Explanation of the Dalya Poem by Al-Kaludhani

Abd al-Rahman bin Nasir al-Barrak d. Unknown

Explanation of the Dalya Poem by Al-Kaludhani

شرح القصيدة الدالية للكلوذاني

Publisher

دار ابن الجوزي

Edition Number

الأولى

Publication Year

١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م

Genres

شرح القصيدة الدالية نظم العلامةِ الفقيهِ أبي الخطَّاب محفوظِ بنِ أحمدَ بنِ حسنِ الكَلْوَذَانيُّ الحنبليُّ (٤٣٢ - ٥١٠ هـ) ﵀ وعفا عنه شرح فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله ونفعنا بعلومه

1 / 33

بسم الله الرحمن الرحيم مُقدِّمةُ الشَّرحِ الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا شرحٌ مختصرٌ، وتعليقٌ وجيزٌ على «المنظومة الدالية» لأبي الخطَّاب الكَلْوَذَانِيِّ ﵀، وقد سلكَ النَّاظِمُ في قصيدتِه طريقةَ السؤالِ والجوابِ في عَرْضِ المسائل، فبيَّنْتُ مرادَه ﵀ وما نَحَاهُ في جَوَابَاتِهِ، وبيَّنْتُ مَذهبَ أهلِ السنَّةِ والجماعَةِ في المسائل التي تعرَّض لها، ونبَّهْتُ على ما ظَهَرَ لي فيه مخالفَتهُ لمذهبِ أهلِ السنَّة والجماعة. وأصل هذا الشرح دروسٌ علميَّة، ألقيتُها في إحدى الدورات العلمية، وقد قام الشيخ ياسر بن سعد العسكر بتفريغ الشرح، وتهذيبه، وتنسيقه، وتحقيقه، والعناية به، واجتهد في ذلك؛ ليعم الانتفاع به، فأجزل الله له المثوبة وبارك له في علمه وعمله. وهذا أوان الشروع في شرح أبيات القصيدة:

1 / 35

قال الناظمُ ﵀: ١. دَعْ عَنْكَ تَذْكَارَ الخَلِيطِ المُنْجِدِ ... وَالشَّوْقَ نحوَ الآنِسَاتِ الخُرَّد هذه القصيدة من بحر «الكامل» (١)، والبحورُ العَرُوضِيَّة معروفةٌ. قوله: «دَعْ عَنْكَ تَذْكَارَ (٢)» يعني: اترك الاشتغال بتذكُّرِ الأَصْدِقَاء. و«الخَلِيط» هو الصديقُ والصاحبُ المُخالِط. و«المُنْجِد» هو الوفيُّ الذي يُنْجِدُ صاحبَه عند الأزمات والشدائد، وهذا هو الصديقُ حقًا. والمعنى: لا تَشْغَل نفسَكَ بتذكُّرِ الأصدقاء، ونزِّهها عن الاشتغال بما بينك وبينهم من وِدَاد؛ حفظًا للوقت، وإقبالًا على ما هو أهمّ. وقوله: «الآنِسَات» جمعُ «آنِسَة»، وهي: المرأةُ الأَنِيسَةُ المُؤنِسَة. وقوله: «الخُرَّد»: جمعُ «خَرِيدَة» وهو من الجموعِ غيرِ المشهورةِ في هذا الاسم، وفي وزن «فَعِيلَة»، بل القياس الكثير أن «خَرِيدَة»

(١) ووزنه: «مُتَفَاعِلُنْ» ست مرات. (٢) هي بفتح التاء، كما في كتب اللغة، قال أبو البقاء في «الكليات» (ص ٢٥٤): (كلُّ ما وَرَدَ عن العربِ من المصادر على «تفْعَال» فهو بالفتح، كالتَّكْرَار والتَّرْدَاد، إلاَّ لفظين هما: تِبْيَان وَتِلْقَاء فهو بالكسر، وما عَدَا ذلك من أسماءِ الأَجْنَاس نحو: بِتِمْثَال وتِمْسَاح وتِقْصَار، فهو بالكسر). وقال الحَرِيرِيُّ في «دُرَّة الغَوَّاص في أَوهَامِ الخَوَاصّ» (ص ١٦٩): (ويقولون في مصدر «ذَكَرَ الشَّيءَ»: تِذْكَار -بكسر التاء-، والصوابُ فَتْحها، كما تُفْتَح في تَسْآل وتَسْيَار وتَسْكَاب وتَهْيَام ...).

1 / 36

تُجمَع على «خَرَائِد»، مثل: صحيفة وصحائف، وفريدة وفرائد، كما أنَّ «خَرِيدَة» تُجمَعُ أيضًا على «خُرُد»، والمراد بـ «الخريدة»: البِكْرُ النَّاعِمَة. والمعنى: دع عنك الشَّوْقَ والتَّوَقَان بتَذَكُّر الآنِسَات والنِّسَاءِ النَّاعِمَات، ولا تُعَلِّقْ قلبَك وفكرَك بِهِنَّ، ولا تَشْغَل نفسَك بذلك. ولا شك أن فتنة النساء هي أعظم فتنة للرجال، كما جاء في الصحيحين عن أسامة بن زيد ﵁ قال: قال رسولُ الله ﷺ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ» (١)، وما أكثر ما صرفت فتنةُ النساء النفوسَ عن المطالب العالية (٢)، فلا بد حينئذٍ من الإعراضِ عن التعلُّقِ بالآنِسَات الخُرَّدِ والشوق نحوهن. قال الناظمُ ﵀: ٢. وَالنَّوْحَ في أَطْلاَلِ سُعْدَى إِنَّمَا ... تَذْكَارُ سُعْدَى شُغْلُ مَنْ لم يَسْعَد هذا البيت متصلٌ في المعنى بالبيت الذي قبله. فقوله: «وَالنَّوْحَ في أَطْلاَلِ» أي: ودع عنك النَّوحَ وهو: البكاء، «في أَطْلاَلِ» جمع طَلَل، وهو البِنَاءُ الدَارِسُ البَالِي، وعادةُ العُشَّاقِ أنهم يذهبون إلى ديار محبوباتهم ومعشوقاتهم ويَنُوحُون عليهنَّ، وهذا مثل قول الشاعر (٣):

