Explanation of Al-Hamawiyyah - Yusuf Al-Ghafis
شرح الحموية - يوسف الغفيص
Genres
شرح الحموية [١]
الرسالة الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ من الرسائل المهمة في باب الاعتقاد، وهي رسالة مشهورة عند أهل العلم، قد كتبها جوابًا لمن سأله من أهل حماة عن صفات الله تعالى، وقد تكلم فيها عن باب الصفات وذكر معتقد أهل السنة والجماعة فيه، ونقل أقوالًا كثيرة عن السلف والأئمة في ذلك، ورد على المخالفين في هذا الباب من متأخري الأشاعرة، ثم ختم الرسالة ببيان أصناف أهل القبلة في باب الصفات.
1 / 1
مقدمة شرح الحموية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فهذه الرسالة -الرسالة الحموية لـ شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ من الرسائل المشهورة عند طلبة العلم، وقد تكلم فيها المصنف ﵀ عن القول في باب الأسماء والصفات، وإن كان قد أشار إلى مسائل أخرى كثيرة في هذه الرسالة، وضمنها بعض الإشارات إلى مسائل تعد من معاقد النزاع بين أهل القبلة؛ ولهذا أحببت أن أقدم ببعض المسائل كمقدمة بين يدي شرح هذه الرسالة؛ لأهميتها ولبيان غرض المصنف فيها؛ فإن هذا مما ينبغي أن يتفطن له، ولا سيما إذا كان النظر في كتب المتقدمين من الأئمة المصنفة في مسائل أصول الدين كالسنة لـ عبد الله بن أحمد وأبي بكر الخلال، وشرح أصول أهل السنة للالكائي، والشريعة للآجري، وقبل ذلك خلق أفعال العباد للبخاري
إلى غير ذلك من الكتب المصنفة على طريقة الإسناد والرواية.
وكذا ما ذكره الأئمة ﵏ في مصنفاتهم التي صنفوها في أحاديث النبي ﵌ كالصحيحين والسنن وغيرها، فإننا نجد أن البخاري ﵀ قد وضع في أوائل كتابه الصحيح كتاب الإيمان وأشار فيه إلى مسائل كثيرة تتعلق بمسألة مسمى الإيمان وما يلتحق به من القول في الأسماء والأحكام، والرد على المرجئة ومن قابلهم ممن خالف مذهب السلف من الخوارج والمعتزلة.
وهذه الإشارة يقصد بها: ضبط أغراض المصنفين في هذا الباب.
1 / 2
مسألة تقسيم الدين إلى أصول وفروع
القول في باب الأسماء والصفات من القول في مسائل أصول الدين، أي: أن القول في أوصاف الرب ﷾ وأسمائه هو من القول في باب أصول الدين.
ويشار هنا إلى مسألة، وهي: أن المصنف ﵀ قد ذكر في غير محل من كتبه أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع على ما حده كثير من المتكلمين وأهل الأصول والفقهاء إنما هو بدعة لم يتكلم بها السلف، وهذا المعنى الذي ذكره المصنف في بعض الموارد من كتبه لا يشكل مع ما يوجد كثيرًا في كلام شيخ الإسلام من تعيينه لبعض المسائل والأبواب بأنها من مسائل أصول الدين؛ وذلك لأن جميع المسلمين -بما في ذلك السلف ﵏ قد أجمعوا على أن في دين الإسلام ما هو من أصول الدين، وما هو دونها؛ فقد قال النبي ﵌ -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر ﵄: (بني الإسلام على خمس) وفي حديث أبي هريرة وعمر بن الخطاب لما جاء جبريل يسأل النبي ﵌ عن الإيمان والإسلام أجابه بخمس في الإسلام وبست في الإيمان، مع أن الإيمان لا يختص بهذا التعيين، وإن كانت سائر المسائل والشرائع تعود إلى هذا التعيين إما بطريق التضمن أو بطريق اللزوم، وكذلك ما قيل في الإسلام.
إذًا: تعيين مسائل بأنها من مسائل أصول الدين هذا لا إشكال فيه ألبتة، وليس هو من محال النزاع لا بين السلف ولا غيرهم، وإنما الذي عني شيخ الإسلام ﵀ برده هو ما استعمله كثير من المتكلمين ومن قلدهم في هذا من أهل الأصول من جهة اعتبار الحد فيه، فإن المتكلمين ومن وافقهم إذا ذكروا التقسيم إلى أصول وفروع اعتبروا الأصول باعتبارات، وقد يختلف حدهم في هذا، فمنهم من يقول: إن أصول الدين هي المسائل المعلومة بالعقل والسمع، والفروع هي المسائل المعلومة بالسمع وحده -أي: بالدلائل السمعية القرآنية والنبوية-.
ولا شك أن هذا الحد حد فاسد؛ لأن ثمة مسائل بإجماع السلف أنها من مسائل أصول الدين، ومع ذلك هي ليست مما يقال فيه بالدليل العقلي، وإن كان الدليل العقلي لا يدل على مخالفة شيء جاءت به الشريعة سواء كان ذلك في العلميات أو في العمليات.
