Explanation of Sahih al-Bukhari by Al-Huwaini
شرح صحيح البخاري للحويني
Genres
شرح صحيح البخاري [١]
إن لطلب العلم أهمية عظيمة، فبالعلم نعبد الله ﷿ على بصيرة، ونقوم بتبليغ دينه للناس، وتبصيرهم بأوامر الله تعالى وضرورة الإتيان بها، وتعريفهم بالمناهي الشرعية وضرورة اجتنابها، ويختص العلم الشرعي بأهمية عظمى ألا وهي الذود عن الكتاب والسنة، ورد أهل الأهواء والبدع ودحر باطلهم، وكشف عوارهم، وفضحهم على رءوس الأشهاد؛ ليقفوا عند حدهم، ويعرفوا قدرهم، ولقد ظهر في عصرنا من يطعن في السنة النبوية الصحيحة، وما ذلك إلا لأننا لم نعد نهتم بطلب العلم الشرعي، فبدون العلماء لن نستطيع أن نرد على هؤلاء الأفاكين، حيث إنهم يلبسون على الناس ويأتون بشبه قد تنطلي على كثير ممن ينتسب إلى الصحوة فضلًا عن العامة الذين لا يعلمون من الدين إلا قليلًا، فكان لابد من وجود العلماء الربانيين من أجل حماية هذا الدين، وإظهاره للناس نقيًا كما أوصله إلينا سلفنا الصالح.
1 / 1
أهمية طلب العلم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
فهذا هو المجلس الأول بحمد الله تعالى في شرح كتاب العلم من صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى.
وقبل أن نبدأ في شرح الكتاب هناك مقدمة ضرورية، وهي: لماذا نتعلم العلم؟ ولماذا نهتم بكتب الحديث؟ هناك في هذا العصر ردة عن السنة والأصالة، وهي متمثلة في جيش من العلمانيين، الذين أقطع وأقسم غير حانث -إن شاء الله- أنه لو بُعث رسول الله ﷺ الآن لقاتلوه، مثلما قاتلت قريش رسول الله ﷺ، ولما سلموا بالوحي الذي جاء به.
هؤلاء دخلوا مع المسلمين في معركة كمثل الجيش الذي إذا أراد أن يزحف على موقع أطلق قنابل الدخان؛ حتى يعكر الجو، ثم يزحف من تحت هذا الدخان إلى المواقع التي يريد غزوها.
هذا الجيش من العلمانيين أطلق سحب الدخان على السنة، وأتى بكل نقيصة أجاب عنها العلماء إجابات وافية، وأطلقوها شبهات على أقوام لا يعرفون شيئًا عن السنة، فانطلت كثير من هذه الشبهات على كثير من المسلمين بكل أسف! بل وعلى الذين ينتسبون إلى هذه الصحوة.
1 / 2
تلبيسات أهل الأهواء والبدع وردود العلماء عليهم
أذكر عندما كانت صحيفة النور تُصدر مقالات لغلام بيطري جاهل، فقد كان يكتبها تحت عنوان: "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" ونحن نعلم أن أكثر الناس مغرم بالعناوين، يحفظون العناونين وينسون المضامين، لذلك كان هذا الكاتب المخذول ناجحًا باختيار العنوان لما يريد هو، لمّا قال: "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" الناس نسوا ما قاله هذا الكاتب المغبون وحفظوا العنوان، والإنسان كلما عنون بعنوان يدل على المضمون كان موفقًا، وإلا فالعناوين المبهمة لا تؤدي الغرض.
فمثلًا السيوطي ﵀ له كتاب اسمه: " إسدال الكساء على النساء " فلو سألتك دون أن تطلع على الكتاب: ما هو موضوع الكتاب؟ ستقول لي: حجاب المرأة المسلمة والجلباب أليس كذلك؟ لكن السيوطي يتكلم عن قضية مختلفة تمامًا وهي: هل النساء يرين الله ﷿ في الجنة كالرجال أم لا؟ مثلًا: من العلماء المعاصرين الشيخ الجزائري عندما كتب: " إلى التصوف يا عباد الله " كان هدفه أن يشتري المتصوفون هذا الكتاب، بحيث يظن الصوفي أن كتاب: إلى التصوف يا عباد الله دعوة إلى التصوف؛ فيأخذ الكتاب ويفاجأ بأنه يهدم التصوف.
فنحن نقول: هذه الطريقة في العنونة غير دقيقة وغير صحيحة لماذا؟ لأن المتصوف الغالي في التصوف إذا أخذ الكتاب وقرأ فيه خلاف ما يعتقد رماه، وبالمقابل سيرغب عن هذا الكتاب كثير من الذين ينبغي أن يتحصنوا ضد التصوف، فلا تزال العناوين أنساب الكتب.
فلما عنون هذا الكاتب لمقالاته التي نشرها فيما بعد بهذا العنوان: "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" رد عليه كثير من المشايخ، وأتوا على بنيانه من القواعد، فعندها تألم الرجل وانزعج؛ لأن الذين ردوا عليه أو هاجموه لم يقرءوا الكتاب، وقال: ينبغي أن تقرءوا الكتاب ثم تردوا علي.
نحن نقول: من وضع الحكم في العنوان، لا يقرأ كتابه؛ لأنه طالما وضع حكم المسألة في العنوان، حيث قال: بتحريم النقاب، انتهى، ومثال ذلك: لو أنك رأيت غلافًا عند قاعة الكتب مكتوبًا عليه: "غاية المنى في تحريم الزواج واستحباب الزنا" -مثلًا- بهذا العنوان، هل أنت محتاج لأن تقرأ صفحات هذا الكتاب؟ لا.
لأن من المعلوم استحباب الزواج وتحريم الزنا لا العكس، إذًا: فلا حاجة إلى قراءة مثل هذا الكتاب.
في إبان نشر هذه المقالات السابقة التي بعنوان: تحريم النقاب.
تكلم الكاتب عن مفهوم المخالفة في مقالاته، وتبين لنا أن الرجل جاهل -فعلًا- بالأصول، مع كثرة استخدامه لكلمة الأصول، ففي كل سطرين يقول لك: كما هو مقرر في الأصول، وهذا القناع ليتقي به ضربات الناس، ويموه على الجهلة في أنه ينطلق من أصول ثابتة.
إن العلماء عندما تكلموا في مسألة النقاب احتجوا بقوله ﷺ: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين) ومعروف أن الحكم إذا قيد كان الحكم للقيد، ومثل قوله: قال ﷺ: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح) فتقييد الولد بالصلاح يثبت الوصف للصلاح وينتفي عما عداه.
فهذا يعني أن الولد الفاسد لا ينفع والده، طالما قيد الحكم بوصف: (ولد صالح) ولو قال: (ولد) وسكت، ولم يقيده بوصف لدخل فيه كل ولد، سواء كان صالحًا أو فاسقًا أو فاسدًا.
إلخ، لكنه طالما قيد الوصف بالصلاح فثبت الحكم لهذا القيد وانتفى عما عداه.
فإذا قال النبي ﵊: (لا تنتقب المرأة المحرمة) فالنهي إنما هو وصف للمحرمة، وينتفي عما عداه، مثل المرأة الحلال التي لم تحرم، فهذا يسميه العلماء أخذ الحكم من مفهوم المخالفة.
فأنت تعلم أن الكلام له ظاهر وباطن، فظاهر الكلام: هو الذي يوضع الكلام من أجله، ولك أن تسميه (منطوقًا)، وباطن الكلام: هو عكس الظاهر.
فمثلًا: قال الله ﷿: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات:٦] فإن جاءك عدل بنبأ فليس عليك أن تتبين، إذًا: مفهوم الكلام أن الفاسق نتبين من خبره، وعكس الكلام -بطنه- إن العدل لا نتبين منه، بل نأخذ منه الكلام بدون تبين.
فالرجل قال: إنكم تحتجون بمفهوم المخالفة كما في قوله ﷺ: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين) وقلتم: المرأة غير المحرمة تنتقب وتلبس الفقازين.
إذًا سأورد عليكم إشكالات، قال الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران:١٣٠] فيمكن أكله ضعفًا واحدًا في مفهوم المخالفة؟ أليس كذلك؟ وقال أيضًا: ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:١٩٧] إذًا: يجوز أن يكون هناك رفث وفسوق وجدال في غير الحج.
أراد أن يبين أن مفهوم المخالفة لا يحتج به، ونحن لا ننسى أن مفهوم المخالفة ليس متفقًا على حجيته، لكن الراجح أنه يحتج به.
وجاء صاحبي إلي -وهو من أهل التحري- عندما قرأ المقالة التي كان فيها مفهوم المخالفة لذلك الكاتب، جاء وقال لي: الرجل اليوم كتب مقالة قوية جدًا، وأتى بأدلة قوية على أن مفهوم المخالفة لا يعمل به.
والأدلة القوية هي كالتالي: قوله تعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران:١٣٠] .
وأيضًا قوله تعالى: ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:١٩٧] .
وأيضًا قوله تعالى: ﴿وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ [النور:٣٣] فقيل: إن لم يردن تحصنًا فلهم أن يكرهوهن على البغاء؟! فهذا هو بطن الكلام.
المشكلة أن ينطلي هذا الكلام على شاب من شباب الصحوة، مع أن الكاتب فاسق بميزان العلماء.
1 / 3
معنى قاعدة: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له
إن العلماء يقولون: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له.
وهذه هي القاعدة التي جهلها هذا البيطري، وهذه القاعدة تعني: أن العرب كانوا يأكلون الربا أضعافًا مضاعفة بالفعل، كان هذا واقعهم وغالب فعلهم، فنزل الكلام تنبيهًا على غالب الفعل.
إذًا: مفهوم المخالفة غير مطلوب وليس محصورًا، فمفهوم المخالفة في هذه الحالة غير مقصود ألبتة، إنما خرج الكلام على غالب فعل الناس، فإذا كان الكلام قد خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، مثل هذه الآية: ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران:١٣٠] فلا يقولن قائل: إذًا الربا القليل يجوز والكثير المضاعف لا يجوز.