(١) متفقٌ عليه، أخرجه البخاري (٥/ ١٩٥٩ رقم ٤٨٠٨)، ومسلم (٤/ ٢٠٩٧ رقم ٢٧٤٠). (٢) قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في «اقتضاء الصراط المستقيم» (٢/ ٥١٤): (وَأَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ المُلْكَ [وفي بعض النسخ: المِلَلَ] وَالدُّوَلَ طَاعَةُ النِّسَاءِ). (٣) هو: قيس بن الملوح بن مزاحم، المعروف بـ «مجنون ليلى»، وهذان البيتان في «ديوانه».

1 / 37

أمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ لَيلَى ... أُقَبِّلُ ذَا الجِدَارَ وذَا الجِدَارَ وَمَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلبِي ... وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَ فالناظمُ ﵀ يقول أيضًا: دع عنك النَّوحَ والبكاءَ على مَنْ تعلَّق قلبُك بها، وكَنَّى عن جِنْسِ المرأة بـ «سُعْدَى». ثم قال: «إِنَّمَا تَذْكَارُ سُعْدَى شُغْلُ مَنْ لم يَسْعَدِ» يعني: أن الاشتغال بتذكر الجَمَال، وتذكر الحُبِّ، وتذكر المتعة، هذا كلُّه شُغْلُ مَن لم يَسْعَد السعادةَ الحقيقيَّة، فتضيع عليه أوقاتُه بهذه الذِّكرَيَات الذاهبة الضائعةِ، فيبقى قلبُه يطوف في مواطن ومحاسن من فُتِنَ بهنَّ من النِّسَاء وفي محاسِنِهِنَّ. وقوله: «مَنْ لَمْ يَسْعَدِ» أصله: «مَنْ لَمْ يَسْعَدْ» بجزم الفعل المضارع، ولكن وقع الكسر من أجل القافية. قال الناظمُ ﵀: ٣. وَاسمَعْ مَقَالِي إِنْ أَرَدْتَ تَخَلُّصًَا ... يَومَ الحِسَابِ وَخُذْ بِهَذَا تَهْتَدِي بدأ الناظمُ ﵀ بتقديم النصائح لقارئ هذه المنظومة فقال: «وَاسمَعْ مَقَالِي» أي: اسمع سَمَاعَ قَبُولٍ واستجابةٍ لما سأقوله وأُبَيِّنُه لك. قوله: «إِنْ أَرَدْتَ تَخَلُّصًَا يَومَ الحِسَابِ» أي: إن أردت النجاة يوم الحساب من العذاب، ومن شدائد يوم القيامة فاسمع مقالي وأصغ لما سأقوله لك. وقوله: «وَخُذْ بِهَذَا تَهْتَدِي» وفي نسخة: «وَخُذْ بِهَدْيِي تَهْتَدِي» وكلٌّ منهما له وجهٌ، فنسخة: «خُذْ بِهَذَا» يعني: خذ بهذا القول الذي سأقوله لك في هذه المنظومة، وأمَّا نسخة: «خُذْ بِهَدْيِي» يعني: خُذْ بما

1 / 38

سأقدِّمُه لك من دلالةٍ وإرشادٍ تهتدِ إلى الصواب وطريق الحق، فهذه أيضًا نصيحةٌ من النصائح. فمعنى هذا أنه صَدَّرَ هذه المنظومة بنصائح لكل مسلم، ولا سيما طالب العلم. قال الناظمُ ﵀: ٤. وَاقصِدْ فَإِنِّي قَدْ قَفَيْتُ مُوَفَّقًَا ... نَهْجَ ابنِ حَنْبَلٍ الإِمَامِ الأَوْحَد قوله: «اقصِدْ»: أي اقصِدْ بقلبِك وسعيك وجِدِّك نهجَ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل ﵀، فكأنه يقول: اقصد ما قصدتُ وما قَفَيتُ من مذهب الإمام أحمد ومنهجه. وقوله: «وَاقصِدْ فَإِنِّي قَدْ قَفَيْتُ» وقع في نسخةٍ: «وَاقصِدْ فَإِنِّي قَدْ قَصَدْتُ»، وكلا النسختين مؤداهما متقارِبٌ، فإن من قَفَا وتَبِعَ إمامًا فإنَّه يتبعه بقصده وبموافقته. وقوله: «مُوَفَّقًَا» هي حالٌ من الفاعل، يعني: حال كوني موَفَّقًَا، ويحتمل أن تكون حالًا من ضمير الفاعل في «اقْصِدْ»، وهو المخاطَب. وهذا إمَّا أن يكون من باب الرجاء، يعني: أرجو أن أكون مُوَفَّقًَا، وإما أن يكون لبيان أنَّ ما سلكه من عقيدة الإمام أحمد حقٌ وصوابٌ، فإن الإنسان إذا سار على طريق الحق والصواب فلا ضير أن يقول: إني -ولله الحمد- مُوَفَّقٌ حيث سلكتُ هذا الطريق. وقوله: «نَهْجَ ابنِ حَنْبَلٍ» أي: منهجه وسبيله الذي سار عليه في اعتقاده وفي سيرته ﵀ ورضي عنه. و«ابنُ حَنْبَلٍ» هو الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل، وهو مشهورٌ بهذه النسبة، فإذا قيل: «ابنُ حَنْبَل» فلا ينصرف إلاَّ إلى الإمام أحمدَ بنِ محمَّدِ بنِ حنبل الإمام الشهير.