فمن أمثلة المسائل العلمية التي لم يدل عليها العقل: القول في كتابة الرب ﷾ لأفعال العباد، فإن من أخص أصول القدر عند أهل السنة والجماعة أن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، وهذه الكتابة ليست هي أصل العلم؛ فإن الله علم ما كان وما سيكون، وقد كان السلف ﵏ يرون أن من غلط في هذا الأصل -أعني: أصل العلم- يكون كافرًا كما نص على ذلك الإمام مالك وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي وأحمد وغيرهم؛ لأنه أصل يعلم بالضرورة الشرعية والعقلية والفطرية.
وأما أصل الكتابة فهذا ليس لازمًا للعلم، ولكن لما جاء في خبر الله ورسوله ﷺ أن الله كتب وجب الإيمان بما أخبر به.
فهذا الأصل لا يدل عليه العقل ابتداءً قبل ورود الشرع؛ مما يدل على أن قول طائفة من المتكلمين بأن أصول الدين: هي ما دل عليه السمع والعقل، والفروع ما دل عليه السمع وحده غلط من هذا الوجه وغيره.
ومن المتكلمين -ومن يوافقهم من الفقهاء والأصوليين- من قال بأن أصول الدين: هي المسائل العلمية، وأن الفروع: هي المسائل العملية.
وهذا الحد قد اشتهر عند كثير من أصحاب الأئمة الأربعة.
وهذا الحد وإن كان اشتغال الفقهاء به أكثر من الحد السابق إلا أنه ليس صوابًا؛ فإن ثمة مسائل هي مسائل علمية أي: محلها العلم القلبي وليست من مسائل أعمال الجوارح والأعمال الظاهرة، ومع ذلك لا يقال بأنها من أصول الدين.
قال شيخ الإسلام ﵀: وذلك كالقول في رؤية الكفار لربهم في عرصات القيامة؛ فإن هذه مسألة علمية، ومع ذلك لم يُحفظ عن الصحابة فيها قول، وظواهر النصوص فيها بعض التردد أي: من جهة نظر المجتهد فيها؛ ولهذا اختلف أهل السنة في رؤية الكفار لربهم في عرصات القيامة على ثلاثة أقوال، وربما ذكر بعض المتأخرين قولًا رابعًا.
وهذا بخلاف مسألة رؤية المؤمنين لربهم في عرصات القيامة وفي الجنة؛ فهي وإن كانت رؤية كما أن مسألة الكفار رؤية إلا أن القول في رؤية المؤمنين يعد من القول في أصول الدين؛ لأن الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة متواترة في أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات القيامة وفي الجنة، وقد جاء في ذلك عن النبي ﷺ أحاديث متواترة بلغ رواتها من الصحابة نحوًا من ثمانية وعشرين صحابيًا.
ومما يبين أن المخالفين للسلف من أئمة الكلام وغيرهم هم من أجهل الناس بالسنن والآثار، كلام بعض أئمة الاعتزال، حيث نرى القاضي عبد الجبار بن أحمد، وهو عمدة المتأخرين من المعتزلة، لما تكلم عن مسألة الرؤية قال: وأما الأحاديث المروية في السنة فهي آحاد، فإنه لم يروها عن النبي إلا جرير بن عبد الله البجلي.
وهذا جهل علمي محض، فإن هذه الأحاديث قد رواها -كما تقدم- ما يقارب الثلاثين من الصحابة، فكيف يقع له -وهو عمدة من كبار أئمتهم- أن يقول: إنه لم ترد إلا من طريق جرير بن عبد الله؟!
ثم طعن في الطريق الذي رواه جرير بن عبد الله مع أنه في البخاري، فهو يبطلها من أوجه يعلم بالضرورة أنها من محال الغلط.
وكذلك ثمة مسائل علمية هي من الأصول: فإن الصلاة من المسائل العملية، ومع ذلك قد أجمع المسلمون على أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، فكيف يقال: إن الفروع هي المسائل العملية؟
إذًا: هذه الحدود التي يستعملها من يستعملها من المتكلمين ومن يوافقهم للتفريق بين أصول الدين وفروعه، هي ما أراد شيخ الإسلام رده وإبطاله.
أما القول في مسائل الصفات، ومسائل القدر، ومسائل الإيمان، ومسائل الصلاة -أي: من جهة وجوبها وركنيتها- وأمثال ذلك فإن هذا لا شك أنه من القول في أصول الدين، وهذا ليس محل نزاع بين السلف، بل ولا محل نزاع بين سائر طوائف المسلمين.
هذه هي المسألة الأولى التي قصد التنبيه إليها؛ لأنه يقع في كلام شيخ الإسلام ﵀ ما هو تارةً من الذم لهذا التقسيم، فينبغي أن يفهم على وجهه.
1 / 3
الاختلاف في الفروع يسع فيه الاجتهاد
أن النزاع فيما هو دون الأصول هو من جنس النزاع بين الأئمة، وقد تنازع أئمة الصحابة ﵃ في مسائل كثيرة من مسائل الفقه وغيره، وهذه المسائل هي مما يقال فيه بالاجتهاد، بمعنى أنه يسع فيها الاجتهاد، وإن كان في كثير من هذه المسائل المتنازع فيها نصوص حاسمة، لكن يبقى أنه يقع في تعيين هذه النصوص والتحقق من دلالتها نزاع، كاختلاف الصحابة ﵃ في كثير من المسائل، ثم من بعدهم اختلاف التابعين، واختلاف الأئمة كالأئمة الأربعة وغيرهم.