نقول له: لا، العرب كانوا يأكلون الربا مضاعفًا، فقال لهم: لا تأكلوا الربا مضاعفًا، نزل الكلام على فعلهم، إذًا: مفهوم المخالفة هنا غير مقصود، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ [النور:٣٣] كان هذا هو فعلهم وواقعهم بالفعل، فقال لهم: ﴿وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ [النور:٣٣] .
ومثله قوله ﷺ: (لا تصوم امرأة وزوجها شاهد بغير إذنه غير رمضان) فكلمة "شاهد" خرجت مخرج الغالب لماذا؟ لأن الزوج إنما يحتاج الزوجة وهو شاهد حاضر، لكن إذا كان الرجل مسافرًا فلماذا يمنعها من الصيام؟ فلما كان غالب حاجة الرجل للمرأة إذا كان شاهدًا حاضرًا، قيل لها: لا تصومي ما دام زوجك شاهدًا، فخرج القيد مخرج الغالب وإلا إذا سافر الرجل وقال لامرأته: لا تصومي وأنا غائب؛ فإنه لا يحل لها الصيام لو نص على ذلك.
وقال ﵊ أيضًا: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح) وكلمة "باتت" تدل على الليل، وحتى تصبح يؤكد أن المسألة بالليل، لأن داعي هذا الفعل لا يكون إلا ليلًا عادةً، فجاء النص وجاء الكلام عليه، وإلا فإن المرأة إذا طلبها زوجها نهارًا فأبت وهجرت فراشه لعنتها الملائكة أيضًا، إنما نص ﵊ على الليل؛ لأن الداعي لهذا الفعل لا يكون إلا ليلًا.
إذًا: هذا معنى أن الكلام يخرج مخرج الغالب، فإذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له.
1 / 4
دور العلماء في الذود عن السنة
فِلَم شباب الصحوة ومن كنا نظن أن فيه التحري ينساق وراء مثل هذه الشبهات التي تشبه الدخان في الهواء؟! هؤلاء العلمانيون يثيرون مثل هذه الشبهات على السنة سندًا ومتنًا، ويتسترون بها من أجل هدم الدين.
إذًا: نحن في أمس الحاجة إلى ثلة من العلماء، يذودون عن حياض السنة، وإنما كان الهجوم على السنة لأكثر من سبب: أولًا: لأن القرآن لا يستطيع أحدٌ أن يطعن في لفظه، ولا يدعي فيه نقصانًا أبدًا، والقرآن له جلالة ومكانة عظيمة عند الناس، فأي واحد يقترب من القرآن يدفعونه بشدة.
ثانيًا: لأن القرآن نقل بالتواتر، بل بأعلى درجات التواتر العام، نقله الجيل عن الجيل عن الجيل، والسنة أكثر أحاديثها آحاد يرويها الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة ممن لم يبلغوا حد التواتر.
ثم وضع الكذابون من الأحاديث ما لا يعلمه إلا الله، فشككوا الناس في السنة، وما أدراك قد يكون هذا مما وضعه الكذابون وأنت لا تدري؟ فاختلط الغث بالسمين، وأكثر الناس لا يعلمون جهود المحدثين في هذا الباب، فينطلي عليهم مثل هذا القول.
ثم يحتجون بأن الناس غير معصومين في النقل، فيمكن أن يخطئوا، ويأتي بأحاديث في البخاري ومسلم فعلًا أخطأ الرواة فيها، فيقول لك: مثلما أخطئوا هنا فلم لا يخطئون في هذه اللفظة؟ مع أنها تخالف المعقول والمنقول، والمتواتر، والقواعد العامة.
وأكثر الناس لا علم له بهذا الواقع؛ فتنطلي عليه مثل هذه الشبهات.
اعلم أن السنة واسعة جدًا، لأنها هي الأدلة التفصيلية، وهي البيان لكتاب الله ﷿، فإن لم يكن هناك جيش يدفع عن حديث النبي ﵊ فلن يبقي في أيدي الناس شيء من السنة.
إن العلماء هم بمثابة الجهاز المناعي لهذه الأمة، فأخطر مرض معلن حتى الآن هو مرض (الإيدز)، ومرض (الإيدز) يصيب الجهاز المناعي، الذي معناه: أن أي مرض مهما كان دقيقًا وتافهًا يمكن أن يقتل الإنسان إذا أصيب الجهاز المناعي لديه.
فالعلماء هم الجهاز المناعي لهذه الأمة، وبقاء هذه الأمة حية حتى الآن مع ضعفها وكثرة أعدائها معجزة، وهذا دليل على أن الله ﷿ هو الذي يكلؤها بحفظه ورعايته، لكن لابد أن نقوم بما أوجب الله علينا من حفظ الدين، ولا يكون ذلك إلا بتعلم العلم.
1 / 5
كتب البيطري المبتدع واغترار الجهلة به والرد عليه
إن هذا الغلام البيطري له كتب -وكل كتبه عليها علامات الخذلان- فأول كتاب له: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب)، وثاني كتاب: (شرح الصدر بنفي عذاب القبر)، انظر إلى الاسم، جعله مثل: غاية المنى في تحريم الزواج واستحباب الزنا، فسماه: (شرح الصدر بنفي عذاب القبر) .
وثالثة الأثافي: كتاب: "تبصير الأمة بحقيقة السنة"، ذهب فيه إلى أن السنة لا تثبت إلا من حيث الجملة، يعني: أن هناك شيئًا اسمه السنة فقط، واتهم أبا هريرة ﵁ بالكذب مثل أسلافه من الروافض، مثل: محمود أبو رية وغيره، ثم لما جاء الدور على البخاري شيخ المحدثين، قال: إن البخاري لم يكن يدري شيئًا في الحديث فهذا افتراء واضح!! فأنت لو قلت مثلًا: سيبويه لا يعرف أن الفاعل مرفوع لحصبوك الناس بالحجارة، وهو -أي: سيبويه - مؤسس العلم هذا، كذلك الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث! وأستاذ الدنيا، تقول: لا يعرف شيئًا، البخاري الذي إذا ذكر الحديث ذكر البخاري، كما يقول ابن طاعن -عندما يذكر عنده البخاري -: كذا الكبش البطاح.
الكبش البطاح هو الذي إذا خبط واحدًا في رأسه قد يميته، بمعنى أنه لا يثبت له أحد في باب المناظرة، مثل الكبش لا يُغلب.
فهذا الجاهل ساء فهمه لأحاديث في البخاري؛ لأنه لم يطالع أقوال العلماء، ولا جثا بركبتيه بين يدي العلماء، فلو أنه رجع إلى العلماء فإنهم قد قرروا معانيها، ولكنه بسبب بعده عن العلماء أتى بالغرائب والعجائب الدالة على جهله.
فهو من أجل أن تمر مثل هذه السموم على الجهال قام في آخر صفحة من كتابه وكتب (النياشين) التي له، وأتى بصورته على الجلدة من الخلف ثم قام بكتب الشهادات التي حصل عليها، قائلًا: أولًا: تخرج معيدًا في كلية الطب البيطري.
ثانيًا: حضَّر (الماجستير) .
ثالثًا: أخذ (الدكتوراه) ومعلوم أن أي شخص يبدأ في الجامعة لابد أن يمر بهذه المراحل، هو قام بتعديد شهاداته؛ لأن أكثر الناس يغتر بمثل هذه (النياشين) حتى ولو كانت في غير تخصصه.
إذًا: المفروض أن هذا الرجل لا ينفع إلا للزريبة، فمن الذي أدخله في وسط العلم الشرعي؟ لماذا ترك الزريبة ودخل في وسط العلم الشرعي لماذا؟! عندما يقال: إنه كان معيدًا في الطب البيطري، وماجستير في الطب البيطري،.
دكتوراه في الطب البيطري، فهو إلى الآن في الطب البيطري، فلماذا يخوض في مسائل العلم الشرعي بدون تأهيل مع أن تخصصه في الطب البيطري؟! ثم بعد ذلك يقول: عُين بقرار وزاري عضوًا في اللجنة الثلاثية للسموم، وجعل هذا القرار بين قوسين، ولا أدري ما هي العلاقة بينه وبين العلم الشرعي؟ وكذلك الذي حصل على الماجستير في الفلسفة، ما هي علاقته بالعلم الشرعي؟ نحن كنا ننتظر أن يقول: عندي (ماجستير) في الشريعة، و(دكتوراه) في الشريعة، و(دبلوم) في الشريعة، الشيء الوحيد الذي أخذه حسب قوله هو دبلوم في القراءات لكن أكثر الناس بسبب جهلهم بالعلوم الشرعية يغتر بكثرة (النياشين) ويغتر بصاحبها، وأذكر لكم قصة صاحب القط الذي وجده، فمر به فرأه شخص فقال له: ما هذا السنور؟ والثاني قال له: ما هذا الهر؟ والثالث قال له: ما هذا القط؟ والخامس.
؟ فقال: كل هذه الأسماء لهذا القط، إذًا: ثمنه سيكون باهضًا، فدخل السوق وعرضه للبيع، فأصاب درهمًا واحدًا فرماه ضجرًا، وقال: قاتلك الله ما أكثر أسماءك وأقل غَنَاءَك! فهذا الشخص أيضًا كذلك، ما أكثر نياشينه وما أجهله في هذا العلم! لكن كما قلت: أكثر الناس أسير العناوين، فقد تمر على لافتة فيها: دكتور زميل الجراحين في بريطانيا، والنمسا وو.
و.
، خمسة أو ستة أسطر، يقول الناس: إذًا عنده خبرة، وفي الحقيقية لا يوجد معه إلا دبلوم.
عندما تقرأ مثل هذا كله وتقرأ اعتراضات هؤلاء على بعض الأحاديث تنشد قول الشاعر: أمور يضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها اللبيب الإنسان المسلم الغيور يبكي غربة العلم والعلماء، لو كانت هناك لجنة لكبار العلماء ما ظهر أمثال هؤلاء أبدًا، فهذه جمعية الرفق بالحيوان لها صلاحيات أكبر من مجلس كبار العلماء، وهذه حقيقة!!.