1 / 39

وقوله: «الإِمَامِ» هذا صحيحٌ فإنه ﵀ كان إمامًا في زمانه، حتى صار قدوةً لمن بعده. وقوله: «الأَوْحَدِ» هو أفعل تفضيل من «الوَحْدَة» و«التَّوَحُّد»؛ لأنه صار فريدًا في زمانه، وهذا مِثْلُ قولهم: «فَريدُ مِصْرِه، وَوَحِيدُ عَصْرِه». فالإمامُ أحمدُ ﵀ أوحدُ من غيره وأكثر تفردًا من غيره، وهذا ما يقتضيه أفعل التفضيل التي عبَّرَ بها الناظمُ. فالناظمُ ﵀ لم يقل: «الإمام الوحيد»، بل زاد في الثناء فقال: «الإِمَامِ الأَوْحَدِ». قال الناظمُ ﵀: ٥. خَيرِ البَرِيَّةِ بَعْدَ صَحْبِ مُحَمَّدٍ ... وَالتَّابِعِينَ إِمَامِ كُلِّ مُوَحِّد يواصل الناظمُ ﵀ الثناء على الإمام أحمد ﵀ فيقول: «خيرِ البَرِيَّة» خيرُ البَرِيَّة مطلقًا هو نبيُّنا محمَّدٌ ﷺ، لكنَّ الناظمَ ﵀ قيَّد خيرية الإمام أحمد بقوله: «بَعْدَ صَحْبِ مُحَمَّدٍ وَالتَّابِعِينَ»، وفي هذا التقييد احترازٌ عظيمٌ خرج به الناظم من المبالغة الشديدة في المديح. وما قاله الناظم في حق الإمام أحمد يقتضي تفضيله على كل أحد بعد الصحابة والتابعين، وفي هذا الإطلاق والتعميم نظر. فكأنه يقول: هو خير الناس بعد الصحابة والتابعين. فمع جلالة الإمام أحمد، وعِظَمِ شأنه، وما أكرمه الله به من العلم بالسنة والفقه في الدين، والصلابة فيه، وقمع البدع والمبتدعين، لا يصح أن نقول عنه: إنَّه خير الناس.

1 / 40

فهو ﵀ من خير أئمة أهل السنة، بل امتاز بِلَقَبِ «إمام أهل السنة»، وهذا أمرٌ معروفٌ يعترف به كل أحدٍ، فإنه لما وقعت فتنة القول بخلق القرآن كان هو أعظم من واجه هذه الفتنة برده وصبره على البلاء، فقد سجن وضرب وجلد وامتحن ومع هذا كله لم يلجأ إلى التأويل الذي يتخلص به من هذا البلاء مع أنَّ له به فُسْحَة، لكنَّه صَبَرَ وصَابَرَ وصَدَعَ بالحق، فبذلك ذاع صِيتُه، وجعلَ الله له بهذا الصبر لِسَانَ صِدْقٍ في الأُمَّة، وصار قدوةً لمن جاء بعده، و«بالصبر واليقين تُنَالُ الإمامةُ في الدِّين». وقوله: «إِمَامِ كُلِّ مُوَحِّدِ»: هذا تعبير عن كون الإمام أحمد إمام أهل السنة فهو إمام كل موحد من أهل عصره ومن جاء بعدهم. والمُوَحِّد: هو كل من وَحَّدَ الله بأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته ﷾. قال الناظمُ ﵀: ٦. ذِي العِلْمِ وَالرَّأْيِ الأَصِيلِ وَمَنْ حوَى ... شَرَفًَا عَلاَ فَوقَ السُهَا وَالفَرْقَد هذا هو البيت الثالث في الثناء على الإمام أحمد ﵀. قوله: «ذِي العِلْمِ» أي: صاحبِ العلم الواسع بالكتاب والسنة وآثار الصحابة والفقه في الدين. وقوله: «وَالرَّأْيِ الأَصِيلِ» أي: وصاحب الرأي المكين في السداد والصواب. وقوله: «وَمَنْ حَوَى شَرَفًَا» هذه الجملة معطوفة على قوله: «ذِي العِلْمِ» يعني: والذي حوى شرفًا.