وهذا الاختلاف ليس فيه إشكال؛ لأنه من باب الاجتهاد؛ ولهذا الواجب فيه على طالب العلم: أن يجتهد في اتباع ما يراه مقاربًا للدليل من الكتاب والسنة، ولا يلزمه في ذلك أن يلتزم مذهبًا واحدًا أو قولًا واحدًا، وإن كانت هذه المسألة -أيضًا- لابد فيها من اعتدال، فإن من التزم مذهبًا واحدًا لكونه ليس من أهل النظر والترجيح فقد جرى على عمل كثير من المسلمين، وإن كان ليس هو الفاضل في هذا المقام، لكن لا ينبغي أن يبالغ في إنكاره إذا كان الذي يسلكه من أهل مصر قد أقاموا عليه، وقد سلموا من البدع، وإنما قلدوا إمامًا معتبرًا كـ أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد أو أمثال هؤلاء.
1 / 4
الاختلاف في الأصول لا يسع فيه الاجتهاد
القول في مسائل أصول الديانة فهذا باب لا يسع فيه التوسع -بمعنى: التوسع في قبول الأقوال- فإنه لا يصح في هذا الباب سواء كان القول في مسائل الصفات، أو كان القول في مسائل القدر، أو في مسائل الإيمان والأسماء والأحكام التي يلتحق بها القول في التكفير وأمثال ذلك، فهذه المسائل -مسائل أصول الديانة- لا يسع فيها التخير بين الأقوال ولا يسع فيها الاجتهاد، بل يجب التزام ما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف هذه الأمة.
فقد كان الصحابة ﵃ متفقين على جميع مسائل أصول الدين؛ ولم يقع بينهم في ذلك نزاع ألبتة؛ لأن النبي ﵌ قد بينها وأحكمها إحكامًا تامًا.
1 / 5
ظهور الخوارج
لما كان في آخر عصر الخلفاء الأربعة الراشدين ظهرت الخوارج، ونازعوا في مسألة الإيمان؛ لذا كان القول في مسمى الإيمان وما يلتحق به من القول في الأسماء والأحكام هو أول نزاع حصل بين المسلمين في مسائل أصول الدين.
وقد نبغ مقدم هؤلاء الخوارج في زمن النبي ﵌ كما تواتر ذلك في الصحيحين وغيرهما، فقد رواه الإمام مسلم من عشرة أوجه، روى البخاري طائفة منها، وهي مخرجة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، وقد ورد من رواية أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي، وغير هؤلاء، وقد تلقاه أئمة الحديث بالقبول.
وفيه قصة بعث علي بن أبي طالب ﵁ إلى النبي ﷺ من اليمن بذهب في أديم مقروض لم يحصل من ترابه، فقسمه النبي ﵌ بين أربعة نفر
وفي آخر الرواية: أنه قام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار فقال: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل -وفي رواية: إن هذا قسمة لم يرد بها وجه الله- فغضب النبي ﵌ من قوله، فقام خالد بن الوليد -وفي رواية البخاري: قام عمر بن الخطاب - وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق.
فقال: (لعله أن يكون يصلي.
قال: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه.
قال: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم ثم نظر إليه النبي ﷺ وهو مقف فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقراءتكم مع قراءتهم، وصيامكم مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي رواية: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود) وفي رواية: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية
قد سبق الفرث والدم) وفي رواية: (فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة) وفي رواية: (لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم ﷺ لاتَّكَلوا عن العمل).
وقد ظهر هؤلاء في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقاتلهم الصحابة ﵃ في معركة نهاوند بإمارة علي.
1 / 6
أنواع القتال الذي وقع في زمن الصحابة
يمكن تقسيم القتال الذي وقع في زمن الصحابة إلى ثلاثة أنواع:
1 / 7
قتال الصحابة للمرتدين
الأول: القتال الذي وقع في زمن أبي بكر، حيث ارتد أقوام عن أصل الإسلام، وجحد آخرون وجوب الزكاة، وهذان الصنفان لا نزاع بين أهل العلم ألبتة في كونهما من أهل الردة، وإنما وقع الخلاف في الصنف الثالث، وهم الذين منعوا دفع الزكاة ولم يجحدوا وجوبها.
فهذا الصنف قد ثبت بالسنة أن أبا بكر ﵁ قد قاتلهم، فهل كانوا مرتدين أم كانوا من أهل البغي؟
اختلف في هذا المتأخرون من أصحاب الأئمة الأربعة، وجمهور الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وطائفة من الحنابلة -كما يذكره الخطابي والنووي وغيرهم- أنهم من أهل البغي وليسوا من أهل الردة.
