Explanation of the Hadith 'I Admire My Close Friends'
شرح حديث «إن أغبط أوليائي»
Investigator
أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني
Publisher
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
Genres
شرح حديث "إن أغبط أوليائي"
2 / 739
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن يا كريم.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
خرَّج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه (١) من حديث أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ (الْحَاذِّ) (٢) ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلَاةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ لَا يُشَارُ لَهُ بِالْأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَقَرَ بِيَدِهِ فَقَالَ: عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، قَلَّتْ بَوَاكِيهِ، قَلَّ تُرَاثُهُ».
_________
(١) أخرجه أحمد (٥/ ٢٥٢)، والترمذي (٢٣٤٧) من طريق عبد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة. وقال الترمذي عن القاسم: وهو شامي ثقة، وعلي بن يزيد ضعيف الحديث.
وأخرجه أحمد (٥/ ٢٥٥) من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الله عن القاسم عن أبي أمامة. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي قلت: ما تراثه؟ قال: ميراثه.
قلت: وليس بن أبي سليم ضعيف. وأخرجه ابن ماجه (٤١١٧) من طريق صدقة بن عبد الله، عن إبراهيم بن مرة، عن أيوب بن سليمان، عن أبي أمامة.
وفي الزوائد: إسناده ضعيف، لضعف أيوب بن سليمان، قال فيه أبو حاتم: مجهول، وتبعه عَلَى ذلك الذهبي في الطبقات وغيرها. وصدقة بن عبد الله متفق عَلَى تضعيفه. اهـ.
قال ابن حبان في المجروحين (٢/ ٦٢ - ٦٣): عبيد الله بن زحر يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبرٍ عبيد الله وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الحبر إلا مما عملته أيديهم. فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة بل التنكب عن رواية عبد الله بن زحر عَلَى الأحوال أولى. وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (٢/ ٦٣٦) من طريق وكيع قال: نا علي بن صالح عن أبي المهلب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا. قال ابن الجوزي: هنا حديث لا يصح عن رسول الله ﷺ فمن وكيع إِلَى أبي أمامة ضعفاء، ومتى اجتمع ابن زحر وعلي بن يزيد والقاسم في حديث لا يبعد أن يكون معمولهم.
(٢) أي: خفيف الظهر من العيال (النهاية ١/ ٤٥٧).
2 / 741
وقال الترمذي: حديث حسن واللفظ له.
ولفظ ابن ماجه: "أغبط الناس عندي" والباقي بمعناه ولم يذكر "نقر بيده".
قوله ﷺ: "أغبط أوليائي عندي" الاغتباط هو: الفرح والسرور والابتهاج بالنعمة سواء كانت عَلَى الإنسان أو عَلَى غيره، محبة لذلك الغير وتهنئة له بما وصل إِلَيْهِ، وسواء كان المغبِط له أعلى منزلة من المغبوط أو مساويًا أو دونه.
فأما مع علو المنزلة فكما في هذا الحديث، وفي حديث: «إن لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ ﷿» (١). وفسرهم بالمتحابين في الله ﷿، وليس المراد أن الأنبياء يتمنون أن يكونوا بمنزلتهم لقصورهم عن درجاتهم، وإنَّما المراد أنهم يبتهجون ويسرون بهم بمكانهم من الله ﷿.
ومن هنا يعلم أن من فسر الغبطة بتمني مثل نعمة المغبوط، من غير زوالها عنه -بخلاف الحسد، فإنَّه تمني زوال نعمة المحسود- ليس ذلك
_________
(١) أخرجه أبو داود (٣٥٢٧)، والبيهقي في "الشعب" (٨٩٩٨) من حديث عمر بن الخطاب، وأخرجه الترمذي (٢٣٩٠) وأحمد (٥/ ٢٢٩، ٢٣٩، ٣٢٨) وغيرهم من حديث معاذ. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه أحمد (٥/ ٣٤١، ٣٤٢، ٣٤٣)، ومعمر بن راشد في جامعه كما في المصنف لعبد الرزاق (١١/ ٢٠٢) برقم (٢٠٣٢٤)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (٣/ ٣٤٣٣) وغيرهم من حديث أبي مالك الأشعرى، وفي الإسناد شهر بن حوشب وهو ضعيف، ولكنه يصلح في المتابعات والشواهد فيعتبر به. وأخرجه النسائي في الكبرى (٦/ ٣٦٢) برقم (١١٢٣٦)، وأبو يعلى في مسنده (٦١١٠)، وابن حبان (٢٥٠٨ - موارد)، والبيهقي في الشعب (٨٩٩٧) من حديث أبي هريرة. وقال البيهقي: وهو وهم -أي حديث أبي هريرة- والمحفوظ عن أبى زرعة عن عمر بن الخطاب، وأبو زرعة عن عمر مرسل، ثم ساق الحديث من طريق أبى زرعة بن عمرو بن جرير عن عمر. ووقع خطأ في المطبوع، فَقَالَ: عن عمرو بن جرير، والصواب: من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير ﴿راجع تخريج الزيلعي للكشاف﴾.
وأخرجه البيهقي في الشعب (٤٠٩) من حديث أنس بن مالك وفي إسناده يزيد الرقاشي وهو ضعيف، ولكنه يعتضد بما قبله، فيصح الحديث ولله الحمد. ولمزيد من التخريج لهذا الحديث راجع تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف بتخريج الإمام الزيلعي برقم (٥٩٩).
