعم على العباد بكل ما لديهم من النعم ﴿وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل:٥٣]، وهذا المعنى مأخوذ من معنى الرب، فالرب - كما سيأتي - من معناه: المالك والمنعم، والمعبود. قال: (وهو معبودي ليس لي معبود سواه، والدليل قوله تعالى:

(١) رواه أحمد ٤/ ٢٨٧، وأبو داود (٤٧٥٣)، وصححه ابن خزيمة في التوحيد ص ١١٩، وابن جرير في تهذيب الآثارـ مسند عمر ﵁ - ٢/ ٤٩١ -، من حديث البراء ﵁ مطولا، وصححه - أيضا - ابن القيم في الروح ص ٨٨.

1 / 16

﴿الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢]) الشاهد قوله: "رب العالمين"، ﴿الْحَمْدُ للَّهِ﴾ الثناء كله يستحقه هو ﷾، وهو ﴿رَبّ الْعَالَمِينَ﴾. قال الشيخ: (وكل ما سوى الله عَالَم، وأنا واحد من ذلك العالم) السماوات والأرض وما فيهن عالَم، وقيل: سميت الموجودات عالمًا؛ لأنها علامة على خالقها، ومدبرها ﷾. (فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟) أي: بأي طريقة عرفت ربك (فقل) عرفته (بآياته ومخلوقاته). وأراد الشيخ بقوله: " بآياته ومخلوقاته ": الآيات الكونية، والآياتُ الكونية: هي مخلوقاته، والعطف في قوله "آياته ومخلوقاته " لا يدل على المغايرة في الوصف، فالآيات الكونية مخلوقات. قال: (ومن آياته الليل والنهار، والشمس والقمر، ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهما) ولا يخفى أن الليل والنهار والشمس والقمر هي آيات ومخلوقات، والسماوات والأرض ومن فيهن هي آيات ومخلوقات، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ ءايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاواتِ وَالارْضِ﴾ [الروم:٢٢] ﴿وَفِى الارْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ﴾ [الذّاريات: ٢٠] ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ ءايَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء:٣٢]، فهذه الآيات الكونية. (والدليل قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ءايَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت:٣٧]). إذًا؛ هن مخلوقات، وآيات، أي: علامات على خالقها وصانعها ومحكم نظامها. (وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاواتِ وَالارْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ

1 / 17

وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:٥٤]) فهو خالق هذه العوالم، وله الأمر، فهو الذي يدبر هذه العوالم بأمره ﷾. ومعرفة العباد ربهم بآياته معرفة عقلية؛ لأن من ينظر في هذه الآيات ويتدبرها؛ يدرك أن لها خالقًا، وأن الذي خلقها حكيم وعليم وقدير وعظيم ﷾. والطريق الثاني لمعرفة الله هو: الوحي الذي بعث الله به رسله، فنعرف ربنا بأسمائه وصفاته بما بيَّن لنا في كتابه، ومنها أنه ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِاء الْمُصَوّرُ لَهُ الاسْمَاء الْحُسْنَى﴾ [الحشر:٢٣،٢٤]، هذا تعريف من ربنا لنا بطريق الوحي والشرع، فالله عرَّف عباده بنفسه بآياته الكونية وهي المخلوقات، وبآياته الشرعية وهي آيات القرآن. يقول الشيخ ﵀: (والرب: هو المعبود). والرب الخالق لكل شيء المربي لعباده بنعمه هو المستحق للعبادة ﷾. (والدليل قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢١ - ٢٢]). فأمر الله ﷾ جميع الناس أن يعبدوه ويتركوا عبادة ما سواه، وهذا هو معنى "لا إله إلا الله "، وذكر ﷾ المعاني المقتضية لعبادته وهي: أنه خالقهم وخالق آبائهم وخالق السماوات والأرض، وهو الذي ينزِّل الغيث ويخرج الأرزاق، ومَن هذا شأنه فهو المستحق للعبادة، فقوله: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ هذا يتضمن إثبات العبادة لله، وقوله: ﴿فَلاَ تَجْعَلُوا للَّهِ أَندَادًا﴾ [البقرة:٢٢] يتضمن نفي إلهية من سوى الله؛ لأنه تعالى لا ند له.

1 / 18

(قال ابن كثير رحمه الله تعالى:) المفسر الشهير في "تفسير القرآن العظيم" (الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة) (١). نعم، خالق السماوات والأرض، الذي جعل ﴿السَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ﴾ [البقرة:٢٢] أرزاقا للعباد؛ هو الذي يستحق أن يُعبد، هذا موجَب العقل، فمن عبد مع الله غيره؛ فقد ضل عن الصراط المستقيم، وعدل بالله العظيم مَن ليس مِثله، والله تعالى لا مِثل له، ومن عبد مع الله غيره؛ فقد جعله ندًا لله، ومثيلًا لله. ثم قال الشيخ: (وأنواع العبادة التي أمر الله بها: مثل الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومنه الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى) هذه العبادة بأنواعها كلها لله تعالى ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم﴾ وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾ [الذاريات:٥٦] قال تعالى: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٦]، وقال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة:٥] أي: لا نعبد غيرك. والعبادة أنواع كثيرة: منها أعمال قلبية: مثل: الخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشية. ومنها أعمال ظاهرة: وهي: أعمال الجوارح: كالاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر، ومنها: الركوع والسجود والصيام والحج والجهاد، وهناك أنواع أخرى، وإنما ذكر الشيخ هذه على سبيل المثال ولهذا قال: "وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله " فالعبادة محض حقه ﷾.