لكن الذي عليه جمهور السلف كأئمة المدينة النبوية مالك وغيره، وكالإمام أحمد ﵀، وجمهور العراقيين، والشاميين من الأئمة الكبار أن هؤلاء مرتدون عن أصل الإسلام، ووجه الردة التي لحقتهم: من جهة أنهم منعوا الزكاة وقاتلوا عليها.
إذًا: مذهب الجمهور من السلف: أن من قاتل على منع الزكاة فإنه يكون كافرًا، وهذا بخلاف من ترك الزكاة ولم يقاتل عليها؛ فقد كان الإمام مالك بل والإمام أحمد في الراجح من مذهبه يرون أن تارك الزكاة ليس كافرًا؛ ولكنه لم تختلف الرواية عن مالك، وكذلك هو الصواب في مذهب أحمد، وهو الذي رجحه كثير من محققي الحنابلة: أنه إن قاتل على ترك الزكاة فإنه يكون كافرًا عملًا بسنة الصحابة.
وقد حكى أبو عبيد -وهو من الأئمة الكبار- أن مذهب الصحابة قاطبةً أن هؤلاء مرتدون، وكذلك شيخ الإسلام ﵀ يميل إلى أن هذا القول يقارب أن يكون إجماعًا، وإن كان لا يجزم به على التمام.
إذًا: في مسألة ترك المباني الأربعة نزاع بين الأئمة، من جهة كونه كفرًا أو لا، لكن الجماهير من السلف على أن ترك الصلاة كفر، وإن كان في هذا نزاع يذكر عن مالك والشافعي وأبي ثور ومحمد بن شهاب الزهري ومكحول الشامي، لكن حكى إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -المشهور بـ ابن راهويه - وأيوب السختياني الإجماع على أن ترك الصلاة كفر، وهو ظاهر كلام عبد الله بن شقيق الذي رواه الترمذي وغيره.
أما الزكاة ففي كفر تاركها نزاع إذا لم يقاتل عليها، أما إن قاتل عليها فلم يحفظ عن إمام من أئمة السلف التصريح بأنه لا يكون كافرًا.
وأما القول في الصوم والحج فهو محل نزاع، وفيه روايتان عن الإمام أحمد ﵀.
1 / 8
قتال الصحابة للخوارج
الثاني: قتال الصحابة للخوارج، وهذا القتال يختلف عن القتال الذي وقع في زمن أبي بكر، حيث إن قتال الخوارج درجة بين قتال المرتدين الذين قاتلهم الصحابة في زمن أبي بكر ﵁ وبين النوع الثالث من القتال، وهو الذي وقع بين الصحابة أنفسهم في صفين والجمل.
1 / 9
القتال بين الصحابة أنفسهم
القتال في صفين والجمل لم يكن من باب قتال البغي المتعين، وإن كان الذين لم يتبعوا عليًا ﵁ ويسلموا له قد وصف النبي ﷺ طائفتهم في الجملة بأنها باغية كما ثبت في الصحيح: (تقتل عمارًا الفئة الباغية) ولكن مع ذلك معها شيء من الحق، فقد ثبت في الصحيح: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أَولى الطائفتين بالحق).
فهؤلاء الصحابة ﵃ مجتهدون، والمخطئ منهم له أجر، والمصيب له أجران كما في الصحيحين عن عمرو بن العاص مرفوعًا: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) لذلك كان مذهب السلف ﵏ في القتال الذي جرى بين الصحابة، أنه يكف عن ذلك، وأنهم مجتهدون في هذا، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر.
وقد كان الصحابة ﵃ في القتال في صفين على ثلاث طوائف:
١ - طائفة مع علي.
٢ - طائفة مع معاوية.
٣ - طائفة اعتزلوا القتال كـ محمد بن مسلمة وأبي بكرة وسعد بن أبي وقاص، وقد كان أفضل الناس إذ ذاك بعد علي بن أبي طالب ﵁، بل إنه بالغ في الاعتزال حتى خرج إلى إبله وترك المدينة.
وظاهر مذهب أحمد تصويب الموقف الذي اتخذه سعد ﵁ وأمثاله، قالوا: لأن عليًا مال إليه في آخر الأمر.
لكن تبقى المسألة مسألة نزاع بين السلف: هل كان الصواب ترك القتال أم كان الصواب مع علي في قتاله؟
وهذا بخلاف مسألة أن عليًا أولى بالحق، فإن فيها إجماعًا للسلف، وقد قال الإمام أحمد ﵀: من لم يربع بـ علي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله.
لكن مسألة السيف هذه مسألة مختصة في هذا الباب؛ ولهذا كان أحمد يرى بل يحكي الإجماع على أن عليًا أولى بالحق، وأن من لم يربع بخلافته فهو أضل من حمار أهله لما ثبت في السنة -في المسند وغيره- من حديث سفينة وغيره أن النبي ﵌ قال: (الخلافة بعدي ثلاثون) فخلافة علي خلافة راشدة بإجماع السلف، وإن كان معاوية قد اجتهد فأخطأ، ولكن مسألة السيف فيها تردد بين الأئمة: هل الصواب تركه أم الوقوف مع علي، ولم يرجح سيف معاوية أحد من الأئمة المتقدمين، وإن كان هذا مسلك طائفة من الفقهاء المتأخرين.