2 / 742
عَلَى إطلاقه وإنَّما هي في غبطة الأدنى للأعلى خاصة.
وقوله: "أغبط أوليائي عندي" يشير ﷺ إِلَى أن من كان كذلك فهو من خاصة أوليائه، وأن النبي ﷺ يُسَرُّ بمن كان من أمته عَلَى هذه الصفة، ويفرح به ويهنئه بما حصل له من السعادة، وكذلك جعله النبي ﷺ من أوليائه.
وأولياء رسول الله ﷺ أولياء الله؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (١) وصحَّ عنه ﷺ أنَّه قال: "إن وليي الله وصالح المؤمنين". وفي حديث آخر "إن أوليائي، من كانوا وحيث كانوا".
وكذلك هم أولياء الله ﷿؛ كما قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ (٢) فمن كان أعظم إيمانًا وتقوى فهو أعظم ولاية لله ورسوله ﷺ، فلهذا قال في هذا الحديث: "إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن" والمؤمن إذا أُطلق، لا سيما في مقام المدح، فإنما يراد به: من كمل إيمانه بفعل الواجبات وترك المحرمات، وربما أريد به: من قام بعد ذلك بالنوافل؛ لأنّ ذلك كله داخل في اسم الإيمان.
وقوله: "خفيف الحاذ" فسره الأصمعي بقلة المال. ﴿قال﴾ (*): ابن قتيبة: ويفسر أيضًا بقلة العيال، ويشهد لهذا قول أبي ذر: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُغْبَطُ الرَّجُلِ فِيهِ بِخِفَّةِ الْحَاذِ، كَمَا يُغْبَطُ الْيَوْمَ فِيكُمْ أَبُو عَشْرَةَ» خرجه أبو نعيم وغيره.
وخرَّج ابن عدي (٣) وغيره (٤) من حديث حذيفة مرفوعًا: "خيركم في
_________
(١) المائدة: ٥٦.
(٢) يونس: ٦٢ - ٦٣.
(*) تكررت بالأصل.
(٣) في "الكامل" (٣/ ١٧٧).
(٤) وأخرجه أيضًا أبو يعلى فى "مسنده" كما في "المطالب العالية" (٥/ ١٥) برقم (٤٣٦٥)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (١٠٣٥٠)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (٦/ ١٩٧=
2 / 743
المائتين كل خفيف الحاذ. قالوا: وما خفيف الحاذ؟ قال: الَّذِي لا أهل له ولا ولد". وهو من باب الاستعارة والكناية؛ لأنّ أصل الحاذ هو اللحم كما يقال: خفيف الظهر.
فأما قلة المال: فهو ما يغبط به صاحبه في الدُّنْيَا إذا صبر عَلَى ذلك أو رضي به، وسنذكر ذلك في تفسير قوله: "وكان رزقه كفافًا فصبر عليه" إن شاء الله تعالى.
وأما قلة العيال فهو مما يغبط به المؤمن أحيانًا لاسيما مع فقره وحاجته، ولهذا يقال: "قلة العيال أحد اليسارين". فإن كثرة العيال قد يحمل المؤمن عَلَى طلب الرزق لهم من الوجوه المكروهة، ولهذا وقع في كلام كثير من السَّلف ذم العيال، فكان سفيان الثوري يقول: لا يُعبأ بصاحب عيالٍ، فقلما رأيت صاحب عيال إلا خلط.
وكان يقول: لا أعتد بعبادة رجل له عيال.
_________
=، ١١/ ٢٢٥)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (٣/ ١٩٥).
وسئل أبو حاتم الرازي كما في "العلل" لابنه (١٨٩٠) عن هذا حديث فَقَالَ: هذا حديث باطل.
وسئل أيضًا كما في العلل (٢٧٦٩) عن هذا الحديث فَقَالَ: هذا حديث منكر.
وقال البيهقي: تفرد به رواد بن الجراح العسقلاني عن سفيان الثوري. وقال البخاري: رواد عن سفيان كان قد اختلط، لا يكاد يقوم، ليس له كبير حديث قائم "الميزان" (٣/ ٨٤). وقال الدوري عن ابن معين: لا بأس به -أي: رواد- إِنَّمَا غلط في حديث سفيان. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صاحب سنة لا بأس به، إلا أنَّه حدَّث عن سفيان أحاديث مناكير. وقال الحفاظ: كثيرًا ما يخطئ ويتفرد بحديث ضعّفه الحفاظ فيه وخطّئوه، وهو خيركم بعد المائتين كل خفيف الحاذ. (التهذيب ٣/ ٢٤٩ - دار الفكر).
قال الدارقطني: تفرد به رواد وهو ضعيف، وقد أدخله البخاري في الضعفاء (نقل ذلك ابن الجوزي في الضعفاء).
وقال الخليلي في "الإرشاد" (٢/ ٤٧١) عن رواد "يتفرد بحديث ضعفه الحفاظ في ذلك، ثم ذكر حديث حذيفة بإسناده، وقال: وهذا لا يعرف من حديث سفيان إلا من هذا الوجه وقد خطّئوه فيه.
2 / 744
وقال: لو حدّثت عن ذي العيال أنَّه كفر ما أبعدت.
وقال: صاحب العيال لا يكون ورعًا أبدًا.
وقال: من تزوج فقد ركب البحر، فإن ولد له فقد كُسر المركب.
وقال: كانت لنا هرَّة لا تؤذينا، فلما ولدت كشفت القدور.