فهذا الدكتور أحمد شفيق -جراح الجهاز الهضمي، وهو في مجال الطب أحد المهرة المعروفين- لما قال: إنه اخترع دواء للروماتيز، وعالج بعض المرضى، لكن دون أن يمرر الدواء على لجنات وهيئات عالمية، لم تمنعه شهرته الطبية، ولا مكانه العلمي، ولا كثرة أبحاثه، من أن يوقفوه عن العمل، وأوقفوه عن ممارسة العمليات، وأغلقوا له العيادة، وقدم للمحاكمة لماذا؟ قالوا: إن أرواح الناس ليست لعبة، كيف يخترع دواء ويعالج به المرضى من غير أن يأخذ تصريحًا عالميًا به، إذًا هذا تعريض لأرواح الناس للخطر.
1 / 6
اعتراض البيطري المبتدع على البخاري والرد عليه
إن هذا الرجل يكذب ويقول: إن البخاري لا يدري شيئًا عن الحديث، ويطعن في الأحاديث الصحيحة، ألا يعد تعريضًا للدين للخطر؟ يقول: هذا الأفاك: إن المأساة العظمى في أمتنا أنهم يأخذون الدين تبعًا لشهرة الرجال، ولتذهب المبادئ العقلية إلى الجحيم هل هذا كلام؟! نقول له: إذًا: ما هذه المبادئ العقلية التي عندك؟ قال: إن في البخاري ومسلم أكثر من أربعين حديثًا مكذوبًا عن النبي ﷺ.
إذًا ما هي الأحاديث المكذوبة؟ قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم -قال- إلا بحقها) قال: هذا الحديث مخالف للقرآن.
إذًا أين المخالفة؟ قال: قال تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة:٢٥٦] فلماذا يقاتل الناس طالما لا إكراه في الدين؟ وقال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:٢٩] إذًا ربنا قال: فمن شاء، فترك هنا حرية الاختيار للنفس، فلماذا يقاتلهم؟ وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:٩٩] قال لك: أفأنت تكره، فكيف يحل القتال؟ إن مثل هذا الكلام يمكن أن ينطلي على كثير من الناس وقد لا يجد جوابًا أبدًا، ويقف محتارًا، لكن من كان عنده أثارة من عِلمٍ عَلِمَ تهافت مثل هذا الاعتراض، وأنه لا يرقى إلى باب الدليل، وإنما هي شبهة تزال بالبيان وليست دليلًا.
فالناس ثلاثة: مشرك صرف، أو مسلم، ومنافق.
الناس المقصودون في الحديث إما الثلاثة وإما واحد من الثلاثة فقوله ﷺ: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) انتهى، فإذا أسلم الرجل هل يبقى مندرجًا تحت هذا الحديث؟ لا.
فإذا نافق وقال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وكان يبطن الكفر، هل يبقى مندرجًا تحت هذا الحديث؟ لا.
إذًا من الذي يبقي؟ إنهم المشركون، إذًا الناس في هذا الحديث هم المشركون، وتظل لفظة الناس هنا لفظة عامة، أريد بها الخصوص، لفظ عام مخصوص، كما قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحج:٢٧] الناس في هذه الآية كل الناس أم المسلمون فقط؟ مع أن لفظة "الناس" لفظ عام ومحلى بالألف واللام فيفيد العموم، ومع ذلك فالكل يعلم أن المقصود في هذه الأية هم المسلمون دون غيرهم؛ لقوله ﷺ: (ألا لا يحج البيت بعد العام مشرك) إذًا يمكن أن يكون اللفظ لفظًا عامًا ويكون معناه خاصًا، ويمكن أن يكون لفظًا عامًا ومعناه عامًا، كقول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف:١٥٨] فجميعًا من صيغ العموم، وهنا أيضًا لفظة "الناس" محلاة بالألف واللام وهي من صيغ العموم، فهي عامة في السياق، فتفيد استغراق البشرية كلها.
إذًا: إذا قسمنا الناس إلى هذه الأقسام الثلاثة، وعرفنا أن القتال غير متوجه لمن آمن، وأيضًا غير متوجه لمن نافق، إذًا يبقى هذا الخطاب موجهًا إلى المشركين، وقد جاءت رواية النسائي قال: قال ﷺ: (أمرت أن أقاتل المشركين) هل هناك إشكال في هذا الحديث؟ فهذا مسلك أهل العلم في الجمع بين النصوص، وقد نص أهل العلم على ذلك، وهو كلام موجود في الكتب، لكن هذا الشخص مغبون، إذ حاد عن كلام العلماء، وعارض السنة بكتاب الله ﷿، والإمام أحمد يقول: (إن من علامات الزيغ أن تعارض السنة بظاهر القرآن)، هذه من علامات الزيغ، مثل الجماعة الذين ردوا حديث: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) بقوله ﵎: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام:١٦٤] .
فقالوا: إذا بكى أهل ميت على ميتهم.
فلماذا الميت يعذب ببكاء أهله عليه؟ والبخاري ﵀ قد بين ولفت النظر إلى أنه لا تعارض بين الآية والحديث، فقال: (باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه -ووضع قيدًا- إذا كان ذلك من سنته) .
إذًا زال التعارض، هذا غير الآية التي قال الله فيها: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت:١٣] يعني: سيتحمل ذنوبه وذنوب غيره أيضًا لماذا ذنبه؟ لأنه أذنب، ولماذا ذنب غيره؟ لأنه أضله، فهذا مناسب.
إذًا: قوله تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام:١٦٤] لا تعارض بينها وبين قول النبي ﵊: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) لأن البخاري قال: (إذا كان ذلك من سنته) يعني: وصى بذلك، كأن يقول: إذا أنا مت فالطموا الخدود وشقوا الثياب، من أجل أن يعلم الناس أني غال عندكم، ولي مكانة لديكم.
إذًا: في هذه الحالة يعذب؛ لأنه وصى بذلك.
إما إذا قال لهم: لا تفعلوا، وأنا بريء مما تفعلون، وقد تبرأ من فعلهم وهو حي، فهذا مهما فعلوا من معصية فإنه لا يعذب بها؛ لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فهذا كلام مستقيم وكلام جميل، وهكذا تلتحم الآيات مع الأحاديث، لأن السنة جاءت بيانًا للقرآن، ولا تعارض بينهما، والمبين لا يعارض المجمل، إنما جاء المبين ليبين إبهام المجمل.
فلمّا يثيرون النقع والغبار، ويظهرون تعارضًا ما بين السنة والقرآن، وبعد تكون النتيجة الآتية، وهي قول القائل: القرآن قطعي، والسنة ظنية، فإذا تعارض القطعي مع الظني يقدم القطعي.
وحديث آخر يقصد به التجني على البخاري وأنه لا يفقه، كما في حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (قال سليمان ﵇: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كلهن يلدن فارسًا يقاتل في سبيل الله.
فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فنسي؛ فلم تلد منهن إلا واحدة، ولدت نصف إنسان.
قال ﵊: والذي نفسي بيده، لو استثنى -أي: لو قال: إن شاء الله- لولدت كل امرأة فارسًا يقاتل في سبيل الله، ولكان دركًا لحاجته) .
هل يوجد فيه إشكال؟ هل أحد منكم أحس أن فيه إشكال؟ هذا المغبون أخرج منه عدة إشكالات: الإشكال الأول: قال: كيف يجوز لنبي من أنبياء الله أن يشترط على الله؟ أين الاشتراط؟ قال: اشتراطه بأن تلد النساء ذكورًا لا إناثًا؛ وأن يكونوا: مائة فارس يقاتلون في سبيل الله، وما أدراه فقد يلدن إناثًا، والإناث لا تقاتل.
إذًا: هذا اشتراط على الله ولا يمكن أن يشترط نبي على الله.
الإشكال الثاني: -يقول هذا المغبون- هل يعقل أن هناك نبيًا من الأنبياء يأتي ويقول أمام الناس: أنا سأفعل الليلة هذه كذا وكذا وكذا، والكلام هذا ينافي الحياء، ولا يمكن أن تقوله الأنبياء؛ لأنهم الذين علمونا الحياء.
إذًا: الحديث الذي رواه البخاري هذا مكذوب.
ويقول هذا المغبون: هناك نقطة مهمة جدًا وهي: كيف يستطيع أن يأتي مائة امرأة في ليلة واحدة؟ وهل عنده طاقة لأن يأتي عليهن كلهن؟! انظروا إلى هذا العنين، يستكثر هذا الشيء، على نبي مؤيد من الله، ونبينا محمد ﵊ كما قال أنس ﵁: (أوتي قوة أربعين رجلًا) وعندما يكون النبي مؤيدًا من قبل الله فما المشكلة في هذا؟ وبعد ذلك يقول: إن يومًا واحدًا لا يكفي لهذا العمل، فانظر يا أخي إلى هذا المغبون فإنه يضطرنا أحيانًا أن نتكلم كلامًا صريحًا للرد على مثل هذه الفرية النكراء.
إذًا لا بد أن يكون رأس مال العالم كبيرًا سواءً كان في الفقه أو الحديث أو التفسير أو اللغة وغيرها من العلوم.
ليستطيع أن يجمع الأدلة من هنا وهنا ليرد بها على المبتدعة.
فهذا ابن القيم ﵀ يقول: في سورة يوسف ألف فائدة.
وعندما قام بالرد على الجهميين، قال: أما شبهتهم الأولى فالرد عليها من مائة وخمسين وجهًا، وبدأ يسردها وجهًا وجهًا إلى آخرها -الجهمية عندهم شبه كثيرة- فيا ترى على أي وجه من هذه الوجوه سترد إذا لم ينفع الوجه الأول فالثاني أو الثالث أو الخامس، فهذا عالم رأس ماله كبير، فتراه عالمًا بالشعر والحديث وكلام الفقهاء.
، ومثل هذا العالم مثل صاحب رأس مال كبير، لو أحب أن يعمل مصانع، وأن يفتح معارض ويأتي ببضاعة تغطي السوق، أما صاحب رأس المال الضعيف فلا يستطيع؛ لأن رأس ماله ضعيف.