1 / 41

قوله: «فَوقَ السُّهَا وَالفَرْقَدِ» وفي نسخة: «فَوقَ السَّمَا وَالفَرْقَدِ» وكأنَّ ذكر «السُّهَا» أنسب؛ لأنه كثيرًا ما يُقْرَنُ بين السُّهَا والفَرْقَدِ، وهما نجمان معروفان، يعرفهما أهل الشأن، ويقال لهما من باب التغليب: «الفَرْقَدَان». و«السُّهَا» يُقالُ إنَّه نجمٌ خَفِيٌّ، وأمَّا «الفَرْقَد» فهو نجمٌ نَيِّرٌ واضحٌ، يعرفه المهتمُّون بالنجومِ ومنازلِها (١). ويحتمل أنَّ يكون قوله: «وَمَنْ حَوَى شَرَفًَا» كلامًا مستأنفًا يُبيِّن به النَّاظمُ أنَّ مَن حوى شَرَفًَا فقد عَلاَ فوق السُّهَا، يعني علا قَدْرُهُ وارتفعت منزلتُه، والإمامُ أحمدُ كذلك حوى شرفًا عظيمًا؛ شرف العلم والتقى، وشرف الجهاد والصبر، فلا غرو حينئذٍ أن يَتَبَوَّأَ ﵀ هذه المنزلةَ العظيمةَ. ولعل هذا التوجيه هو الأقرب، وهو اعتبار أن هذه الجملة مستأنَفَة.

(١) السُّهَا: بضم السين المهملة، هو كوكبٌ خَفِيٌّ في بنات نَعْشٍ الكبرى، والنَّاسُ يمتحنون به أبصارهم؛ لخفائه، وفي المثل: «أُرِيهَا السُّهَا وَتُرِيني القَمَرَ». وأما الفَرْقَد: بفتح الفاء وإسكان الراء وفتح القاف، واحِدُ الفَرْقَدَين، والفَرْقَدَان نجمان لا يَغْرُبَان ولكنهما يَطُوفَان بالجَدي، وقيل: كوكبان قريبان من القطب، وقيل: كوكبان في بنات نعش الصغرى، وربما قالت لهما العرب: الفرقد. والفرقدان يضرب بهما المثل في طول الصحبة والتساوي والتشاكل، ومن ذلك قول القائل: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيْكَ إِلاَّ الفَرْقَدَان ينظر: «صبح الأعشى» (٢/ ١٨١)، و«لسان العرب» (١٤/ ٤٠٨) و(٣/ ٣٣٤)، و«تاج العروس» (٨/ ٤٩١).

1 / 42

قال الناظمُ ﵀: ٧. وَاعْلَمْ بِأَنِّي قَدْ نَظَمْتُ مَسَائِلًا ... لَمْ آلُ فِيهَا النُّصْحَ غَيرَ مُقَلِّد يقول ﵀: «وَاعْلَمْ» أي: يا طالب العلم، وهذا يُعَبِّرُ به عن ما قصد إليه في هذه المنظومة، وتصديرُ المؤلِّفِين كلامهم بقول: «اعلم» يدل على أهمية ما يأتي بعده. قوله: «قَدْ نَظَمْتُ مَسَائِلًا» أي: من مسائل الاعتقاد. وقوله: «مَسَائِلًا» هي بالتنوين من أجل الوزن، وإلا فـ «مسائل» من صيغ منتهى الجموع، وهو لا ينصرف. وقوله: «لَمْ آلُ فِيهَا النُّصْحَ» أي: لم أُقصِّر فيها، بل اجتهدتُ في نظمها نصحًا للعباد. وقوله: «غَيرَ مُقَلِّدِ» أي: أنا فيها متَّبِعٌ غير مقلِّد فيها لأحدٍ. فالناظمُ ﵀ وإن ذكر أنه مقتفٍ لنَهْجِ الإمامِ أحمدَ إلا أنَّه متَّبِعٌ له لا مقلِّدٌ له، وفَرْقٌ بين «الاتباع» و«التقليد». فـ «الاتباع»: هو الموافقة والاقتداء بالسَّلَف الصالح في منهجهم الواضح عن بَيِّنَةٍ ومعرفةٍ وبصيرةٍ بما هم عليه، فالاقتداء بالعالم إنما هو باتباع منهجه -بعد معرفة أنه على الحق- والانتفاع بفهمه وبيانه وروايته، وهذا ليس بتقليد بل هو اتباع. وأما «التقليد»: فهو قبول القول بغير حجة، يعني: تقليدٌ أعمى. فالناظم بهذا يتبرأ من التقليد، وهذا شيءٌ طيِّبٌ، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يكون مقتديًا بالسلف الصالح وبالأئمة على بيِّنَةٍ وعلى بصيرة، لا يكون مقلِّدًا لأحد من الناس، فلا يقول بالقول الفلاني لأن الإمام المعيَّن الذي يُعَظِّمُه يقول به، بل عليه أن يكون مُتَّبِعًَا