وعاتب سفيان رجلًا من كتاب الأمراء عَلَى كتابته معهم، وقال له سفيان: كلما دعي بأمير ممن كتبت له دعيت أنت معه، فسئلت عما جرى عَلَى يدك فأنت أسوؤهم حالًا. فَقَالَ له الرجل: فكيف أصنع بعيالي؛ فَقَالَ سفيان: اسمعوا هذا، يقول إذا عصى الله رُزق عياله، وإذا أطاع الله ضُيع عياله، ثم قال سفيان: لا تقتدوا بصاحب عيال، فما كان عذر من عوتب إلا أن قال: عيالي.
وقال: يؤمر بالرجل إِلَى النار يوم القيامة فيقال: هذا عياله أكلوا حسناته.
ولما ولي شريك قضاء الكوفة هجره سفيان وقال: أي رجل أفسدوه! فَقَالَ شريك: لو كان لسفيان بنات، أفسدوه أكثر مما أفسدوني. ومما يستدل عَلَى فضل قله العيال بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ (١) عَلَى تفسير من فسره بكثرة العيال، ولكن الجمهور عَلَى تفسيره بالجور والحيف، فإن ملك اليمين قد تكثر به الأولاد كثر من الزوجات الأربع، فإنَّه لا ينحصر في عدد.
وكان الإمام أحمد ينكر عَلَى من كره كثرة الأزواج والعيال، ويستدل بحال النبي ﷺ وأصحابه من كثيرة أزواجهم وعيالهم، ويمثل قوله: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (٢) ولكنه يأمر مع
_________
(١) النساء: ٣.
(٢) أخرجه أبو داود (٢٠٥٠)، والنساني في "الكبرى" (٥٣٤٢)، وفي "المجتبى" (٦/ ٦٥)، والطبراني في "الكبير" (٢٠/ ٥٠٨)، وابن حبان في "صحيحه" (٤٠٥٦، ٤٠٥٧ - إحسان)، والبيهقي في "السنن الكبير" (٧/ ٨١) من حديث معقل بن
2 / 745
هذا بطلب الحلال والكسب، والصبر عَلَى الفقر وإن شق، فالإمام أحمد أمر بما جاء الأمر به في الشرع، وسفيان نظر إِلَى قلة صبر الناس إِلَى ما يئول إِلَيْهِ حالهم عند كثرة عيالهم من ترك الورع، والتكسب من الوجوه المكروهة، وهذا هو الغالب عَلَى الناس لاسيما مع قلة العِلْم والصبر (١)، وأما حال الصابرين عَلَى العيال المحافظين عَلَى الورع معهم فعزيزٌ جدًّا كحال الفضيل لما دخل عليه الرشيد فأعطاه ألف دينار، فأبى أن يأخذها، فخرج عنه، فجاء إِلَيْهِ بعض عياله فقالوا له: لو قبلت هذا المال ففرجت به عنا، قال: مثلي ومثلكم كمثل ﴿رجال﴾ (٢) كان لهم جمل يستقون عليه، فلما كبر نحروه، فأكلوا لحمه.
وكان الإمام أحمد له عيال وكان يومًا لا يكون عنده شيء يفرح، وقال: أسرُّ أيامي يوم أصبح وليس عندي شيء، وأرسل يومًا إِلَيْهِ عياله يَقُولُونَ له: ليس عندنا اليوم دقيق، أو قالوا: خبز -فَقَالَ لهم: الساعة، ثم أبطأ عليهم، فعاودوه فَقَالَ: الساعة. فدق عليه رجل الباب، فإذا هو رجل من خراسان قد أرسل معه إِلَيْهِ بخمسة آلاف درهم، فأبى أن يأخذها رردها.
كان فتح الموصلي يجمع عياله في ليالي الشتاء، ويمد كساءه
_________
=يسار. وأخرجه أحمد (٣/ ١٥٨، ٢٤٥)، وسعيد بن منصور في سننه (٤٩٠)، والطبراني في "الأوسط" (٥٠٩٩)، وابن حبان (٤٠٢٨ - إحسان) من حديث أنس.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن حفص ابن أخي أنس إلا خلف بن خليفة.
وذكره الهيثمي في "المجمع" (٤/ ٢٥٢) وقال: رواه أحمد والطبراني في "الأوسط" من طريق حفص بن عمر عن أنس، وقد ذكر ابن أبي حاتم وروى عنه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح. وذكره أيضًا في (٤/ ٢٥٨) وقال: إسناده حسن. وأخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (٧٢٣) من طريق أبان بن أبي عياش عن أنس، وأبان متروك.
(١) كتب في الهامش: فافهم ترشد.
(٢) في "الأصل": رجل. والمثبت أنسب للسياق.
2 / 746
عليهم ويقول: أجعتني وأجعت عيالي وأعريتني وأعريت عيالي، فبأي وسيلة توسلت بها إليك حتى تفعل هذا بي، وإنَّما تفعل هذا بأوليائك وأحسابك، فهل أنا منهم حتى أفرح، وعريت ابنة له فقِيلَ لَهُ: لو طلبت من أحد أن يكسوها؟ فَقَالَ: أدَعُها حتى يرى الله عريها وصبري عَلَى ذلك.
وجيء إِلَى عبد الصمد الزاهد بمال، فأبى أن يقبله فقالوا له: تصدق به.
فَقَالَ لأصحابه: من كانت له حاجة إلي شيء فليأخذ، فَتَورَّعَهُ أصحابُهُ بقدر حاجاتهم فجاء إِلَيْهِ بني له صغير يبكي فَقَالَ: أنا جائع. فَقَالَ: اذهب فخذ عليَّ من البقال ربع رطل تمر.