وكذلك العالم أو طالب العالم، عندما يكون الواحد رأس ماله ضعيفًا تجد حججه متهاوية وغير مقنعة، ولكن انظر إلى شيخ الإسلام كيف أنه ألف الكتب في الشريعة، ورد بها على المبتدعة وناظر هذا، وأفحم هذا، بينما الذي رأس ماله من العلم قليل، تراه يجلس على مكتبه لم يعمل شيئًا، تمر عليه السنوات ولا يستطيع أن يحرر مسألةً شرعية هل ينفع هذا؟ نقول: أين كوادرنا المتميزة؟ لو بحثنا عن الكوادر المتميزة في القاهرة الكبرى لما وجدنا فيها عشرة، وأقصد بالكادر المتميز أن يقف أمام المخالفين ولا يستطيع أحد منهم أن يكسره.
والسؤال لماذا نطلب العلم؟ نطلب العلم لأننا في معركة الذود عن السنة والدفاع عنها، عندما يأتي شخص ويقول لك: إن صحيح البخاري فيه حديث موضوع هل تستطيع أن ترد عليه؟ لا تستطيع، فكل الذي تقدر أن تقوله: إن العلماء أجمعوا على صحة صحيح البخاري، لا تعرف أن ترد إلا هكذا، وأن البخاري قال: إنه انتقى أصح الصحيح ووضعه في كتابه.
هو هذا فقط الذي تستطيع أن تفعله، ولو كان ماكرًا فإنه سيقول لك: يا سيدي! إن الدارقطني تعقب البخاري وعارضه في أحاديث، وأبا حاتم الرازي أيضًا عارض البخاري في أحاديث كذا وكذا وكذا، بل ابن حجر العسقلاني الذي هو شارح لصحيح البخاري -ولا يوجد أحد شرح البخاري مثله- انتقد فيه بعض الأحاديث وأنه وقع ف
1 / 7
موقف الغزالي المعاصر من أهل الحديث والرد عليه
علماء الحديث لهم منة في أعناق المسلمين، لكن بكل أسف فقد ظهر في زمننا من يغمط حق أهل الحديث.
ويتهمهم بالغباوة، وأنهم لا يفقهون شيئًا في الحديث إلا نقل الأسانيد فقط، حتى قال صاحب كتاب: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، قال: إن المحدثين والفقهاء مثل البنَّاء والمناول.
الذي يقوم بإيصال اللبن أو الطوب إلى البناء.
يقول: المحدث هو العامل الذي يناول اللبن أو الطوب للفقهاء، والفقهاء هم الذين يبنون، هكذا يقول.
هل هذا قدر المحدثين؟ وهل هذا جهد المحدثين؟ هذه المجالس عقدناها لنبين أن أفضل الفقهاء هم المحدثون، وسنبين ذلك بالبرهان لا بالدعوى، وأن أهل الحديث شامة لا يستطيع الفقيه أن ينتفع بالسنة إلا من طريقهم؛ لأن العلماء اتفقوا أنه لا يؤخذ حكم شرعي من حديث ضعيف.
حسن الفقيه الصرف الذي ليس له علاقة بالتصحيح والتضعيف، فالمحدث يؤخذ علمه في الحديث، والفقيه يؤخذ علمه في الفقه، والمفسر يؤخذ علمه في التفسير، واللغوي والرجل النحوي يؤخذ علمه في النحو، إذًا الفقيه قبل أن يأخذ الحكم الشرعي من الدليل يسأل المحدث، أَثَبَتَ هذا الحديث فنأخذ الحكم منه أم لا؟ إذا قال المحدث: نعم إن الحديث صحيح، هنا يبدأ الفقيه بالاستدلال بالحديث، واستنباط الأحكام منه.
إذًا: دور المحدثين أسبق من دور الفقهاء.
1 / 8
البخاري وكتابه الصحيح ومكانتهما
أنت في البيت عندك صحيح البخاري مطبوع في مجلد، هل تعلم كم ظل سنوات يؤلف البخاري ﵀ هذا الكتاب؟ لقد بقي سبع عشرة سنة، هذا الإمام الذي كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث يمر فيها كالسهم كما يقرأ أحدنا: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:١]، ثلاثمائة ألف حديث لا يختلط عليه فيها إسناد في إسناد ولا رجل مكان رجل، ولا متن مكان متن أبدًا، يذكرون في ترجمته أن أبا زرعة الرازي، وأبا حاتم الرازي كانا يجلسان بين يديه كما يجلس الصبي بين يدي شيخه، والبخاري يمر في العلل مرور السهم.
فهذا الإمام الذي كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث يصنف كتابه في قرابة عشرين عامًا، أما في وقتنا الحاضر ففي كل ثلاث أو أربع ليال يخرج لأحدنا كتاب، وتراه يطبع جزءًا وراء جزءٍ وراء جزءٍ، ورحم الله الشيخ المطيري كان يقول: عندهم إسهاب في التأليف، لقد ظهر التحقيق من ثلاثين سنة، قلما تعرف اسم محقق جليل، كان المحققون قلة، أمثال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، والشيخ أحمد شاكر، والشيخ محمود شاكر، والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، ومحمد فؤاد عبد الباقي، وعبد السلام هارون، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي الجداوي، ومحمد إبراهيم زايد، كانوا مجموعة يقومون بتحقيق الكتب، فقلما كنت تجد اسمًا جديدًا لماذا؟ لأنه لم يكن في ذلك الوقت شهادات علمية، كما هو الآن، فقد ملأت الشهادات الدنيا، وأصبح الوصول إلى الفائدة قريب المنال، لكن في عصرنا هذا كل سنة ويظهر أبو عبد الله الأثري، أبو عبد الرحمن الأثري، حتى إن الشيخ الألباني قال في الأثري: إنه موضة العصر، تجد عشرات المحققين الذين أنت لا تعرف في أي مجال هم، ولا تعرف قدرهم من العلم، ولا تعرف هل زكاهم العلماء أم لا، يلعبون بالتراث، ويسرقون جهود الناس، وأي رجل -يعني مثلًا- درس كتب الشيخ الألباني يعلم أن أكثر هؤلاء المحققين يسرقون تخاريج الألباني، وتجده يقوم بتغيير بعض تخريج الألباني قليلًا، إذا كان الألباني يأتي بالتخريج في صفحة فهذا يختصره في نصف صفحة، ويقدم قولًا ويؤخر قولًا، أو يغير في الطبعة وهكذا، مثل أن يقوم الألباني يجعل البيهقي بعد أحمد أو أحمد بعد البيهقي يأتي هذا المحقق ويقدم ويرتب من أجل أن لا ينكشف أمره، لكن أهل الصنعة يعلمون أن هذا مسروق.
لقد ظهر كثير جدًا من هؤلاء الناس الذين يسرقون الكتب، والعلماء المتقدمون لم يكونوا ليفعلوا ذلك.
مرَّ محمد بن أبي حاتم الوراق مع شخص من أهل العراق، وأنت تعرف أن أهل العراق كانوا ينتقصون الأفاضل، فسمع رجلًا يقول: إن البخاري لا يحسن أن يصلي؛ فتوجع من هذه الكلمة فنقلها إلى البخاري، قال له: سمعت رجلًا بالعراق يقول: إن البخاري لا يحسن يصلي؟ فقال البخاري: لو شئت لسردت لك عشرة آلاف حديث في الصلاة قبل أن أقوم من مجلسي هذا.
إذًا: الذي يحفظ عشرة آلاف حديث في الصلاة لا يحسن الصلاة كيف هذا؟! فالإمام البخاري صنف كتابه على أوسع القواعد العلمية المعروفة عند أهل الحديث، فنحن إذا علمنا كيف صنف البخاري ﵀ كتابه، ثم كيف وضع أهل الحديث الموازين لنقد الرواية، وقبول الأخبار؛ لعلمنا عظمة المحدثين، ومدى قدر جميلهم على هذه الأمة، فأهل الحديث هم الذين تركوا أولادهم، وتركوا ديارهم، وتركوا ملذاتهم وشهواتهم من أجل تصحيح لفظة واحدة، فكيف بحفظ السنة كلها؟
1 / 9
صور من تثبت أهل الحديث عند سماع الأحاديث والحكم عليها
.
1 / 10
قصة شعبة بن الحجاج في التثبت
هنا قصة ذكرها ابن حبان في مقدمة كتاب: المجروحين من طريق أبي الحارث الوراق، يقول وهو متروك؛ لكن القصة وردت من طريق الطيالسي -أي: أبو داود الطيالسي، عن شعبة، ونبه عليها أبو الحجاج المزي في كتاب: تحفة الأشراف القصة الثالثة، يقول أبو الحارث الوراق: جلسنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثنا إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني، أن النبي ﷺ قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ فتحت له أبوب الجنة الثمانية) أبو الحارث أكمل الحديث من هنا وشعبة لم يكن قد خرج من باب الدار، فسمعه وهو يقول هذا الحديث، فلطمه شعبة ودخل الدار.
وكان مع شعبة عبد الله بن إدريس، فخرج شعبة وأبو الحارث يبكي، فقال عبد الله بن إدريس لـ شعبة: إنك قسوت على الرجل؛ قال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث، أنا سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث، وسرد شعبة قصته مع هذا الحديث، كان شعبة حافظًا لأحاديث كثيرة جدًا، لقد بذل شعبة جهودًا عظيمة من أجل تصحيح كثير من الأحاديث من ضمنها القصة التي حكيتها هذه، قال شعبة: أنا سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث، قلت له: سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ لماذا شعبة سأل أبا إسحاق؟ لأن أبا إسحاق كان يدلس تدليس الإسناد.