1 / 43

لا مقلِّدًا، لكن الانتفاع بفهم أولئك الأئمة واستنباطهم ورواياتهم وبيانهم هذا لا بد منه؛ لأن هذا العلم إنما جاءنا من طريقهم، فلا نستبد عنهم بفهمٍ يُخَالِف فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين. قال الناظمُ ﵀: ٨. وَأَجَبْتُ عَنْ تَسْآلِ كُلِّ مُهَذَّبِ ... ذِي صَوْلَةٍ يَومَ الجِدَالِ مُسَوَّد قوله ﵀: «وَأَجَبْتُ» أي في هذا النظم، «عَنْ تَسْآلِ» «التَّسْآل» مصدرٌ بمعنى السؤال. والمعنى: أني أجبتُ في هذا النظم عن سؤال كل طالبِ علمٍ، مُهَذَّبِ الأخلاقِ، مُؤدَّبٌ في طلبه للعلم من حيث قصده ومطلوبه وأسلوبه في السؤال. وقوله: «ذِي صَوْلَةٍ» يعني: صاحب قوَّةٍ في البيان والمناظرة، مقتدرٍ في ذلك، لا للانتصار للرأي بل لبيان الحق وإظهاره، فهذا هو الذي يمدح في الجدال والبيان والمناظرة والحِجَاج. وقوله: «يَومَ الجِدَالِ» وقع في بعض النسخ: «عند الجدال» وهي أنسب. وقوله: «مُسوَّدِ» يعني: ذي سيادة بأخلاقه، وحصافة عقله، وحسن بيانه ومقدرته، ومن كانت هذه صفته كان جديرًا أن يتخذه الناس سَيِّدًا. قال الناظمُ ﵀: ٩. هَجَرَ الرُّقَادَ وَبَاتَ سَاهِرَ لَيلِهِ ... ذِي هِمَّةٍ لاَ يَسْتَلِذُّ بِمَرْقَد في هذا البيت يثني الناظمُ ﵀ على هذا الصِّنْف من طلاَّبِ العلمِ ذَوِي الهِمَمِ العَالِيَةِ، فقال عنهم:

1 / 44

«هَجَرَ الرُّقَادَ» يعني: ترك النَّومَ، والمراد به النوم الفضولي، وأما النوم من حيث هو فلا بُدَّ للإنسان منه، يَسْتَجِمُّ به، ويستعِيدُ به نشاطَه وقوَّتَه. وقوله: «وبَاتَ سَاهِرَ لَيلِه» فهو يَسْهَرُ لكن لا كَسَهَرِ أكثر النَّاس اليوم، تجدهم يسهرون في الفضول أو على باطلٍ وحرام، وأما هذا فسهره في طلب العلم بالمذاكرة والمجالسة لأهله وبالقراءة واستخراج العلم من مستَودَعَاتِه وخَزَائِنِه التي هي تُرَاثُ العُلَمَاءِ ومؤلفاتهم. وقوله: «ذِي هِمَّةٍ» يعني: صاحب هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، له طموحٌ وأهدافٌ لا يَقْنَع باليسير ولا بالقليل، بل يسعى في تحصيل معالي الأمور فهو «لا يَسْتَلِذُّ بِمَرْقَدِ» أي: لا يستلذ بالنوم لهذه الهمة العالية والمطلب الكبير الذي يسعى له، فلا يأخذ من النوم إلا بأقل القليل. وهذا وصفٌ جميلٌ مَلِيحٌ. قال الناظمُ ﵀: ١٠. قَومٌ طَعَامُهُمُ دِرَاسَةُ عِلْمِهِمْ ... يَتَسَابَقُونَ إِلى العُلاَ وَالسُّؤدَد في هذا البيت انتقل الناظمُ ﵀ من وصف هذا النموذج من ذوي الهمم العالية وعاد يعبّر عن المجموعة وعن الجنس فقال عنهم: «قَومٌ طَعَامُهُمُ دِرَاسَةُ عِلْمِهِمْ» أي: هذا الصنف الذي سبق وصفه في الأبيات السابقة طعامُهُم وغذاؤُهُم هو دراسةُ العلمِ ومذاكرتُه، فهم يتلذَّذُونَ بطلبِ العلمِ والسعي في تحصيلِه، ويتحمَّلون المشاقَّ في سبيلِ ذلك أكثر مما يتلَذَّذُ أصحابُ المطاعمِ والملذَّاتِ بالطعامِ والشرابِ وسائرِ اللذات، فهؤلاء طعامهم غذاءٌ للعقول والأرواح، وأولئك طعامهم غذاءٌ للبطون والأبدان، والفرقُ بين الفريقين كالفرقِ بين الثَّرَى والثُّرَيَّا.

1 / 45

وقوله: «يَتَسَابَقُونَ إِلَى العُلاَ» أي: يتسابقون إلى الخيرات، ويتنافسون في تحصيلها، وهذا -ولا شك- مطلبٌ مهمٌ. ومن ذلك: المنافسةُ في طلبِ العلم، وفي الأعمال الصالحة، وفي القيام بالمهام العظيمة، فنحن في هذه الدنيا في ميدان تنافس وسباق، فنسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين. وقد أمر الله ﷿ عباده بالمسابقة إلى الخيرات، فقال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة ﵀ ١٤٨، والمائدة ﵀ ٤٨] في موضعين من كتابه، وقال سبحانه: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)﴾ [الحديد: ٢١]، وأمرهم بالمسارعة، فقال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)﴾ [آل عمران:١٣٣]، وأمرهم بالمنافسة فقال: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦)﴾ [المطففين:٢٦]. وقوله: «إِلَى العُلاَ» أي: إلى المنازل العالية والرتب الرفيعة، وذلك بالأعمال الصالحة النافعة، وبالجهود المخلصة الصادقة. وقوله: «وَالسُّؤدَدِ» أي: السيادة، ولا ريب أن من آمن واتقى نال السعادة والسيادة، ولا ريب كذلك أن تحصيل العلم النافع من أعظم أسباب السيادة. فهذه هي سيرة هذا الصِّنْفِ من أهل العلم وطُلاَّبِه. فالناظمُ ﵀ يستثير بهذه الأبيات همم طلاب العلم، ويستنهض همم المبتدئين منهم أو المتقاعسين لتحصيل ما سيذكره من مسائل، وما سيقرره من تأصيل.