إخواني، الطبع إِلَى التوسع في الدُّنْيَا يحن، والولد يطلب ما يشتهي، والزوجة تطلب سعة النفقة، والورع يمنع من التوسع ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ (١) فإن كان الإمام أحمد قد امتنع أن يأخذ من الخليفة شيئًا من مال بيت المال، واقتنع بِكَري حوانيت له، كانت تغل في الشهر عشرين درهمًا أو أقل، فأخذ أولاده من الخليفة، فهجرهم لذلك. وكانت أم ولده تعاتبه وتقول له: أنا معك في ضيق وأولادك يأكلون ويفعلون ويفعلون. ليقول لها: قولي خيرًا. فخرج إِلَيْهِ صبي له صغير يبكي فَقَالَ: أي شيء تريد؟ قال: زيت. قال: اذهب فخذ من البقال بحبة.
[شعر]
كم أحمل في هواك كلًاّ وعنَّا ... كم أصبر فيك تحت (سقم) (٢) وضنًّا
لا تطردني فليس لي عنك غنى ... هذا حالي فإن رحمتم فأنا
_________
(١) الأحزاب: ١١.
(٢) كتب الناسخ فوقها "ضر".
2 / 747
غيره:
من أجل هواكمُ هجرت الخلقا ... لم يُبق حقكمُ لنفسي حقًّا
في حبكم يهون ما قد ألقى ... ما يسعد بالنعيم من لا يشقى
وأيضًا فكثرة العيال مما يوجب تعلق القلب بهم، فيشغل ذلك عن محبته وخدمته لله، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (١).
قال أبو حازم: كل ما شغلك عن الله من مال أو ولد فهو عليك شؤم.
وقد روى أبو نعيم (٢) بإسناد ضعيف من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "إذا أَحَبّ الله عبدًا اقتناه لنفسه، ولم يشغله بزوجة ولا ولد".
ومن كلام الشيخ عبد القادر: وكم تقول: كل من أحبه لا يدوم لي، بل يحال بيني وبينه بموت أو غيره، فيقال لك: يا محبوب الحق! المعني به المنطورُ إِلَيْهِ المغَارُ عليه، أما علمت أن الله غيور، خلقك له وتروم أن تكون لغيره، أما سمعت قوله ﷿: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (٣) وقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (٤) وقوله ﷺ: "إذا أَحَبّ الله عبدًا ابتلاه
_________
(١) المنافقون: ٩.
(٢) في "الحلية" (١/ ٢٥) من طريق عبد الملك بن يزيد، ثنا أبو عوانة عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود. فذكره. وأورد الخبر الذهبي في "الميزان" (٤/ ٤١٨ - علمية) وابن حجر في اللسان (٤/ ٧٣) في ترجمة عبد الملك بن يزيد، وقال الذهبي: عبد الملك بن يزيد، عن أبى عوانة بخبر باطل في ترك التزويج، لا يُدرى من هو؟ ثم ساق الخبر بإسناد أبي نعيم وقال: رواه ابن الجوري في "الموضوعات". وعزاه العجلوني في "كشف الخفا" (١/ ٤٦٥) للخطيب وغيره.
(٣) المائدة: ٥٤.
(٤) الذاريات: ٥٦.
2 / 748
فَإِذَا صبر اقتناه فلم يذر له مالًا ولا ولدًا (١) انتهى.
ومن هذا المعنى الأثر الإسرائيلي: "يا ابن آدم خلقتُ كل شيء لك وخلقُتكَ لنفسي، فلا تشتغل بما خلقتُهُ لك عما خلقتُكَ له".
وقد قيل: إن إبراهيم الخليل ﵇ إِنَّمَا أُمر بذبح ولده لتعلق قلبه به، فلما فرَّغه منه، وقدَّم محبة الله علي محبة ولده، وأسلما وتلّه للجبين، حصل الفداء بحصول المقصود منه، وهو تفريغ القلب، فلم يبق لإراقة الدم معنًى.
وكذلك الخليل الأكبر لما اشتدت محبته لعائشة وقع تنغيصها عليه بما جرى من حديث الإفك.
كان بعض العارفين له زوجة هي ابنة عمه وكان يحبها حبًّا شديدًا، فَقَالَ لنفسه يومًا: كيف ألقى الله بهذا الحال؟ فسأل الله فمرضت ثلاثة أيام ثم ماتت فخرج من فوره إِلَى مكة.
مرَّ بعض الفقراء بامرأة فأعجبته فتزوجها، فلما دخل بها البيت نزعوا خلقَانَهُ، وألبسوه ثيابًا جددًا، فلما جن عليه الليل، طلب قلبه فلم يجده فصاح: خلقَاني خلقَاني. فأخذ ورجع.
[شعر]
نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزل (للمرء) (*) يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزلِ
_________
(١) ذكر الديلمي في "مسند الفردوس" (١/ ٢٥٠)، والعجلوني في "كشف الخفا" (١/ ٨٠) وعزاه للطبراني.
(*) كتب بالحاشية: "في القلب" خ. أي في نسخة أخرى "في القلب" بدلًا من "للمرء".
2 / 749
دخلوا عَلَى أبي سليمان الداراني بيته فَقَالَ بعضهم ما أحوجه إِلَى زوجة تؤنسه. فَقَالَ: لا آنسني الله إلا به أبدًا.