وأنا أبين لك خطورة المسألة، ولقد طاف شعبة الدنيا وراء هذا الحديث؛ خشية أن يكون أبا إسحاق دلسه، ما معنى دلسه؟ تعريف الدلس في اللغة هو: اختلاط النور بالظلام، فتدليس الإسناد عرفه العلماء بقولهم: هو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه كيف ذلك؟ مثلًا: أنا محدث من المحدثين في زمن الإمام أحمد وأنتم تلامذة، فأقول: حدثني وكيع، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن الأعمش، عن علقمة -مثلًا- أو عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، أو أنا مثلًا من طبقة الإمام أحمد، قلت: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس، إسناد صغير لكي يسهل الفهم، سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس، إسناد ذهبي، أنا الآن سأكون سفيان، فأنت عندما تروي هذا الحديث عني ستقول: حدثنا سفيان -هذا واحد- قال: عن الزهري -هذا الثاني عن أنس هذا الثالث- إذًا أنت بينك وبين الرسول كم؟ ثلاثة، أنت تلميذي، وأخذت مني، وثبت لقاؤك لي، وبعد ذلك حصل لك ظرف فغبت عن المجلس في هذا اليوم، وأنا حدثت في المجلس الذي غبت عنه عشرة أو خمسة عشر حديثًا، وأنا لا أكرر الأحاديث التي أقولها، فأنت عندما ما ترجع من السفر سألت زملاءك: ماذا أخذتم؟ فقالوا لك: والله نحن أخذنا عشرة أو خمسة عشر حديثًا.
إذًا: أنت عندما تريد أن تروي تلك الأحاديث هل ترويها عني أم عن زملائك؟ عن زملائك؛ لأنك لم تحضر، فلو قمت ورويتها عني ولم تسمعها مني بهذا الفعل صرت مدلسًا، فإن قلت: حدثني فقد كذبت، وإن قلت: عن فقد دلست.
إذًا: لكي تروي هذه الأحاديث لابد أن تقول: حدثنا فلان عن ابن عيينة، عن الزهري، عن أنس، إذًا: كم بينك وبين الرسول ﷺ كم؟ أنت الآن نزلت درجة، كان بينك وبين الرسول ﵊ ثلاثة، الآن أصبح بينك وبينه أربعة، والعلو في الإسناد هو أن تقلل الوسائط بينك وبين النبي ﷺ، وكان علو الإسناد هو الدافع لبعض المحدثين على تدليس الإسناد؛ لأنه صعب عليه بعد ما بينه وبين النبي ﷺ، فيلجأ إلى التدليس وهو أن يسقط صاحبه ويرويه عن شيخه الذي لم يسمع منه تلك الأحاديث.
إذًا: نرجع لتعريف التدليس، قال لك: هو أن يروي الراوي -الذي هو صاحبنا - عن شيخه الذي سمع منه وثبت لقاؤه به، وهو من تلاميذه ما لم يسمعه منه؛ لأنه كان غائبًا، فهذا اسمه: تدليس الإسناد، وهذا أكثر أنواع التدليس دورانًا في الأسانيد.
اعلم أن أصل كلمة: (عن) فيها شوب اتصال، يعني لها وجهان، وجه يفيد الانقطاع، ووجه آخر يفيد الاتصال، لكن لو قلت: حدثني ابن تيمية هل ينفع؟ لا.
ولا يلتبس على أحد أن هذا الكلام كذب؟ لأن ابن تيمية مات سنة (٧٢٨هـ) ونحن الآن في القرن الخامس عشر، لكن لو قلت: عن ابن تيمية أنه قال: لا يقدر أحد يدافعني، أو يرد عليَّ، لماذا؟ لأني ذكرته عنه ولم أروه، وقد أقول لك: أنا لم أسمعه منه ولم أحدث به على أني سمعته منه وإنما ذكرته عنه بلفظة (عن) .
إذًا: لفظة (عن) واسعة، فالمدلس يدخل بلفظة (عن) على المحدثين، لا تستطيع أن تقول له: أنت كذاب.
فسيقول لك: أنا لم أقل: (حدثني)، ولهذا الذي يدلس لا يقول: (حدثني) أبدًا، ولو قالها كذبوه، ويقولون إنه كذاب، ويسقطونه مباشرة، لكن نقول: عنه: روى الحديث فلان وهو مدلس وقد عنعنه.
لفظة (عنعنه) أي: رواه بلفظة (عن) .
المهم أن أبا إسحاق السبيعي كان ممن يدلس تدليس الإسناد، وشعبة بن الحجاج كان يكره التدليس جدًا، وكان يقول: (التدليس أخو الكذب) وكان يقول: (لأن أشرب من بول حمار حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس) وكان يقول: (لئن أزني أحب إلي من أن أدلس) قول شعبة هذا يقصد به التنفير عن التدليس، والتشنيع على من يفعله، كقول الله ﵎: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:٢٩] هذه الآية ليس فيها حرية الكفر، وكقول النبي ﷺ: (أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور) يعني: لو ذهب هذا وأشهد الصديق هل ينفع أن يشهد؟ لا ينفع.
وكقول إبراهيم النخعي للذي جاء يسأله عن العقيقة؟ قال: عق ولو بعصفور.
مع أن العلماء اتفقوا أن العقيقة لا تحل لا بالعصفور ولا بالبط ولا بالوز، وإنما تكون من الأزواج الثمانية، من كل ما يخرج من الأنعام.
المهم أن شعبة كان شديد النكير على المدلسين، فـ أبو إسحاق كان مدلسًا، فكان شعبة لا يمكن أن يقبل من أبي إسحاق أي حديث إلا بعد أن يسأله، أنت سمعت هذا من شيخك؟ شعبة بعد أن سمع هذا الحديث من أبي إسحاق قال له: أسمعته من عبد الله بن عطاء؟ فغضب أبو إسحاق وأبى أن يجيب؛ إذًا: فقد دلس أبو إسحاق، فكان في مجلس أبي إسحاق السبيعي مسعر بن كدام، ومسعر بن كدام أحد الأئمة الثقات الكبار الحفاظ، كان أبو حاتم الرازي يقول: مسعر المصحف.
ماذا يعني المصحف؟ يعني: أنه لا يوجد عنده خطأ في الحديث من قوة حفظه وإتقانه، كالمصحف لا يوجد زيادة ولا نقصان، كذا قال: مسعر كالمصحف.
فـ مسعر بن كدام لما رأى أبا إسحاق فد غضب بسبب إصرار شعبة على أنه سمع أو لم يسمع، قال مسعر: يا شعبة! إن عبد الله بن عطاء حي بمكة، فاذهب إليه، وشعبة كان في البصرة، ومعلوم أنه سيركب الجمال أو الحمير، وكأنه يقول له: إذا كنت تريد أن تتأكد، فاذهب إلى مكة واسأل عبد الله بن عطاء عن هذا الحديث.
قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث.
المهم أنه خرج من البصرة وذهب إلى مكة فلقي عبد الله بن عطاء، وكان رجلًا شابًا، قال له: حديث الوضوء.
هل سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.
-إذًا أبو إسحاق السبيعي دلس في الإسناد-.
قال له: لا.
إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم، وسعد بن إبراهيم هذا مدني، من أهل المدينة، قال شعبة: فلقيت مالكًا في الحج فقلت له: أحج سعد بن إبراهيم؟ قال: لم يحج العام.
قال: فقضيت نسكي وتحللت، وانحدرت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم، قلت له: حديث الوضوء أسمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.
ولكن حدثني به زياد بن مهران، من عندكم خرج -من البصرة -.
فخرجت وذهبت إلى زياد وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت: حديث الوضوء، أسمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.
وقال لـ شعبة: ليس من حاجتك.
قال: لا بد.
معنى ذلك أنه لن ينفعك، أنت صاحب البضاعة الجيدة والأسانيد المتينة، فهذا لن ينفعك، قال: لا بد، قال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك وتأتيني.
قال: فدخلت الحمام واغتسلت، وغسلت ثيابي وأتيت، فقلت له: حديث الوضوء، أسمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.
وإنما حدثني به شهر بن حوشب، فقال له: شهر عن من؟ قال: عن أبي ريحانة، عن عقبة بن عامر.
إذًا كم صاروا؟ أربعة، عرفت التدليس ماذا يعمل؟ وشعبة ط
1 / 11
تحمل الصعاب من أجل تحصيل العلم
يقول ابن أبي حاتم الرازي: دخلنا مصر فظللنا سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقًا -يعني لم يأكلوا لحمًا سبعة أشهر- نهارنا نطوف على الشيوخ، وليلنا ننسخ فنصحح.
يقول: في يوم من الأيام ذهبنا إلى درس شيخ فقالوا لنا: مريض؛ قلنا: فرصة نأكل، قال: فاشترينا سمكةً عظيمة كبيرة، وكان موعد درس الشيخ الذي بعده قد دخل، فتركوا السمكة في البيت وذهبوا ليحضروا درس الشيخ، ومرت ثلاثة أيام لم يستطيعوا أن يطبخوا السمكة هذه، وذلك بسبب أنهم لم يجدوا وقتًا لطباختها، لاشتغالهم بالدروس والنسخ والتصحيح، قال أبو حاتم: حتى خشينا أن تفسد فأكلناها نيئة، ولقد كانت رحلاتهم طويلة.
أبو حاتم الرازي يقول: إنه دخل من الري إلى نيسابور، إلى خراسان، إلى القدس، إلى الشام، إلى مصر، وقال: إنه عد كم مشى على رجله إلى سبعة آلاف فرسخ، قال: ثم تركت العد.
ابن معين جعل نفسه حارسًا على حديث الرسول ﵊، أوقف حياته لهذه المهمة العظيمة، وهي حماية حديث النبي ﷺ.
فلو أن شخصًا حضر مجلسًا للأعمش فنام قليلًا والشيخ قد حدث بحديث أو اثنين أو ثلاثة، ثم قام من نومه فسمعها من زملائه فجعل يحدث بها عن الأعمش، فهذا تدليس الإسناد، إذًا يحيى بن معين يأتي إلى أحاديث ذلك الرجل الذي نام عن بعضها ويقول: إنه لم يسمعها من الأعمش وإنما سمعها ممن سمع الأعمش، وقام بروايتها عن الأعمش إذا: هو مدلس.
1 / 12
تعظيم علماء السلف بعضهم لبعض
كان الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رفيقين في الطلب، أحبة في الله، وكان أحمد يعظم يحيى بن معين، وكان يحيى بن معين يعظم أحمد، فيا ليت طلبة العلم يعظم بعضهم بعضًا، ويحب بعضهم بعضًا، فلم يكن أحمد بن حنبل ينادي أبدًا يحيى بن معين باسمه أبدًا على الإطلاق، ولا يحيى ينادي أحمد بن حنبل باسمه أبدًا، إنما كان يناديه بالكنية، مرة عرض على الإمام أحمد إسناد فيه رجل، لم يكن الإمام عارفًا للرجل، هل هو كذاب، أو ثقة، أو مغفل؟! فقال: ليت أن أبا زكريا كان موجودًا.