1 / 46

فهو يستثير هممهم بوصف هذا النوع من طلاب العلم بالجد والاجتهاد وطلب المعالي، والصبر والمصابرة وسهر الليالي. قال الناظمُ ﵀: ١١. قالوا: بِمَا عَرَفَ المكَلَّفُ رَبَّهُ؟ ... فَأَجَبْتُ: بِالنَّظَرِ (١) الصَّحِيحِ المُرْشِد هذا أول الشروع في المقصود، وقد ذكر الناظمُ ﵀ المسائلَ التي قصد بيانها بطريقة السؤال والجواب، فكل بيت فيه سؤال وجواب. قوله: «قالوا: بِمَا عَرَفَ المكَلَّفُ رَبَّهُ؟» «بِمَا» لعل الإشباع هنا للوزن، وإلا فالأصل أن «ما» الاستفهامية إذا دخل عليها حرفُ الجَرِّ -كاللام أو الباء مثلًا- تُحْذَف أَلِفُهَا، فيقال: «بِمَ» و«لِمَ». و«المُكَلَّف» في اصطلاح الأصولين هو: الإنسانُ العاقلُ البالغُ. وهذا الذي ذكره الناظمُ ﵀ هنا هو من جنس قول الشيخ محمد بن الوهاب ﵀ في «الأصول الثلاثة»: (إذا قِيلَ لَكَ: بِمَ عَرَفتَ رَبَّكَ؟ فَقُل: بآياتِه ومخلوقَاتِه). ولَمَّا ذكر الناظمُ ﵀ السؤال عقَّبه بذكر الجواب فقال: «فَأَجَبْتُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ المُرْشِدِ» أي: عَرَفَ المكَلَّفُ رَبَّه بالنظر الصحيح

(١) وقع في مطبوعة الشيخ محمد ابن مانع: (بِالنَّظْمِ) -بالميم-، ووَجَّه ﵀ العبارةَ بقوله: (مراده بـ «النَّظْمِ»: النظم المعهود، وهو انتظام العالم على أكمل الوجوه، كما قال ابن المعتز: فَيَا عَجَبًا كيف يُعْصَى الإِلَهُ ... أم كيفَ يَجْحَدهُ الجَاحِدُ وفي كُلِّ شيءٍ لهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أنَّه وَاحِدُ) قلتُ: وما أثبَتُّه هو ما عليه عامَّةُ النُّسَخِ، وما وقع في مطبوعة الشيخ ابن مانع لم أره في غيرها، والله أعلم.

1 / 47

المرشِد، وحَذَفَ النَّاظِمُ جملةَ (عَرَفَ المكَلَّفُ رَبَّه) من الجواب اكتفاءً بورودها في السؤال. وقوله: «بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ المُرْشِدِ» أي: بنظر العقلِ المستقيمِ المرشِد إلى المطلوب، وذلك بالتفكر في مخلوقات الله، ولا شك أن النظر والتفكر في مخلوقات الله طريقٌ إلى معرفة الله ﷿. فمعرفة الله ﷿ تحصل بثلاثةِ طُرُق: ١. بالفطرة. ٢. وبالعقل، وذلك بالنظر والتفكر في مخلوقات الله ﷿. ٣. وبالوحي. لكنَّ المعرفة الحاصلة بالفطرة وبالعقل هي معرفةٌ إجماليةٌ، فالعبدُ يعرفُ رَبَّه بمقتضى الفطرة، فهو مفطورٌ على أنه لا بد له من خالقٍ، بل لا بد لهذا العالم كله من خالق، وهذا أمرٌ فِطْرِيٌّ. ثم إنَّ النظر في السموات والأرض والتفكر فيهما مما تحصل به معرفة الله ﷿، فهذا العالم لا بد له من خالقٍ وصانِعٍ، وصانِعُه قادرٌ وحكيمٌ وعليمٌ وهكذا. فالنظرُ الصحيحُ طريقٌ من طُرُقِ المعرفةِ، لكنَّ الطريقَ الأعظم لمعرفة الله معرفةً تفصيليةً هو بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأفعاله الحكيمة المتضمنة للحكمة والعدل والرحمة. وهذه المعرفة طريقُها الوحي الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)﴾ [سبأ:٥٠] ولهذا سمى اللهُ الوحيَ الذي بعث به محمَّدًا ﷺ نورًا ورُوْحًَا؛ لأنه هو الذي به الإبصار التام، قال الله ﷿: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ

1 / 48

وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)﴾ [الشورى: ٥٢]. فقوله: «بِالنَّظَرِ» هذا صحيحٌ، فإنَّه بالنَّظَر والتفكُّر يُعْرَفُ الله ﷿، لكنه ليس هو الطريق الوحيد لمعرفته سبحانه. وهذه المسألة التي ذكرها الناظم غير مسألة: «أَوَّلُ وَاجِبٍ هو النَّظَرُ»، فنحن وإن قلنا إنَّ «النَّظَرَ الصَّحِيحَ» طريقٌ إلى معرفة الله ﷿، لكننا لا نقول بأن أول واجب على المكلف هو النظر، أو القصد إلى النظر، بل هذا قولُ أهل الكلام، وهو قولٌ مُبْتَدَعٌ (١)، بل إن أوَّلَ واجبٍ على المكلَّف هو الشهادتان -شهادةُ أن لا إِلَهَ إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله- وهذا هو مذهب أهل السنة في هذه المسألة.