كان إبراهيم بن أدهم قد خرج من أهله وولده وحشمه وأقام في بلاد الغربة، فحج مرة فرأى ولده وحشمه في الطواف، فجعل يسارقهم النظر ويبكي، فأخبر ولدُهُ به، فجاء إِلَيْهِ فاعتنقه وبكى، ثم صرفه وودعه.
وأنشد بعضهم:
هجرت الخلق طُرَّأ في هواكا ... وأيتمت العيال لكي أراكا
ولو قطعتني في الحب إِرَبًا لما ... حن الفؤاد إِلَى سواكا
قوله: "ذو حظ من الصلاة" يشير إِلَى أن المؤمن الخفي التقي لابد أن يكون له نصيب من التنفل بالصلاة فيكون هو لذته وقوته وغذاؤه كما قال ﷺ: "جعلت قرة عيني في الصلاة" خرّجه النسائي (١).
وفي "سنن أبي داود" (٢) عنه ﷺ أنَّه قال: "يا بلال، أقم الصلاة وأرحنا بها".
وفي "المسند" (٣) عن ابن عباس قال: "قال جبريل للنبي ﷺ: يا محمد، إن الله قد حبب إليك الصلاة فخذ منها ما شئت".
وفي "مسند البزار (٤) والطبراني" عن أنس "كان رسول الله ﷺ إذا
_________
(١) في "السنن الكبرى" (٨٨٨٨)، وفي "المجتبى" (٧/ ٦١) من حديث لأنس.
(٢) برقم (٤٩٨٥) من حديث رجل من خزاعة.
(٣) (١/ ٢٤٥، ٢٥٥)، وقال الهيثمي في المجمع (٢/ ٢٧٠): رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، وفيه علي بن يزيد، وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(٤) ذكره الهيثمي في المجمع (٢/ ٢٥١) عن أنس وقال: رواه البزار، وفيه يحيى بن عثمان القرشي البصرى ولم أعرفه، روى عن أنس وبقية رجاله رجال الصحيح، ثم قال: قلت: ذكر ابن حبان في "الثقات" يحيى بن عثمان القرشي، ولكنه جمره في الطبقة الثالثة.
وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (١/ ١٨٠) معلقًا وأبو نعيم في "الحلية" (١/ ٣٤٣) والخطيب في "تاريخه" (٤/ ٣٦٠) من طريق محمد بن كان الواسطي عن ثابت عن أنس.
2 / 750
أعجبه نحو الرجل أمره بالصلاة".
وقال ثابت: "كان رسول الله ﷺ لا يشبع من الصلاة".
وفي رواية عن أنس أنَّه ﷺ قال: «الْجَائِعُ يَشْبَعُ وَالظَّمْآنُ يَرْوَى وَأَنَا لَا أَشْبَعُ مِنْ حُبِّ الصَّلَاةِ» (١). خرَّجه عبد الله بن أحمد في الزهد.
وعن أبي هريرة قال: "كان داود ﵇ كثير الصلاة لا يفتر".
وكان ثابت البناني لا يقدر أن يَقَرّ من الصلاة حبًّا لها، وكان يقوم الليل أربعين سنة ويدعو في السحر: اللهم إن كنت أذنت لأحد من خلقك أن يصلي في قبره فاجعلني منهم، فلما مات وسُوي اللَّبن عَلَى لحده، سقطت منه لبنةٌ، فنظروا إِلَيْهِ قائمًا يصلي في قبره.
كان محمد بن النضر الحارثي لا يفتر من الصلاة، فكان إذا خرج حاجًّا فنزل الناس، قام يصلي، ثم إذا قرب ارتحالهم تقدم عَلَى رأس ميل يصلي حتى ﴿إذا سمع حس﴾ (*) الإبل فإذا أدركته تقدم عليها يصلي حتى تلحقه فلا يزال كذلك حتى يصلي العصر ثم يركب في وقت النهي عن الصلاة.
وكان كرز بن وبرة لا يفتر عن الصلاة، وكان إذا حج ونزل الناس منزلًا، توارى عن الناس يصلي في موضع لا يرونه، فإذا سمع بحركة الناس للسير، جاء إِلَى رفقته فاحتبس عنهم يومًا عند الرحيل، فطلبه بعض رفقته فوجده قائمًا يصلي في يوم شديد الحر وغمامة تظله، فاجتهد به حتى حلف له أن لا يخبر بما رأى منه أحدًا حتى يموت.
[شعر]
كم أكتم حبكم عن الأغيار ... والوجد يذيع في الهوى أسراري
كم أستركم هتكتمو أستارى ... من يخفي في الهوى لهيب النار
_________
(١) ذكره الديلمي في "الفردوس" (٢٦٢٢) عن أنس.
(*) من الحلية (٨/ ٢٢٠).
2 / 751
قوله: "أحسن عبادة ربه" إحسان العبادة إتقانها وإكمالها والإتيان بها عَلَى أكمل الوجوه. والحاصل عَلَى ذلك أن يعبد العبد ربه كأنه يراه كما فسر النبي ﷺ الإحسان بذلك، وكان يقول في دعائه: "أسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك" وعلَّم معاذ بن جبل أن يقول: "اللهم أعني عَلَى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (١).
قوله: "وإطاعته في السر" طاعة العبد لربه في السر دليل عَلَى قوة إيمانه وإخلاصه لربه، وكان النبي ﷺ يسأل ربه خشيته في السر والعلانية (٢) وأفضل النوافل إسرارها، ولذلك فضلت صلاة الليل عَلَى نوافل الصلاة وفضلت صدقة السر عَلَى صدقة العلانية.