فقال له شخص: وماذا تفعل به؟ قال: ويحك، إنه يحسن هذا الشأن.
الإمام أحمد يشهد لـ يحيى بن معين بمعرفة الرجال، مع أن الإمام أحمد إمام كبير مقدم في معرفة الرجال، وفي الحكم على الرواة، ولكنه لم يهضم حق أبي زكريا يحيى بن معين.
1 / 13
جهود يحيى بن معين في تمييز حديث أبان عن ثابت
مرة جاء الإمام أحمد ومر على يحيى بن معين فوجده يكتب أحاديث، وكان يحيى كلما اقترب منه شخص طوى الصحيفة، فلما جاء الإمام أحمد قال: ماذا تكتب يا أبا زكريا؟ قال: أكتب صحيفة أبان عن أنس.
أبان بن أبي عياش هذا متروك الحديث، وكان شعبة من أشد المنكرين عليه، وكان يتكلم فيه كلامًا قويًا، فـ أبان بن أبي عياش لما تكلم فيه شعبة ترك الناس حديثة.
فذهب أبان إلى حماد بن زيد، فقال له: أخبر شعبة أن يترك الكلام عليّ، فوجد حماد بن زيد وهو راجع من الصلاة فوجد شعبة راكبًا البغلة فمسك بخطام البغلة، وقال: يا أبا بسطام.
-هذه هي كنية شعبة: أبو بسطام، الضخم، الذي حدث عن الضخام.
الذي قال فيه: حدثنا الضخم عن الضخام - شعبة الخير أبو بسطام - قال له: يا أبا بسطام! ألا تكف عن أبان؟ قال له: لا.
ثم إن حماد بن زيد أصر على شعبة بترك الكلام في أبان، فقال له شعبة: اتركني ثلاثة أيام أستخير الله فيه.
وبعد ثلاثة أيام قابل حماد بن زيد فقال له: لا أستطيع السكوت عنه، إنه يكذب على رسول الله، ولم يسكت عنه ﵀.
المهم أن أبان بن أبي عياش هذا له صحيفة عن أنس كلها خاطئة، وكل الأحاديث التي فيها مضروب عليها، وقديمًا كان النساخون يدخلون الحروف في بعضها، ولم يكن عندهم وقت لكي يفصلوا بين الكلمات، فهم يكتبون الكلام متشابكًا مع الذي قبله، ولا يعرف هذا إلاّ الذي عانى المخطوطات وعالجها، بالذات العلماء القدامى.
فـ ثابت وأبان الإثنان عند كتابة القدامى يشبه بعضهم بعضًا فحصل الالتباس عند البعض، أما ثابت عن أنس - ثابت بن أسلم البناني - فإن ثابتًا من ألمع الرواة عن أنس، وهو ثقة ثبت حافظ جليل القدر، لازم أنسًا أربعين سنة، فعندما يأتي حديث ثابت عن أنس فهو صحيح.
أما حديث أبان عن أنس فقد مر أنه مضروب عليه، فجعل أبان مكان ثابت أدى إلى خلط واعتقاد أن أحاديث أبان صحيحة ولذلك قام ابن معين وحفظ صحيفة أبان كلها، فإذا جاء رجل فحرف أبان واستبدلها بـ ثابت، وحاول أن يمرر علينا الحديث، نقول له: كذبت، بل هذا عن أبان، عن أنس، وليس عن ثابت، عن أنس.
والعجب أنهم كانوا يحفظون حتى المتن؛ ليدافعوا عن حديث النبي ﵊، فلهم في ذلك أعاجيب! فقد أفنوا أعمارهم في وضع كتب وقواعد هذا العلم، فجزاهم الله عنا خير الجزاء.
1 / 14
تجرؤ امرأة في عصرنا على السنة والرد عليها
من العجب أن امرأة ظهرت على شاشات التلفاز وقالت: إن العلماء الثقاة قالوا: إنه لم يصح عن النبي ﷺ إلا سبعة عشر حديثًا فقط.
انظر إلى الكذب، وإلى هضم جهود علماء الحديث وإخراجهم لهذا الكم الهائل من الأحاديث الصحيحة.
ومع ذلك فهذه المرأة لم تحاكم، لقد بلغ الهوان بنا لدرجة أن امرأة تتكلم في علم الحديث، مع أن علم الحديث هو علم الذكران من العالمين، لا يوجد امرأة ناقدة، ولها معرفة بعلم الرجال والسند -يعني: تعرف الصحيح من الضعيف- فأكثر ما تحرزه المرأة أنها تحمل رواية كتاب، بمعنى أنها تروي الكتاب بسندها، لكن تتكلم في الأسانيد وتقول: هذا صحيح، وفلان ثقة، وفلان كذاب فهذا ليس من اختصاص المرأة.
فهذا العلم -علم الأحاديث ونقد الأسانيد والتذوق والملكة وغيرها- إنما هو علم الذكران من العالمين.
وإنه لمن الهوان أن تتكلم امرأة وتقول: إنه لم يصح عن النبي ﷺ إلا سبعة عشر حديثًا، وباقي الأحاديث لا ندري من أين جاءوا بها؟! إن هذه الدروس التي نلقيها عليكم القصد منها هو: بيان منهج المحدثين في قبول الأخبار وذلك عن طريق الإسناد.
سنقرأ الإسناد -إسناد البخاري - قراءة صحيحة، ثم نذكر نصائح الإسناد، والصنعة الحديثية التي استخدمها البخاري في صحيحه، ونقف أيضًا على بعض النكات التربوية الموجودة في الإسناد.
ومن مميزات هذه الطريقة أنها تنمي ملكة الاستنباط عند طالب العلم، وهي أفضل من طريقة دراسة الفقه على طريقة الكتب الفقهية المعاصرة.
ومن مميزاتها كذلك: أن دراسة السنة تجعل انتماءك لصاحب الكلام قويًا، فعندما تدرس مختصر من المختصرات الفقهية يصير أصلًا عندك لا تستطيع أن تخالفه ولا تخالف أصوله، أما إذا درست كلام رسول الله مباشرة فيكون انتماؤك ودليلك ووجهتك حديث رسول الله ﷺ، وليس قول أحد من العلماء.
بقيت نصيحة أخيرة أوجهها لطلبة العلم أقول فيها: أيها الطالب: كلما حركت ذهنك وأنفقت وقتك في فضول الكلام، وفضول العلم، ذهب عليك لب العلم، فلا تشتغل إلا بالعلم.
لا تقل: الشيخ الفلاني يفهم، والشيخ العلاني لا يفهم، والشيخ الفلاني صفته كذا، فإذا نصبت نفسك حكمًا بين المشايخ فلن تحصل علمًا أبدًا ولن تفلح، انشغل بالعلم، وبعد أن تصير لك ملكة، ويصير لك شأن، ويكبر معك الإنصاف تكلم إذا شئت.
ومن أعظم ما سنحصله من هذه الدروس في علم الحديث: أن نتخلق بخلق أهل الحديث في واقعنا، وأكبر فائدة نستفيدها من علم الحديث أن نكون دقيقين في النقل.
1 / 15
شرح صحيح البخاري [٢]
بدأ الإمام البخاري كتاب العلم من الصحيح بباب فضل العلم، لكي يشوق الناس لطلب العلم، فهو شرف لصاحبه يرفعه في الدنيا، وإن حسن قصده فهو ممن يرقى في درجات الآخرة، وقد جاء في الحديث: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين) .
2 / 1
العلم ومكانته في الإسلام
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
رتب الإمام البخاري ﵀ صحيحه ترتيبًا يدل على عمق فقهه وعلمه، فافتتح كتابه الصحيح بكتاب بدء الوحي، وختم كتابه بكتاب التوحيد، فكأنه يريد أن يقول: من أراد أن يخرج من الدنيا على التوحيد فعليه بالوحي.
وما بين بدء الوحي وكتاب التوحيد الإسلام كله، والوحي قرآن وسنة، وكانت السنة توحى إلى النبي ﷺ مثلما يوحى القرآن، لكن السنة من لفظ النبي ﷺ، وهو لا ينطق عن هوى نفسه ﵊، قال الله ﵎: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:٢٤] .
فالخروج من الدنيا على التوحيد يكون بالوحيين، والفرق التي ضلت السبيل إلى الله، إنما سلكت سبيلًا آخر غير الوحي الذي هو السنة، وحتى الوحي الذي هو كتاب الله ﷿ ما استضاءوا فيه بقول الذين نزلَ القرآن وهم شهود، وهم الصحابة، وهم الصحابة، وفي الحديث أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وهؤلاء ما اختلفوا في الأحكام الفرعية، كالوضوء، وعدد غسلات الأيدي، والمسح على الرأس، والبيوع والأنكحة، وإنما اختلفوا في الإيمان والتوحيد.
فبدأ هؤلاء يضعون متاريس يتقون بها ضربات أهل السنة القائمة على ساق الحجة والمحجة، وبدءوا يؤصلون من عندهم أصولًا يردون بها الأحاديث، فيقولون مثلًا: إن خبر الواحد لا يعمل به في العقيدة، وهذا أصل فاسد، لكنهم أصلوه، لماذا؟ حتى يتقوا به الأحاديث التي هي حجة عليهم، فأهملوا شطر الوحي، فالسنة بيان للقرآن، ومعلوم أن المرء لا ينتفع بالقرآن إلا إذا أخذ بالسنة، فنفى هؤلاء السنة، وكان من جراء نفيها أنهم لم يوالوا أصحاب النبي ﵊.
فالإمام البخاري بدأ صحيحه بكتاب بدء الوحي، وثنى بكتاب الإيمان، ليقول لك: إن الإيمان لا يصح إلا إذا كان مؤيدًا بالوحي، فهل يعقل أن أصحاب النبي ﵊ الذين نقلوا تفاصيل هذا الدين عنه نقلًا لا يعلم لأصحاب نبي قط نقل عشر معشاره، حيث نقلوا هذا الدين بهذه الدقة، بتفاصيل دقيقة، بل نقلوا حتى اهتزاز لحيته ﵊ في الصلاة.