(١) ينظر: «درء تعارض العقل والنقل» (٧/ ٣٥٢ و٤٠٥) و(٨/ ٣)، و«مدارج السالكين" (٣/ ٤١٢).

1 / 49

قال الناظمُ ﵀: ١٢. قَالُوا: فَهَل رَبُّ الخَلائِقِ وَاحِدٌ؟ ... قلتُ: الكَمَالُ لِرَبِّنَا المُتَفَرِّد قوله: «قَالُوا: فَهَل رَبُّ الخَلائِقِ وَاحِدٌ؟» هذا هو السؤال، أي: هل ربُّ المخلوقات واحدٌ، أو للمخلوقات أربابًا متعدِّدِين؟ فأجاب الناظم عن هذا السؤال بقوله: «قلتُ: الكَمَالُ لِرَبِّنَا المُتَفَرِّدِ» يعني: أنَّ الكمالَ في الصفاتِ والأفعالِ هو لرَبِّنَا ﷾. وقوله: «المُتَفَرِّدِ» يعني: المتَوَحِّد، فهو سبحانه الفرد الذي لا رب غيره ولا إله سواه، فهو سبحانه لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته ولا في أسمائه وصفاته، وهذه كلمةٌ عامَّةٌ، فإذا قلنا: (اللهُ واحدٌ) فمعناه: أنَّه واحدٌ في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته. فَإنَّ وَصْفَ الله تعالى بـ «التفرُّدِ» مطلقًا يتضمن أنواع التوحيد الثلاثة، فهو سبحانه واحدٌ في ربوبيته فلا رب غيره، وواحدٌ في إلهيته فلا معبود سواه، وواحدٌ في أسمائه وصفاته فلا شريك له، ولا مِثْل له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله على حَدِّ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)﴾ [الشورى:١١]. وَوَصْفُهُ سبحانه بـ «الكمال» مطلقًا يتضمن إثبات جميع صفات الكمال على وجه الإجمال، وتنزيهه عن جميع النقائص على وجه الإجمال كذلك. وجوابُ النَّاظِمِ عن السؤالِ بقوله: «قلتُ: الكَمَالُ لِرَبِّنَا المُتَفَرِّدِ» مفادُهُ أنَّ ربَّ الخلائق واحدٌ لا ربَّ سواه، فهو ﷾ خالقُ كلِّ شيءٍ ومليكُه ومالكُه، وهو الإله الحقُّ الذي لا يستحق العبادة أحدٌ سواه.

1 / 50

قال الناظمُ ﵀: ١٣. قَالُوا: فَهَلْ تَصِفُ الإِلَهَ؟ أَبِنْ لَنَا ... قُلْتُ: الصِّفَاتُ لِذِي الجَلاَلِ السَّرْمَد قوله: «قَالُوا: فَهَلْ تَصِفُ الإِلَهَ؟» هذا السؤال معناه: هل تثبتُ لله صفاتٍ؟ «أَبِنْ لَنَا» أي بَيِّن لنا مذهَبَك، أو بَيِّن لنا الصوابَ في هذه المسألة. فأجاب بقوله: «قُلْتُ: الصِّفَاتُ لِذِي الجَلاَلِ السَّرْمَدِ» يعني: الصفاتُ لله ذي الجلال السرْمَدِ، و«السَّرْمَد» هو: الدَّائِم. وقوله: «السَّرْمَد»: يحتمل أن تكون صفةً لـ «الجلال»، يعني: الجلال الدائم، فصفات الله دائمة، ويحتمل أن تكون صفة لله ﷿، فهو سبحانه الدائم الذي لا يزول، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخِرُ الذي ليس بعده شيء، كما عَبَّر عن ذلك الطحاويُّ في «عقيدته» المشهورة، بقوله: (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاء، دَائِمٌ بِلا انْتِهَاء). وهذا الجواب من الناظم فيه نوعُ إجمالٍ، وهو جوابٌ مُقْتَضَبٌ، ولعل عذره في ذلك أنه في مقام نظمٍ، بل هو نظمٌ مختصَرٌ، فلا يكون الجواب فيه واضحًا كما ينبغي. والمهم أنَّنا نأخذ من هذا أنَّ الناظمَ ﵀ يُثْبِتُ الصفات في الجملة، فليس هو من النفاة المعطِّلة كالجهمية والمعتزلة الذين يقولون: إنه ﷾ لا تقوم به أيّ صفة، بل هو بهذا الجواب معدودٌ في المُثْبِتَة؛ مُثْبِتَةِ الصِّفَات. لكن ليُعْلَم أنه إذا قيل: (مُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ) فإنه يدخل فيهم من كان يثبت ولو بعض الصفات كالأشاعرة، لأنَّ الأشاعرة والكُلاَّبِيَّة هم من المثبتة في الجملة، فليسوا من المعطلة التعطيل العام كالمعتزلة والجهمية.