وفي الحديث "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة (٣).
_________
(١) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (٦٩٠)، وأبو داود (١٥٢٢)، والنسائي في "الكبرى" (٩٩٣٧)، والبزار (٢٦٦١ - البحر الزخار) وابن خزيمة (٧٥١) وابن حبان (٢٠٢٠، ٢٠٢١ - إحسان)، والطبراني في "الكبير" (٢٠/ ١١٠، ٢٥٠)، والحاكم في "المستدرك" (١/ ٤٠٧)، (٣/ ٣٠٧) كلهم من حديث معاذ بن جبل. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وذكره الهيثمي في "المجمع" (١٠/ ١٧٢) من حديث ابن مسعود وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح غير عمرو بن عبد الله الأودي، وهو ثقة.
(٢) أخرجه أحمد (٤/ ٢٦٤)، وابن حبان (١٩٧١ - إحسان) من حديث عمار بن ياسر مرفوعًا، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (٤٥١٦)، وعبد الله بن أحمد في "السنة" (٤٦٨) عن عمار بن ياسر موقوفًا، ولفظ الحديث: اللهم إِلَيّ أسألك خشيتك في الغيب والشهادة.
(٣) أخرجه أحمد (٤/ ١٥١، ١٥٨)، والترمذى (٢٩١٩)، والنسائي في "الكبرى" (٢٣٤٢) وابن حبان (٧٣٤ - إحسان) والبيهقي في "السنن الكبير" (٣/ ١٣) من حديث عقبة بن عامر. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ومعنى هذا الحديث أن الَّذِي يسر بقراءة القرآن أفضل من الَّذِي يجهر بقراءة القرآن، لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية، وإنَّما معنى هذا عند أهل العِلْم لكي يأمن الرجل من العُجب؛ لأنّ الَّذِي يسر العمل لا يُخافُ عليه العجب ما يُخافُ عليه من علانيته.
2 / 752
قال بعض السَّلف: ما أعتد بما ظهر من عملي، وحب الإسرار بالطاعة من علامات المحبين لمولاهم.
قال مخلد بن الحسين: ما أَحَبّ الله عبدٌ فأحب أن يعرف الناس مكانه.
وقال أحمد بن أبي الحواري: مَن عَبَدَ الله عَلَى المحبة لا يحب أن يرى خدمته سوى محبوبه.
واطَّلع عَلَى بعض أسرار المحبين مع الله، فعلم بذلك، فدعا لنفسه بالموت، وقال: إنما كانت المعاملة تطيب حيث كانت سرًّا بيني وبينه، فمات.
سئل بعضهم عن شيء من أسراره مع مولاه فأنشد:
من سارروه فأبدى السر مجتهدًا ... لم يأمنوه عَلَى الأسرار ما عاشا
وجانبوه فلم يظفر بودهم ... وأبدلوه من الإيناس إيحاشا
لا يصفون مذيعًا بعض سرهم ... حاشا ودادهم من ذاكمو حاشا
المحبون يغارون عَلَى الأسرار من اطلاع الأغيار.
نسيم صبا نجد متى جئت حاملًا ... تحيتهم فاطو الحديث الركبِ
ولا تذع السر المصون فإنني ... أغار على ذكر الأحبة من صحبِ
قوله: "وكان غامضًا في الناس لا يشار إِلَيْهِ بالأصابع" يدل عَلَى فضل العبد التقي الخفي.
وفي حديث سعد عن النبي ﷺ: "إن الله يحب العبد الغني التقي الخفي" (١).
وفي حديثه أيضًا: "خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي" (٢).
_________
(١) أخرجه مسلم (٢٩٦٥).
(٢) أخرجه أحمد (١/ ١٧٢، ١٨٠، ١٨٧)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (٧/ ٨٤)، وعبد بن حميد في "المنتخب" (١٣٧)، وأبو يعلى في "مسنده" (٧٣١) من حديث سعد ابن أبي وقاص. قال الهيثمي في "المجمع" (١٠/ ٨١): وفيه محمد بن عبد الرحمن ابن لبيبة، وقد وثقه ابن حبان وقال: روى عن سعد بن أبي وقاص.
2 / 753
وفي حديث معاذ المرفوع (١): «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا، مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ» خرّجه ابن ماجه.
وخرَّج من حديثه مرفوعًا أيضًا: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ؟ قلت: بَلَى. قَالَ: رَجُلٌ ضَعِيفٌ مُسْتَضْعَفٌ ذُو طِمْرَيْنِ لَا يَؤُبهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» (٢).
وفي حديث آخر: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» (٣).
_________
=قلت: وضعفه ابن معين، ويقية رجالهما رجال الصحيح. اهـ. وانظر العلل لابن أبي حاتم (٢/ ١٤٣) برقم (١٩٢٦)، وعلل الدارقطني (٤/ ٣٩٣) برقم (٦٥٢).
(١) أخرجه ابن ماجه (٣٩٨٩). قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (٤/ ١٧٨): هذا إسناد فيه عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف، رواه الحاكم من طريق عياض بن عباس عن عيسى به، وقال: لا علة له.
قلت: هو عند الحاكم (١/ ٤٤) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرج في الصحيحين، وقد احتجا جميعًا بزيد بن أسلم عن أبيه عن الصحابة، واتفقا جميعًا عَلَى الاحتجاج بحديث الليث بن سعد عن عياش بن عباس القتباني، وهذا إسناد مصر صحيح ولا يحفظ له علة.