فهذا القتال طرف، والقتال الذي وقع في زمن أبي بكر طرف آخر، وقتال الخوارج وسط بين هذين القتالين، فإنهم ليسوا كالصحابة في صفين والجمل -هذا بالإجماع عند السلف- وليسوا كذلك كالمرتدين، فإن الراجح في الخوارج أنهم ليسوا كفارًا وإن كانوا بغاةً بغيًا شديدًا، لكن الصحابة ﵃ الذين قاتلوهم بأمر النبي ﵌ لم يعتبروهم كفارًا، حيث لم يأخذوا فيهم سنة الكفار في القتال كالإجهاز على الجريح، واتباع المدبر، واستباحة النساء والذراري والغنائم وأمثال ذلك، وقد حكى شيخ الإسلام أن مذهب الصحابة ﵃ أن الخوارج ليسوا كفارًا وإن كانوا بغاةً بغيًا شديدًا، وإنما موجب القتال الذي شرع فيهم دفعًا لصولهم عن المسلمين لا من باب أنهم كفار.
وهذه المسألة لا بد من ضبطها؛ فإن الشريعة قد تأمر بقتل من ليس كافرًا أو بقتاله، وقد تمنع قتل من هو كافر أو تمنع قتاله.
فإن اليهود والنصارى إذا دفعوا الجزية لا يجوز قتالهم ونقض العهد معهم بالإجماع، وقد اختلف الفقهاء ﵏ في أخذ الجزية من غير اليهود والنصارى، وكذلك المُعاهَد لا يجوز الاعتداء عليه ولو لم يكن من أهل الجزية ما دام أنه في مدة العهد الذي فرضها المسلمون له.
وبالمقابل فإن القاتل عمدًا يُقتل مع أنه مسلم، والزاني المحصن يرجم مع أنه مسلم، والمحارِب إذا ثبت فيه حكم الحرابة فإنه يقتل على الصفة التي ذكرت في سورة المائدة، مع أنه بالمحاربة لا يخرج من الملة.
وكذلك إذا اجتمعت طائفة على بغي شديد ولم يندفع صولها وشرها عن المسلمين إلا بالمقاتلة فإنها تقاتل، وإن كان حكمها أنها مسلمة.
إذًا: اختلف الصحابة في حكم القتال الذي وقع بينهم، لكنهم لم يختلفوا في قتال الخوارج؛ حيث إن قتال الخوارج مشروع بالنص والإجماع، أما النص فهو النص النبوي، وإما الإجماع فهو إجماع الصحابة على قتالهم.
أما القتال الذي بين الصحابة فهو ليس مشروعًا لا بالنص الصريح ولا بالإجماع، أما الإجماع فالصحابة لم يجمعوا، وأما النص فإن النص المستدل به في هذا هو محل نزاع بين الأئمة، وقد كان شيخ الإسلام ﵀ يميل إلى أن الكتاب والسنة ليس فيهما دليل على هذا القتال الذي وقع بين الصحابة، ويقول: إن هذا مذهب أحمد والجمهور من السلف.
1 / 10
ظهور القدرية
في آخر عصر الصحابة بعد عصر الخلفاء الراشدين ظهرت بدعة أخرى في أصول الدين، وهي: بدعة القدرية الذين قالوا: لا قدر، إنما الأمر أُنُف.
وقد أدركت بدعتهم طائفة من الصحابة كـ ابن عمر وواثلة وجابر بن عبد الله وابن عباس فتبرأوا منهم.
والقدرية صنفان:
الصنف الأول: منكرة لعلم الرب، ومن باب أولى ينكرون ما بعده، فهؤلاء كفار عند السلف.
الصنف الثاني: وهم جمهورهم، وقد تقلد قولهم المعتزلة، بل ودخل على طائفة من رجال الإسناد، وهم القائلون بأن الله لم يخلق أفعال العباد.
إذًا: القول بإنكار علم الرب بأفعال العباد هو قول غلاتهم، وقد انتهى أمره في الجملة، ولا إشكال في كفرهم لتظافر الدلائل الشرعية القاطعة بكفر من قال ذلك؛ لأنه وصف لله بالجهل.
ولكن الجمهور من القدرية أقروا بأن الله علم ما كان وما سيكون، ومن ذلك أفعال العباد، ولكنهم قالوا: إن الله لم يخلقها ولم يردها ولم يشأها.
وهذا المذهب هو الذي شاع في جمهور القدرية، وقد تقلدته المعتزلة بأسرها، وقد دخل جمهور هذا المذهب في آخر المائة الثالثة على طوائف الشيعة من الإمامية والزيدية وغيرها، وكذلك دخل على بعض رجال الحديث؛ حتى قال الإمام أحمد: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة.