(١) تفسير ابن كثير ١/ ١٩٧ بمعناه.

1 / 19

(والدليل قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن:١٨]). السجود والصلاة لله وحده، والمساجد إنما تبنى لعبادته وحده لا شريك له ﴿فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ أي: لا تعبدوا مع الله غيره، ولا تتوجهوا بطلب الحوائج إلا إليه ﴿فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس:١٠٦] ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: ٥٥]. (فمن صرف منها شيئًا لغير الله فهو مشرك كافر)؛ لأنه أشرك بالله، أي: عبد مع الله غيره، وجعله ندًا لله في عبادته. (والدليل قوله تعالى: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون:١١٧]). وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، وقال تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٥]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:٨٨]، فمن صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله؛ فهو مشرك كافر، وعمله حابط. وبعد أن ذكر الشيخ أنواع العبادة ذكر دليل كل واحد منها. قال: (وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة" (١)، والدليل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾ [غافر:٦٠]). والآيات التي فيها الأمر بالدعاء والثناء على الداعين كثيرة، قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف:٥٥]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة:١٨٦]، وفي الحديث: " الدعاء مخ العبادة".

(١) رواه الترمذي (٣٣٧١) من حديث أنس بن مالك ﵁، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.

1 / 20

واستدل الشيخ بالآية والحديث على أن الدعاء من العبادة؛ لأنه تعالى قال في نفس الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى﴾، والحديث الثابت لفظه عن النبي ﷺ: "الدعاء هو العبادة " (١). وقسَّم العلماء الدعاء إلى قسمين (٢): ١. دعاء المسألة، هو الطلب الصريح؛ كقول العبد: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم اهدني، وكما في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾. ٢. ودعاء عبادة، وهي: سائر العبادات. فالصلاة دعاء، والصيام دعاء، والحج دعاء، والذكر كله دعاء، أي: دعاء عبادة، وسميت العبادة دعاء؛ لأن العبد طالب للثواب. قال: (ودليل الخوف قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:١٧٥]) فأمر الله بالخوف منه، وخوف الله من أجَلِّ أحوال القلوب وأفضلها؛ لأنه يمنع صاحبه من الإقدام على معصية الله. وفي معنى الخوف: الخشية والرهبة فمعانيها متقاربة، وكلها جاء ذكرها في القرآن، قال تعالى: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾، وقال تعالى: ﴿فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: ٤٤]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون:٥٧، ٥٨]، وقال تعالى: ﴿فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [النحل:٥١]، والآيات في ذكر الخوف كثيرة. والخوف من الخلق أنواع: منه ما هو شرك، كالخوف من الأوثان والأموات واعتقاد أنهم يعلمون الغيب، وأنهم يؤثرون بالنفع والضر.

(١) رواه أبو داود (١٤٧٩)، وصححه الترمذي (٢٩٦٩) وابن حبان (٨٩٠) من حديث النعمان بن بشير ﵄. (٢) مجموع الفتاوى: (١٠/ ٢٥٨)، وجِلاء الأفهام ص ١٦٠.

1 / 21

ومنه ما هو معصية؛ كالقعود عن الجهاد خوفا من العدو وجبنا، وكترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفا من أذى الناس. وأما خوف الإنسان من الأسباب المؤذية، كخوفه من العدو أو من السبع أو من غير ذلك من الأمور التي تضره؛ فهذا خوف طبيعي لا يأثم به ولا يذم. (ودليل الرجاء قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا﴾ [الكهف:١١٠]) والرجاء: هو الطمع في الفضل والعفو والرحمة. وقد جمع الله بين هذين الوصفين -الخوف والرجاء- في قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء:٩٠]. وقال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السجدة:١٦] والطمع هو: الرجاء. وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء:٥٧]. فالرجاء: هو طلب المحبوب. والخوف: هو الحذر من المرهوب والمكروه، فالخوف من الله: خوف من عذابه ومن سخطه. ومن أنواع العبادة التوكل: وهو اعتماد القلب على الله، وتفويض الأمور كلها إليه. (ودليل التوكل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:٢٣] وقوله: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٣])، وأثنى على المؤمنين بالتوكل: قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:٢].

1 / 22

وهكذا يجب على المؤمن أن يتوكل على الله ولا يتوكل على سواه. قال: (ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:٩٠]. ودليل الخشية قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة:٣].) وتقدم. قال الشيخ: (ودليل الإنابة قوله تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر:٥٤]) والإنابة هي: الرجوع إلى الله في كل الأمور، والإقبال عليه ﷾ بعبادته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. (ودليل الاستعانة قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥]، وفي الحديث: "إذا استعنت فاستعن بالله" (١). ودليل الاستعاذة قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق:١] ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ﴾ [الناس:١]. ودليل الاستغاثة قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال:٩]). فالاستعانة: طلب العون، قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ بمعنى: أطلب العون منك يا الله. والاستعاذة: طلب العياذ والعصمة، تقول: استعيذ بالله، أو: أعوذ بالله، كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ﴾ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ

(١) رواه أحمد ١/ ٢٩٣، والترمذي (٢٥١٦) - وقال: حسن صحيح ـ، والضياء في المختارة ١٠/ ٢٢ - ٢٥، وحسنه الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص ٣٤٥.

1 / 23