(٢) أخرجه ابن ماجه (٤١١٥) من حديث معاذ. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (٤/ ٢١٤): هذا إسناد فيه سويد بن عبد العزيز وقد ضعفوه، وله شاهد من حديث حارثة بن وهب رواه الشيخان، ورواه البخاري وغيره من حديث أنس، ورواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة.
(٣) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (٨٦١) من طريق أسامة بن ريد عن حفص بن عبد الله ابن أنس عن جده أنس.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن حفص إلا أسامة. وأورده الهيثمي في المجمع (١٠/ ٢٦٤) من طريق آخر عن أنس وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله ابن موسى التيمي، وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح غير جارية بن هرم، ووثقه ابن حبان عَلَى ضعفه.
2 / 754
قال ابن مسعود (١): كونوا ينابيع العِلْم مصابيح الظلام، جُددُ القلوب خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون عَلَى أهل الأرض.
كان قاسم الجوعي يقول لأصحابه: اغتنموا من زمانكم خمسًا إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفقدوا، وإن شهدتم لم تشاوروا، وإن قلتم شيئًا لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئًا لم تعطوا به. وأوصيكم بخمس أيضًا: إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مُدحتُم لم تفْرحوا، وإن ذُممتُم لم تجزعوا، وإن كُذِّبتُم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا.
طوبى لعبدٍ طوبى لعبد بحبل الله معتصم ... عَلَى صراط سويٍّ ثابت قدمه
رثُّ اللباس جديدُ القلب مستترٌ ... في الأرض مشتهر فوق السماء اسمه
ما زال يحتقر الأولى بهمته ... حتى ترَّقت إِلَى الأخرى به هممه
فذاك أعظم من ذي التاج متكئًا ... عَلَى النمارق مختلفًا به خدمه
ما زال الصادقون من العُلَمَاء والصالحين يكرهون الشهرة ويتباعدون عن أسبابها، ويحبون الخمول، ويجتهدون عَلَى حصوله.
وقال بعضهم: ما اتَّقى الله من أَحَبّ الشهرة.
وكان أيوب السختياني يقول: ما صدق عبدٌ إلا أَحَبّ أن لا يشعر بمكانه.
ولما اشتهر بالبصرة كان إذا خرج إِلَى موضع يتحرى المشي في الطرقان الخالية، ويجتنب سلوك الأسواق والمواضع التي يعرف فيها.
وكان سفيان الثوري لما اشتهر يقول: وددت أن يدي قُطعت من إبطي، وأني لم أشتهر ولم أُعرف.
ولما اشتهر ذكر الإمام أحمد، اشتد غمه وحزنه، وكثر لزومه لمنزله، وقل خروجه في الجنائز وغيرها، خشية اجتماع الناس عليه.
_________
(١) أخرجه الدارمي في "سننه" (٢٥٦)، والبيهقي في "الشعب" (١٧٢٩) مع اختلافٍ فى بعض الألفاظ.
2 / 755
وكان يقول: طوبى لمن أخمل الله ذكره. وكان يقول: لو قدرت عَلَى الخروج من هذه المدينة -يعني بغداد- لفعلت حتي لا أذكر عند هؤلاء -يعني الملوك. فكان إذا مشي معه أحد من أقاربه يعرفه الناس، أبعده عنه لئلا يعرف به، وكان لا يدع أحدًا يمشي معه في الطريق ولا يتبعه، فإن تبعه أحد وقف حتى ينصرف الَّذِي معه.
وكان ابن مسعود يقول لمن تبعه: لو تعلمون ما أغلق عليه بابي لم يتَّبعني منكم أحد (١).
ورأى عمر قومًا يتبعون رجلًا فعلاهم بالدَّرة وقال: إن خفق النعال خلف الأحمق، قل ما يُبقي من دينه (٢).
مشى قومٌ مع معروف إِلَى بيته، فلما دخل قال لهم: مشيُنا هذا كان ينبغي لنا أن نتقيه، أليس جاء في الخبر: "أنَّه فتنة للمتبوع مذلة للتابع".
وكان بعض العُلَمَاء في مجلسه فقام، فاتبعه جماعة فأعجبه ذلك، فرأى تلك الليلة في منامه قائلا يقول: سيعلمُ من يُحبُّ أن يُمشى خلفه غدًا.
ورئي سفيان في النوم بعد موته فقِيلَ لَهُ: ما فعل الله بك؟
قال: غفر لي. قِيلَ لَهُ: هل رأيت شيئًا تكرهه؟ قال: نعم، الإشارة بالأصابع -يعني قول الناس هذا سفيان.
الإشارة إِلَى الرجل بالأصابع فتنة، وإن كان في الخير.
وفي الحديث "كَفَى بِالْمَرْءِ شَرًّا أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينهِ أَوْ دُنْيَاهُ، إِلَّا مَن عَصَمَهُ اللَّهُ" (٣).
_________
(١) أخرجه الدارمي في "سننه" (٥٣٢).
(٢) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (٩/ ١٢) بلفظ: أن خفق النعال، دون ذكر "فعلاهم بالدرة".
(٣) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (٤/ ٢٣٢) من قول إبراهيم والحسن.
2 / 756
كان بعض التابعين إذا جلس إِلَيْهِ أكثر من ثلاثة أنفس قام خوف الشهرة.
وكان علقمة يكثر الجلوس في بيته فقِيلَ لَهُ: ألا تخرج فتحدث الناس.