فأهم المطالب كلها معرفة الله ﷿، فهل يتصور أن هؤلاء الصحابة ماتوا ولم يفهموا هذا الباب؟ إن المبتدعة جميعًا يقولون: نعم.
ماتوا ولم يعرفوا هذا الباب.
ولو جمعنا المسائل الفقهية التي اختلف الصحابة فيها لكانت بالألوف، وحسبك كتاب: الإجازة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، لـ بدر الدين الزركشي ﵀، وهذا الكتاب أورد فيه مصنفه ما استدركته عائشة، وتعقبته على الصحابة ﵃ -يعني الاعتراض منها على الصحابة- فجمع كتابًا.
فلو أردت أن تجمع كتابًا لكل صحابي اعترض على الباقين لطال الأمر، ومع اختلافهم في المسائل الشرعية لا نعلمهم قط اختلفوا في مسائل الإيمان، إلا في مسائل يسيرة ومحكمة، وكان يراجع بعضهم بعضًا في النقل في المسائل الفقهية، لكن في المسائل الاعتقادية لا، وهذا من أكبر الأدلة على أنهم لم يختلفوا في مسائل الإيمان، أو في مسائل التوحيد.
فالرسول ﵊ لما قال: (إن الأمة ستختلف على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا وحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .
فترتيب الإمام البخاري لكتابه ترتيب يدل بعضه على بعض، الأول: بدء الوحي، حتى إذا أراد أحد أن يدخل الدين يدخله من بوابة الوحي؛ لأنك إذا اختلفت معي بعقلك واختلفت معك بعقلي، فلا بد أن يكون هناك عقل سابق يحكم بيننا، فإذا اختلفنا نحن الاثنان فلا بد أن يكون هناك حكم.
فمن الذي يحكم بيننا؟ لابد أن يكون هناك عقل كبير؛ نرجع ونتفق عليه، ولا يكون ذلك إلا النبي ﵊، فرجعنا في الأخير إلى تحكيم النبي ﵊ بيننا، وكلامه موجود، فإذا اختلفنا في مسألة من مسائل الإيمان رجعنا إليه، ونظرنا إلى السنة العملية للصحابة، هل اختلفوا في هذا الباب أم لا؟ فإذا لم يختلفوا فلا يتأتى الخلاف، لا يحل لنا أن نختلف، أما إذا اختلفوا فيسعنا كما وسعهم.
فإذًا أول باب ندخله هو باب بدء الوحي، ثم أهم المطالب جميعًا الإيمان، فلا يكون الإيمان إلا بالوحي، ثم ذكر ثالثًا: كتاب العلم؛ لأن كل الأحكام الشرعية التكليفية لا تكون إلا بعلم.
والإنسان يستغرب عندما يخرج ليشتري جهازًا كهربائيًا، ويعطى رسالة لتشغيل الجهاز وهو (الكتلوج)، واتفق الناس جميعًا على ضرورة الرجوع إلى مثل هذا الكتاب، لفهم هذه الآلة التافهة، فيستغرب المرء أن أقوامًا لا يرجعون إلى الكتاب على الإطلاق، ولكن يدخل ليعبد الله ﷿ كيفما يريد، ولا ينظر إلى مثل هذا الكتاب، والله ﷿ يقول: ﴿الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان:٥٩] اسأل عن الرحمن من يعرفه، لا تسأل عنه الجهلة الذين لا يعرفونه، لكن اسأل عن الرحمن من يعرفه، وهذا فيه دلالة على ضرورة العلم والتعلم، وأن المسائل الاعتقادية كلها لابد أن تؤخذ من مشكاة النبوة، فلا تؤخذ من عقل، لأن الوحي هو الشاهد، ثم أتى ثالثًا بكتاب العلم بعد كتاب الإيمان وقبل كتاب الطهارة، وهذا يدل على أن كل تصرفاتك تفتقر إلى العلم.
2 / 2
التشويق إلى العلم بذكر فضائله
بدأ الإمام البخاري الكتاب بداية معتادة، فبدأه بعقد باب لفضل العلم، وذلك فيه نوع من التشويق، فقبل أن تَأْمُرَ بالشيء اذكر فضله، وهذا من سداد الحكمة، فالنبي ﵊ لما رغب الصحابة في الجهاد بين لهم منزلة الشهيد، ومنزلة من يقتل في سبيل الله، فتحمسوا، لماذا؟ لأن الله ﷿ لما خلق الإنسان خلقه باحثًا عن الهدف، لا يعمل عملًا مجردًا من الهدف، وإنما يعمل العمل لشيء أو لهدف، وفي الحديث الصحيح: (أن رجلًا قال للنبي ﷺ -وكان النبي قد سأله، ماذا تقول عندما تسجد في صلاتك- فقال: أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، لكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال: حولها ندندن) يعني كل هذا الكلام الذي تسمعه ولا تستطيع أن تفهمه، كله من أجل أن يدخلنا الله الجنة، ويعيذنا من النار، كل كلامنا منحصر في هذه الكلمة التي قلتها أنت: نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار.
ونصب الله الجنة والنار للناس، فنصب الجنة ترغيبًا، لذلك أخطأ من يظن أن العمل لأجل الجنة فاسد، وهذا عند بعض غلاة الصوفية، ويذكرون العبارة المشهورة -التي تعرفونها جميعًا إن شاء الله- عن رابعة العدوية: اللهم إن كنت أعبدك طمعًا في جنتك فاحرمني من جنتك، وإن كنت أعبدك خوفًا من نارك فأحرقني بنارك، وإن كنت أعبدك طمعًا في وجهك فلا تحرمني من وجهك.
هذا الكلام فيه مغالطة، لأنها لا يمكن أن ترى الله إلا في الجنة، فالله لا يرى إلا بعد دخول الجنة، فعندما أقول: اللهم ارزقني الجنة فأعظم ما في الجنة هي رؤية الله ﷿، فكأني أقول: يا رب! امنحني رؤيتك، لكن أن أقول: إن سألتك طمعًا في جنتك فاحرمني من جنتك، فكيف، والنبي ﷺ كثيرًا ما سأل الله الجنة واستعاذ به ﵎ من النار؟! فالإنسان مخلوق ليعمل ويبحث عن الأجر، فإذا علم أنه لا يؤجر فترت همته، والنبي ﵊ قال: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، فالإنسان عندما يغرس النخلة لن يأكل منها، وإنما ليأكل منها أولاده وأحفاده كما أكل هو من غرس أجداده، إذًا ما غرس الفسيلة إلا لهدف، فترغيبًا من النبي ﷺ في غرس هذه الفسيلة قال: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) وتقدير الكلام: فلا يقل: لمن أغرسها وقد قامت الساعة ولن ينتفع بها أحد؟! فحري أن يتركها ولا يغرسها، فكأنه قال له: خالف طبعك واغرسها مع أنك لن تجد من ورائها ثمرة دنيوية.
والرجل الذي جاء للنبي ﷺ وفي يده تمرات فقال: (مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ فقال: لك الجنة، فقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، وألقى بها وقاتل حتى قتل) .
فسأله ما يكون لي؟ فقال له: أن تدخل الجنة، فقال: لا يحول بيني وبين الجنة إلا أن آكل هذا التمر، إذًا هي حياة طويلة، وهي ثانية أو ثانيتان، أو دقيقة أو دقيقتان، إذًا الحياة طويلة في هذه الدنيا، فرمى بالتمرات وقاتل حتى قتل.
فتخيل لو أن الجواب: ليس لك شيء، كان من الممكن أن يأخذ جراب تمر ثم يقعد ويأكل، وعلى ماذا سيستعجل؟! وطالما أن المسألة لا أجر فيها ولا حافز.
فلماذا لا ينعم بالحياة؟! كالرجل الذي جاء إلى عبد الله بن الزبير لما كان يتقاتل هو وعبد الملك بن مروان على الخلافة، فقال له: أنا بطل مغوار وفارس معروف، لكن كم تعطيني من الأجر؟ فقال: أعطيك كذا وكذا، قال له: إذًا هات! فقال له: هذا عندما تقاتل وتبلي بلاء حسنًا! فتولى عنه الرجل وقال: أراك تأخذ روحي نقدًا وتعطيني دراهمك نسيئة.
يعني تأخذ روحي مقدمًا بينما دراهمك تعطينيها مؤخرًا، فهو يريد أولًا أن ينعم بهذا المال قبل أن يموت، فلما علم أنه قد يقتل ولا يأخذ الأجر فترت همته وتولى.
ولهذا خلق الإنسان باحثًا عن الأجر، فإذا أردت أن ترغب إنسانًا ما في شيء ما فعليك أن ترغبه، وتبين له أجر عمله، لأن هذا أدعى لأن يقدم، ولذلك تجد القطاع الخاص ناجحًا، والقطاع العام فاسدًا، لماذا؟ لأن القطاع الخاص يربط الأجور بالإنتاج، بينما القطاع العام، لا.
فالموظف يذهب لينام ثم يأخذ العلاوة ويأخذ المرتب والحوافز، بينما القطاع الخاص يقول لك: القطعة بجنيه مثلًا، فيحث العامل على أن لا يجلس فارغًا، فيقول: لماذا أجلس ولا أعمل؟ وكلما عمل كسب، فنجح، والشركات التي تعطي أجورًا عالية عندها مبدعون، لأنها تعطيهم الأجر وزيادة، وهذا نوع من الحافز.
2 / 3
الصبر وأهميته في تبليغ العلم
فلذلك الإمام البخاري ﵀ بدأ كتاب العلم بذكر باب فضل العلم؛ لأن العلم واسع ومضن وشاق ليس بسهل، وتحرير محل النزاع في كثير من المسائل يحتاج إلى صبر بالغ، فتبليغ العلم للناس، والصبر على أذاهم ومخالفاتهم، وعلى بلادة المجتمع أحيانًا، كل هذا يحتاج إلى صبر.