1 / 51

قال الناظمُ ﵀: ١٤. قَالُوا: فَهَل تِلْكَ الصِّفَاتُ قَدِيمَةٌ ... كَالذَّاتِ؟ قُلتُ: كَذَاكَ لَمْ تَتَجَدَّدِ (١) قوله: «قَالُوا: فَهَل تِلْكَ الصِّفَاتُ قَدِيمَةٌ كَالذَّاتِ؟» هذا هو السؤال، يعني: هل هذه الصفات التي أثبَتَّها -في البيت السابق- قديمةٌ كذاتِه أم لا؟ فأجاب بقوله: «قُلتُ: كَذَاكَ» يعني: أنَّ الأمر كما قلتُم من أنَّ صفات الله قديمة كذاته، ويؤكد الناظم ذلك بقوله: «لَمْ تَتَجَدَّدِ»، فقوله: «لَمْ تَتَجَدَّدِ» شرحٌ وبيانٌ وتأكيدٌ لقوله: «قُلتُ: كَذَاكَ» يعني: الأمرُ كما ذُكِرَ من أنَّ صفات الله كذاته قديمةٌ لم تتجَدَّد. والمراد بـ «القديم» في مثل هذا المقام -مقام الكلام في ذات الله وصفاته- هو الذي لا بداية لوجوده ولم يُسبق بِعَدَم، فالله قديمٌ بهذا الاعتبار، ولكن لا يصح أن يطلق «القديم» باعتباره اسمًا من

(١) بالتاء المثناة من فوق، ووقع في بعض النسخ: (لم يَتَجَدَّدِ) بالياء المثناة من تحت. قال العلامة الشيخ عبدالله أبا بطين في حواشيه على «لوامع الأنوار البهية» للسَّفاريني (١/ ١١٢): (إن أرادَ المؤلِّفُ بكونها «قديمةٌ» أنها غير مخلوقةٍ فصحيحٌ، لكن كان ينبغي أن يُعَبِّر بقوله: غير مخلوقة، ولا يأتي بلفظٍ مجمَلٍ، وإن أراد أنها قديمةٌ في الأزل، فهذا مما يحتاج فيه إلى التفصيل الذي يتبين به الحق من الباطل، فإنَّ الصفات قسمان: ١. صفاتٌ ذاتية: كالحياة والعلم والقدرة ونحوها، مما لا ينفك الله عنها فهي صفات قديمة. ٢. صفاتٌ فعلية: فهذه نقول فيها أنَّ جنسَها ونوعَها قديمٌ، وأما بالنسبة إلى كلِّ فعلٍ فإنَّ الله لم يزل ولا يزال يُوجِدُ أفعالَه شيئًا فشيئًا، فهذا استواؤه على عرشه بعد أن خلق العرش ... ولا يمكن أن يتصوَّر عاقلٌ أنَّ استواءَه كذلك قبل أن يخلق العرش).

1 / 52

أسماء الله ﷿، وأما على سبيل الإخبار فيصح إطلاقه على الله ﷿، فيقال: (الله قديمٌ) بمعنى: أنه لا بداية لوجوده (١). وقول الناظم ﵀: «قُلتُ: كَذَاكَ لَمْ تَتَجَدَّدِ» يعني: أن صفاته كذاته قديمةٌ لم تتجدد، وفي هذا الإطلاق نظر، فإن صفات الله نوعان: ١. صفاتٌ قديمةٌ لا بداية لها كذاته، وهي ما يسمَّى في اصطلاح أهل العلم بـ «الصفات الذاتية»، وهي: الصفات اللازمة لذاته التي لا تنفك عن ذات الرب ولا تنفك عنها الذات ولا تتعلق بها المشيئة، مثل: حياته سبحانه، فحياة الله قديمة، وعلمه قديم، وسمعه قديم، فإنَّه سبحانه لم يزل سميعًا، ولم يزل بصيرًا، ولم يزل عليمًا، ولم يزل عزيزًا، ولم يزل حَيًَّا قَيُّومًَا .... إلخ. ٢. صفاتٌ فعلِيَّةٌ، وهي: الصفات التي تتعلق بها المشيئة، كما نقول: إنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا إذا شاء، واستوى على العرش حين شاء، وهو يعطي إذا شاء، ويمنع إذا شاء، ويؤتي المُلْكَ مَن يشاء وينزعه ممن يشاء، هذه أفعالٌ متعلقةٌ بمشيئته سبحانه. ومن الصفات أيضًا: صفاتٌ ذاتِيَّةٌ فعلِيَّةٌ، فهي قديمَةٌ من وجهٍ، حادِثَةٌ من وجهٍ آخَرَ، ومثاله: الكَلامُ والخَلْقُ، فإنَّه سبحانه لم يزل متكلِّمًا

(١) قال ابن القيم في «بدائع الفوائد» (١/ ١٦٩ - ١٧٠): (ويجب أن يُعلَم هنا أمورٌ: أحدُها: أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته كالشيء والموجود والقائم بنفسه، فإنه يُخْبَرُ به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا)، إلى أن قال: (السابع: أنَّ ما يُطلَق عليه سبحانه في باب الأسماء والصفات توقيفيٌّ، وما يُطلق عليه في باب الإخبار لا يجب أن يكون توقيفيًَّا كالقديم والشيء والموجود والقائم بنفسه. فهذا فصلُ الخطاب في مسألة أسمائه هل هي توقيفية؟ أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يرد به السمع؟) أ. هـ

1 / 53