فَقَالَ: أكره أن يوطأ عقبي ويقال: هذا علقمة، هذا علقمة.
كان كثير من الصادقين من السَّلف يجتنب لباس الثياب التي يُظنُّ بأصحابها الخير، إبعادًا لهذا الظن عن أنفسهم.
وكان ابن محيريز يدعو فيقول: اللهم إني اسألك ذكرًا خاملًا.
وقال مطرف: انظروا قومًا إذا ذكروا ذكروا بالقراءة، فلا تكونوا منهم، وانظروا قومًا إذا ذكروا ذكروا بالفجور فلا تكونوا منهم، وكونوا بين ذلك.
وهذا هو الذكر الخفي المشار إِلَيْهِ في حديث سعد، وهو من أعظم نعم الله عَلَى عبده المؤمن، الَّذِي رزقه نصيبًا من ذوق الإيمان، فهو يعيش به مع ربه عيشًا طيبًا، ويحجبه عن خلقه حتى لا يُفسدُوا عليه حاله مع ربه، فهذه هي الغنيمة الباردة، فمن عرف قدرها وشكر عليها فقد تمت عليه النعمة.
وقد ورد في بعض الآثار أن العبد يسأل عن شكر هذه النعمة يوم القيامة.
تواريت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهرى وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني
كم بين حال هؤلاء الصادقين وبين من يسعى في ظهوره بكل طريق، باستجلاب قلوب الملوك وغيرهم، لكن إذا حقت الحقائق تبين الخالص من البهرج.
2 / 757
شعر:
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى
رائحة الإخلاص كرائحة البخور الخالص، كلما قوي ستره بالثياب، فاح وعبق بها، ورائحة الرياء كدخان الحطب، يعلو إِلَى الجو ثم يضمحل وتبقى رائحته الكريهة. كلما بليت أجسام الصادقين في التراب فاحت رائحة صدقهم فاستنشقها الخلق.
كما اجتهد المخلصون في إخفاء أحوالهم عن الخلق، وريح الصدد تنم عليهم. كم يقول لسان الصادق: لا لا، وحاله ينادي: نعم نعم، ولسان الكاذب يقول: نعم نعم، وحاله ينادي عليه: لا لا.
كما اجتهد الإمام أحمد عَلَى أن لا يذكر، وأبى الله إلا أن يُشهرهُ ويقرن الإمامة باسمه عَلَى ألسنة الخلق شاءوا أو أبوا، وكان في زمانه من يعطي الأموال لمن ينادي باسمه في الأسواق ليشتهر، فما ذكر بعد ذلك ولا عرف.
خمول المحبين لمولاهم شهرة، وذلُّهم بين يديه عزُّ، وفقرٌ أليه الغنى الأكبر.
شعر:
تذلل أرباب الهوى في الهوى عزٌّ ... وفقرهم نحو الحبيب هو الكنزُ
وسترهم فيه السرائر شهرة ... وغير تلاف النفس فيه هو العجزُ
قوله: "وكان رزقه كفافًا فصبر عَلَى ذلك" هذا خير الرزق كما سبق في حديث "خير الرزق ما يكفي".
2 / 758
وفي الصحيح أن النبي ﷺ كان يقول: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا" (١)
وقد فسر طائفة من المفسرين قوله تعالى: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (٢) بهذا، وقالوا: المراد رزق يوم بيوم.
في "صحيح مسلم" (٣) عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: "قد أفلح من هُدي إِلَى الإسلام وكان عيشه كفافًا وقنَّعه الله به".
وخَرَّج الترمذي والنسائي (٤) من حديث فضالة بن عبيد عن النبي ﷺ قاله: "طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَع".
وفي "المسند" و﴿سنن ابن ماجه (٥) عن أنس مرفوعًا "ما من غني ولا فقير إلا وَدَّ يوم القيامة أنَّه أوتي قوتًا".
وفي الترمذي (٦) عن أبي أمامة مرفوعًا "عرض عَلَيَّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبًا فقلت: لا يا رب، ولكن أجوع يومًا وأشبع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك"﴾ (٧).
وفي سنن ابن ماجه (٨) "أن النبي ﷺ بعث إِلَى رجل يستمنحه ناقة
_________
(١) أخرجه البخاري (٦٤٦٠)، ومسلم (١٠٥٥) من حديث أبي هريرة.
(٢) طه:١٣١.
(٣) برقم (١٠٥٤).
(٤) أخرجه الترمذي (٢٣٤٩) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنساني في "الكبرى" كما في تحفة الأشراف (٨/ ٢٦١) برقم (١١٠٣٣).
(٥) أخرجه أحمد (٣/ ١١٧، ١٦٧)، وابن ماجه (٤١٤٠) وقال السيوطي: هذا حديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وأعله بنفيع، فإنه متروك، وهو مخرج في مسند أحمد، وله شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه الخطيب في تاريخه. (حاشية ابن ماجه).
(٦) أخرجه الترمذي تحت رقم (٢٣٤٧) قال: وبهذا الإسناد وقال: هذا حديث حسن.
(٧) ما بين المعقوفتين تكرر بالأصل.
(٨) برقم (٤١٣٤) من حديث نقادة الأسدي. قال في الزوائد: في إسناده البراء، قد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: مجهول، وباقي رجال الإسناد ثقات. وليس لنقادة شيء في بقية الكتب الستة سوى هذا الحديث الَّذِي انفرد به ابن ماجه. (انظر حاشية ابن ماجه).
2 / 759