لكن ينبه هنا إلى مسألة لطيفة، وهي: أن القول بالقدر الذي كان يقول به بعض رجال الإسناد لم يعتبروه على طريقة المتكلمين من المعتزلة، أي: أن تقرير المعتزلة أصحاب العلم الكلامي لهذه المسألة يختلف عن القول الذي شاع عند بعض رجال الحديث في البصرة وفي الشام، ولهذا كان قول هؤلاء أخف من قول المعتزلة، مع أن النتيجة تكاد تكون متقاربة؛ فقد أثبتت المعتزلة قولها في هذا الباب على الأصول الكلامية، لذلك رتبت مسائل كثيرة بعد مسألة أفعال العباد كالقول في الهدى والإضلال، والقول في مسائل التكليف ومسائل الظلم والأصلح، والقول في التحسين والتقبيح العقلي
إلى غير ذلك من المسائل التي رتبها المعتزلة ترتيبًا كلاميًا، ولم يكن رجال الحديث الذين وقعوا في بدعة القدر يتكلمون في هذا على هذا التنظيم والترتيب الذي ذكره المعتزلة.
وقد قال المعتزلة في مرتكب الكبيرة قولًا مقاربًا لقول الخوارج، لكنهم لم يحكموا عليه بالكفر في الدنيا، وإنما قالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، وهي: منزلة الفسق المطلق، أي: ليس معه من الإيمان شيء وليس كافرًا.
1 / 11
ظهور المرجئة
قابل قول الخوارج والمعتزلة أقوال المرجئة، أي: أن أقوال الوعيدية كما يسميها السلف -وهم: الخوارج والمعتزلة- قابلها في باب الأسماء والأحكام ومسمى الإيمان أقوال المرجئة.
والمرجئة طوائف، حتى ذكر الأشعري في مقالاته أنهم ثنتا عشرة طائفة، وإن كانوا قد يرتبون على أكثر من هذا.
وهؤلاء المرجئة فيهم غلاة كـ الجهم بن صفوان الذي يقول: إن الإيمان المعرفة.
وكـ أبي الحسين الصالحي وبشر بن غياث وأمثالهم، وفيهم المتوسطون، وفيهم المقاربون للسلف من الفقهاء، وهم الذي عرفوا بمرجئة الفقهاء، وهؤلاء قوم من فقهاء الكوفة كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة في الأصول والتلقي، ولكنهم انحرفوا في مسألة الإيمان.
ومما ينبه إليه هنا: أن الناظر في مسائل أصول الدين التي تنازع فيها المسلمون يجد أن مسألة الصفات لم يشتبه القول فيها على أحد من المعروفين بالسنة والجماعة، وكذلك مسألة القدر في الجملة، إلا ما وقع من بعض رجال الحديث، ثم انتهى أمره في الغالب.
ولكن المسألة التي حصل فيها اضطراب عند قوم ممن عرفوا بالسنة والجماعة، ثم شاع ذلك في الفقهاء الذين ينتحلون مذهب السلف في أصول الدين، هي: مسألة الأسماء والأحكام ومسمى الإيمان؛ فإن حماد بن أبي سليمان لم يقع له غلط في مسائل الصفات، بل ولا في مسائل القدر، وإنما توهم في مسألة الإيمان، فأخرج العمل عن مسمى الإيمان لظواهر بعض الآيات، كقوله تعالى كثيرًا في القرآن: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة:٢٧٧].
فجعل هذا التفريق دليلًا على أن العمل ليس داخلًا في مسمى الإيمان؛ فهذا الإشكال وأمثاله أوجب عند كثير من الفقهاء في تقرير مسائل التكفير والردة اضطرابًا شديدًا.
حتى إننا نجد أن من أصحاب المذهب الواحد من الفقهاء من يحكون عن إمامهم القولين المتناقضين، فنجد بعض الحنابلة -مثلًا- يحكى عن أحمد من التكفير ما يحكي بعض الحنابلة عن أحمد نقيضه، فقد قال بعض الحنابلة: إن الإمام أحمد يذهب إلى تكفير أهل البدع.
وقالت طائفة من الحنابلة: إن الإمام أحمد لا يرى تكفير أهل البدع، بل يراهم من أهل الفسق.
مع أن هذا الإطلاق وهذا الإطلاق لم يتكلم به لا الإمام أحمد ولا غيره من أئمة السلف، بل كانت طريقتهم في هذا طريقة التفصيل، فقد أجمع السلف على كفر طوائف كغلاة الشيعة المؤلهة لـ علي وأمثال ذلك، وغلاة الجهمية المنكرة لأسماء الرب وصفاته، وكغلاة القدرية المنكرة للعلم، وترددوا في طوائف واختلفوا، وأجمعوا على عدم كفر بعض الطوائف، مع أنها تعد عندهم من طوائف أهل البدع.
وظهر ما يقابل القول في القدر، وهو القول بالجبر، وقد ظهرت مقالة الجبرية على يد الجهم بن صفوان، فتكلم بأن العباد مجبورون على أفعالهم، فكان هذا نقيضًا لمذهب القدرية، فصارت كل بدعة تظهر يقابلها بدعة أخرى.
والمحصل من هذا الخلاف التاريخي: أنه قد انقرض عصر الصحابة وانتهى ولم تظهر بدعة في أسماء الرب وصفاته.