وتبليغ العلم مع كثرة المناوئين لك، وكثرة الأسفار والترحال، كل هذا يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى مجهود كبير، فلا يدخل فيه إلا من يعلم قدره.
والإمام علي بن أبي طالب ﵁ قال: (كفى بالعلم شرفًا أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عارًا أن يتبرأ منه من هو فيه)، يعني لو قابلت أبا جهل في الطريق فقلت له: يا جاهل! لاحمر وجهه من الغيظ، مع أن أبا جهل ليس جاهلًا فحسب، وإنما هو أب للجهل، ومع ذلك يستنكر أن تصفه بالجهل، فالوصف بالجهل مر، كل الناس تدعي العلم في أي فن من فنون الدنيا، حتى لو لم تكن متحققة من هذا العلم، لماذا؟ لأن العلم شرف، فالعلم يرفع صاحبه، يرفع صاحبه حتى في علوم الدنيا، لما يلبس الشخص لباس أهل العلم، ويطلبه كل الناس فإنه يشعر بالعز من كثرة الطالبين.
2 / 4
بالعلم تصح النيات
هناك حديث عن النبي ﷺ جامع رائع، يبين فضل العلم، وهو الحديث الذي رواه الترمذي وصححه، وابن ماجة، وأحمد في مسنده من حديث أبي كبشة الأنماري ﵁، أن النبي ﷺ قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علمًا ومالًا فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويرعى لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالًا فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالًا ولم يؤته علمًا فهو يخبط في ماله، لا يرعى لله فيه حقه، ولا يصل به رحمه، فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يؤته الله مالًا ولا علمًا فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته فهما في الوزر سواء) .
فالناس اثنان، واثنان تبع لهما، فالثاني تبع للأول، والرابع تبع للثالث.
الرجل الأول: آتاه الله علمًا ومالًا، وهناك نكتة في قوله ﵊: (إنما الدنيا لأربعة نفر) فذكر الدنيا ليصبر الناس على طلب العلم، بعض الناس يبدأ في العلم بنية فاسدة، كأن يتمنى أن يكون شيخًا كبيرًا وعالمًا جليلًا ومفتي الديار، وهذه النية ما لم يبتغ بها الآخرة فهي نية فاسدة.
فأقل قدر من طلب الدنيا يعكر عمل الآخرة، ونمثل لهذه المسألة بإناء فيه قطعة من الطين الرقراق، ثم صببت الماء في هذا الإناء، فكيف سيصير شكل الماء، سيصير كله بشكل الطين، برغم أن حجم الماء كثير بالنسبة لحجم الطينة الموضوعة في الإناء، إلا أن هذا عكر ذاك كله، فأقل قدر من الدنيا يعكر عمل الآخرة، لذلك الإخلاص لله ضروري ومهم.
النبي ﵊ استفاد من مال أبي بكر ﵁، وقال ﵊: (إنه ليس أحد أمنّ علي في صحبته وماله من أبي بكر، وقال له: لك يد علي لا يجزيك بها إلا الله) .
ومع ذلك لما أراد أن يهاجر ﵊ كما في صحيح البخاري، وأخبر أبا بكر أنه سيهاجر اشترى أبو بكر راحلتين وحبسهما يطعمهما ويعلفهما استعدادًا للهجرة، فلما آن أوان الهجرة وجاء أبو بكر بالراحلتين فأعطى راحلة للنبي ﷺ، قال له النبي عليه الصلاة، والسلام: (بالثمن) فلماذا قال له ﵊ بالثمن وهو قد أخذ منه كثيرًا قبل ذلك ولم يعطه الثمن؟ وكم واساه أبو بكر ﵁ بماله، لأن الهجرة لله فلا يريد أن يعكرها بشيء من الدنيا، قال له: (لا أخذ الراحلة إلا بثمنها)، تجريدًا للقصد.
وكذلك لما دخل النبي ﵊ المدينة فوجد قطعة أرض لغلامين يتيمين من الأنصار، فقال: (ثامنوني بحائطكم يا بني النجار) يعني: بيعوه مني بالثمن، فقالوا: لا والله لا نأخذ ثمنه إلا من الله ﷿، ومع ذلك أعطاهم النبي ﷺ الثمن، لأن هذا بيت الله.
فأقل قدر من الدنيا يعكر الآخرة، فالإنسان في بداية طلبه العلم يتمنى أن يكون مفتيًا وإمامًا وفقيهًا ومحدثًا، وكل هذا يعكر فضله، لكن قد يدخل المرء بوابة العلم بهذه النية الفاسدة، ثم يطلب العلم فتصلح نيته بعد ذلك مع طلب العلم.
فالنبي ﵊ يقول: (إنما الدنيا لأربعة نفر) أي من طلب الدنيا بالعلم نال الدنيا، والعلماء سلاطين غير متوجين، والعامة تخضع لهم أكثر من خضوعهم للسلطان؛ لأن العلماء يملكون سلطان الحجة الذي يخضع القلب له، بينما السلاطين لا يملكون إلا سلطان اليد؛ الذي لا يخضع البشر إلا له.
لأنه قد تجد الرجل يكابر العالم وقلبه خاضع لسلطان الحجة الذي ذكره العالم، إذًا العالم يسيطر على القلب؛ لأجل هذا كان سلطانه أقوى، قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:١٤] فهو جاحد، لكن في حقيقة أمره مستيقن وخاضع لها قلبه، فالعالم يملك قلوب الناس، ومن هنا تأتي قوته.
فمن أراد الدنيا فعليه بالعلم، وهذا نوع من الترغيب، فكأنه يقال لك: إذا طلبت العلم فعجزت عن تصحيح نيتك، وأحسست أن الدنيا متقدمة فلا تنصرف عن العلم، رجاء أن يصلح الله حالك.
بعض الناس يقول لك: أنا لم أستطع، أحس أني أريد أن أكون فقيهًا، فخلطه بين الرياء والدعوة يصرفه عن العلم، فنقول له: اصبر، وهذا من دليل نصح النبي ﵊.
إن العابد يزهد الناس في الدنيا والناس لا تستغني عنها فقلما يطيعونه، لكن العالم يحبب الناس في الله، فتهون الدنيا عليهم، وهذا هو الفرق، فإذا قلت لإنسان: اترك الدنيا وأت ورائي، لا يسمع منك هذا الكلام، ليس لأنه لئيم، أو لأنه غير مؤمن، ولكن لو بينت له أن التقلل من الدنيا طاعة لكان أحرى وأجدر، ولذلك ما أحسن نصيحة أصحاب قارون له، قالوا: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:٧٧] .
يعني عندما نقول لك: اتبعنا، فأنا لا أقول لك اترك ما أنت فيه من الأبهة، فإذا كان هناك رجل غني جدًا، وعنده كل رفاهيات الحياة، وأراد أن يلتزم كيف تريده أن ينخلع من كل هذا، أتريد أن يكون مثل أبي ذر مثلًا، وتقص عليه قصة أبي ذر؟ لماذا لا تقص عليه قصة عبد الرحمن بن عوف؟ وإذا صعدت قليلًا فتقص عليه قصة سليمان ﵇.
وانظر إلى سفيان بن عيينة ﵀ عندما قال له سائل: أيهما أحب إليك قول مطرف بن عبد الله بن الشخير: لأن أعافى فأشكر خيرًا لي من أن أبتلى فأصبر، أم قول أخيه أبي العلاء: اللهم إني رضيت لنفسي ما رضيته لي، فسكت سفيان ساعة ثم قال: قول مطرف أحب إلي، لماذا؟ قال: إني قرأت كتاب الله ﷿ فرأيت وصف سليمان مع ما كان فيه من النعمة: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص:٣٠] ورأيت وصف أيوب مع ما كان فيه من البلاء: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص:٤٤] فقام الشكر مقام الصبر وبقيت العافية، فلأن أعافى فأشكر خير من أن أبتلى فأصبر، إذا كانت الدرجة عند الله واحدة.
فسليمان ﵇ قام بحق الله في شكر النعم، فإذا كان هذا الرجل الذي تدعوه عنده مال وقلت له: اترك المال لا يتبعك؛ لأنه يشق عليه ذلك، هناك بعض الناس يقول: أنا أخشى الفقر وأخافه، ولا أتخيل أنني أعيش فقيرًا، فمثل هذا لا نقول له: اترك مالك ونظل نحبب هذا الشيء إليه، لا.
فهذا قارون لو أن كل أغنياء العالم الآن جمعوا ما عندهم من المال، لكان ما يمتلكونه شيئًا يسيرًا بالنسبة لما يمتلكه قارون، انظر إلى عظم حجم الأموال التي كان يمتلكها قارون، ولك أن تتخيل إذا علمت أن العصبة أولي القوة يحملون مفاتيح الخزائن فقط.
فإذا كان هناك شخص غني وعنده كل هذا المال مثل قارون، وفي نفس الوقت وضيع، فلا يمكن أن يترك هذا المال، وعلامة أنه وضيع قول الله ﷿: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾ [القصص:٧٦] يعني شخص من قوم، أي: ليس له قيمة، ليس له كنية، ليس له أي قيمه في المجتمع، ثم صعد هذا الصعود الهائل وصار غنيًا هذا الغنى.
فعندما يكون وضيعًا وغنيًا ثم أحب أن يلتزم أو يقترب، فمن الخطأ الجسيم أن تقول له: اترك مالك واتبعني! ولكن قل له: تمتع بكل المباحات وأخرج حق الله من المال، واعطف على ابن السبيل والأرملة والمسكين، وكل كما تحب وتريد، قال: ﴿وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:٧٧] .
فالنبي ﷺ عندما يقول: (إنما الدنيا لأربعة نفر) هناك بعض الناس يدخل العلم بهذه النية، فنقول له: لا تضطرب، ولا يحرمنك فساد نيتك أول الأمر على ترك طلب العلم، لكن اطلب العلم، واطرق بابه، وستصحح نيتك بعد ذلك كلما أضفت شيئًا إليك قرآنًا أو سنة، كل هذا تتعلم منه شيئًا فشيئًا، فتصحح نيتك بعد ذلك.
2 / 5