1 / 12
ظهور البدع في مسألة الأسماء والصفات
ظهر في المائة الثانية بعد انتهاء عصر الصحابة الغلط في مسألة الصفات، وقد ظهر هذا لما تكلم الجعد بن درهم في هذا الباب بإنكار صفات الرب سبحانه، ثم ظهر ذلك على يد الجهم بن صفوان، ونسبت المقالة إليه، وشاعت هذه المقالة في المائة الثالثة كثيرًا لما عرِّبت الكتب الفلسفية التي كانت هي مادة نفاة الصفات في هذا الباب.
وقد ظهر بعد ذلك المتفلسفة كـ يعقوب بن إسحاق الكندي وأبي نصر الفارابي والحسين بن عبد الله بن سينا، ثم ظهرت الفلسفة في بلاد المغرب عند أبي الوليد بن رشد، وأمثال هؤلاء.
والذي أحب أن أشير إليه هو أنه إذا وقعت البدعة على درجة من الغلو والانحراف عن مذهب السلف -ولا سيما في مسألة الانتحال والانتساب- فإن هذه وإن كانت أشد من جهة الضلال إلا أنها لا تكون من محال الالتباس، ولهذا لم تلتبس البدع المغلظة على أحد في زمن السلف ﵏، لكن الإشكال وقع بعد عصر الأئمة -بعد القرون الثلاثة الفاضلة- لما جاء قوم انتسبوا للأئمة، وطائفة منهم انتسبوا للسنة والجماعة، وخلطوا قول أهل السنة بقول المتكلمين المتقدمين الذين كانوا على درجة من الغلو في بدعتهم.
وهذه المسألة -مسألة الصفات وما يتعلق بها- هي المسألة التي عني المصنف ﵀ ببسطها هنا، فقد قصد في هذا الكتاب إلى ربط المذهب الذي نشأ عند المتأخرين من المتكلمين بالمذهب الذي كان عليه قدماؤهم، مع أن الناظر في كتب المتأخرين من المتكلمين، ومن تأثر بهم من شراح الحديث -وهم فضلاء من كبار أهل العلم وحفاظ الحديث والفقهاء وأهل الأصول- يجد أنهم يطعنون على المتقدمين من المتكلمين كثيرًا، ويثنون على متأخريهم، ويرونهم من أهل السنة والجماعة.
وقد كان الناس في زمن الأئمة بعد ظهور هذه البدعة على أحد مذهبين:
الأول: مذهب السلف، وهو الذي عليه الجمهور من المسلمين.
الثاني: مذهب طائفة انحرفوا ببدعتهم، وهم الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات.
وكان هناك مذهب التشبيه عند قدماء الرافضة كـ هشام بن الحكم، وهشام بن سالم
وأمثال هؤلاء، ثم انحرفت الشيعة الإمامية بعد ذلك إلى مذهب المعتزلة؛ حتى أصبح الشيعة فيما بعد المائة الثالثة -في الجملة- على طريقة المعتزلة، وإن كان قدماؤهم مشبهة، وهذا يدل على التناقض المحض في هذا المذهب.
لكن في آخر عصر الأئمة ﵏ ظهر قوم من المتكلمين اشتغلوا بالرد على المعتزلة، وانتسبوا للسنة والجماعة، ولكنهم كانوا من جهة الأصول والتقعيد -في الجملة- يستعملون الأدلة الكلامية الحادثة التي أسسها أئمة الجهمية وأئمة المعتزلة، ومن أخص من تكلم بهذا عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان هذا في زمن الإمام أحمد، ولما ظهر بطلان قول المعتزلة في مسألة القرآن، وظهر انتصار مذهب أهل السنة في زمن المتوكل، وكثر رد علماء السنة والحديث على المعتزلة القائلين بخلق القرآن كان عبد الله بن سعيد بن كلاب هذا -وهو من علماء الكلام- ممن اشتغل بالرد على المعتزلة، وقد أطلق عبارات فيها اشتباه، فقال: القرآن حكاية عن كلام الله، والله يتكلم ولكن الكلام معنىً واحد يقوم في النفس ليس بحرف وصوت.
فصار عنده جملة من قول أهل السنة وهي قوله: إن القرآن ليس مخلوقًا، وأن الله موصوف بالكلام.
ولكنه أتى بقول محدث وهو قوله: إن القرآن ليس كلام الله حقيقة ولكنه حكاية، وأنه كلام نفسي ليس بحرف وصوت.
فهذا القول أسس بدعة فيما بعد، وهي بدعة نفي الصفات الفعلية، وهذه البدعة صارت مزلة أقدام لكثير من فضلاء أهل العلم.
وقد كانت المعتزلة تنفي الصفات اللازمة والفعلية -كالنزول والاستواء- وكان السلف يثبتون الصفات اللازمة والفعلية، فجاء ابن كلاب وأثبت أصول الصفات اللازمة في الجملة ونفى الصفات الفعلية، واستعمل في نفيها دليل الأعراض الذي استعملته المعتزلة، لكنه اختصره بعض الاختصار، حيث قال: إن العرَض ليس هو ما يقابل الجوهر مطلقًا ولكنه ما يعرض ويزول ولا يبقى زمنين؛ فمن هنا تحصل له إثبات أصول الصفات ونفي الصفات الفعلية.
ثم انتسب أبو الحسن الأشعري بعد ترك المعتزلة إلى أهل السنة والجماعة، ولكنه نصر طريقة ابن كلاب، ولم يكن يعرف مذهب أهل السنة والحديث بالتفصيل، وإنما كان يعرفه مجملًا، وهذا ليس تقولًا على الأشعري، فإننا نجد هذا ظاهرًا في كتابه مقالات الإسلاميين، فإن الناظر في حكايته لمقالات المعتزلة يجد أنه يفصل مقالات المعتزلة على التمام، حتى يذكر قول أبي علي الجبائي وحده، وقول أبي الهذيل العلاف وحده، وقول أبي إسحاق النظام وحده، وكذلك عند ذكره لمقالات المرجئة، والشيعة، لكن عندما أتى لقول أهل السنة والحديث قال: جملة قول أهل السنة والحديث
ثم ذكر كلامهم كجمل مجملة، لا تتجاوز قدرًا يسيرًا مما ذكره عن المعتزلة، ثم ختم قول أهل السنة بقوله: وبكل ما قالوا نقول.
فـ الأشعري التزم جمل أهل السنة، ولكنه لم يعرف تفاصيل المذهب؛ ولهذا صار يطلق جملًا عند الكلام عن مذهب أهل السنة، ثم إذا جاء لشرح هذه الجمل في كتبه المفصلة اختلف معهم، فقد التزم قول أهل السنة في كتابه المقالات، وهو أن الإيمان قول وعمل، لكنه في كتابيه الموجز واللمع قال: الإيمان هو التصديق وحده، والعمل ليس من الإيمان.
وقال في القدر بنظرية الكسب، والأشاعرة من بعده يقولون: إن الكسب جبر متوسط كما يعبر الشهرستاني، أو إن العبد مجبور في صورة مختار كما يعبر الرازي، فهو نوع من الجبر ولكنه ليس جبرًا محضًا ..
فهذا اختلاط مذهبي كبير في مذهب أبي الحسن الأشعري.
ومثل هذا وقع عند أبي منصور الماتريدي الحنفي، فإن مذهب الماتريدية من جنس مذهب الأشاعرة، وإن كان الأشاعرة خيرًا منهم في المذهب، بل -لا شك- أن الإمام الأشعري -وقد كان معاصرًا للماتريدي - أقرب إلى السنة والجماعة وأكثر عناية بمذهبهم وأكثر تعظيمًا للسنن والآثار، فهو ينتسب لقول السلف بالتصريح، بل قال في مقدمة كتاب الإبانة عن أصول الديانة: فإن قيل: قد أبطلتم قول الخوارج والمعتزلة والروافض فخبرونا قولكم الذي تقولون به، ودينكم الذين تدينون الله به.
قال: فنقول ديننا الذي ندين الله به هو ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وما درج عليه الصحابة ﵃ والأئمة، ثم قال: ونحن بكل ما يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون، ولما يعتقده معتقدون، فإنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل
إذًا: كان الأشعري مجتهدًا في إصابة مذهب السلف، لكن لأنه مضى عليه ما يقارب الأربعين سنة في الاعتزال لم يدرك مذهب السلف على التفصيل، فهو انتسب إلى أهل السنة لكنه لم يحقق مذهبهم، فقد أتى بمذهب ملفق من مذهب أهل السنة وبعض كلام المعتزلة -الذي خفي عليه الترتيب فيه، وإن لم يخف عليه أصل المذهب- وشيء من مقالات المرجئة، وشيء من مقالات الجهمية بنوع من التخفيف، فليس هو جهميًا محضًا في مسألة واحدة، لكنه قارب الجهمية في بعض المسائل، وبخاصة في مسألة القدر، في نظرية الكسب التي هي نوع من الجبر.
وهذا التحقيق ليس بالضرورة أن يقال: إن الذي حققه وقرره هو شيخ الإسلام أو غيره من أهل السنة والجماعة -وإن كان يقرره شيخ الإسلام - لكن أيضًا نقوله لأنه حتى الأشاعرة في كتبهم يقررون هذا، فقد قال أبو جعفر السمناني: إن القول بإيجاب النظر بقية بقيت في مذهبنا من مذهب المعتزلة.
وكذلك الرازي، فقد ذكر أن المذهب شارك الجبرية في مسائل كثيرة، وغيرهما من الأشاعرة أيضًا ذكره في كتب الأشاعرة.
وكتاب الأشعري الإبانة كتاب فاضل في الجملة، وإن كان لم يفصح فيه بالتفصيل كثيرًا، لكن شيخ الإسلام ﵀ يقول: ومن قال منهم -يعني الأشعرية- بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة.
لكن صار مجرد الانتساب للأشعري بدعة؛ لأنه عرف بالانحراف عن كثير من أصول السلف وإن كان من جهة الانتماء والانتساب عني كثيرًا باتباع مذهب السلف، لكن فرق بين مسألة الانتماء وبين مسألة تحقيق المذهب في نفس الأمر؛ فإن الأشعري من جهة الانتماء انتماؤه سني سلفي بعد الاعتزال، لكن من جهة تحقيق المذهب هو لم يحقق مذهب السلف في كثير من الموارد، بل أصابه في مسائل وأخطأه في مسائل، ولهذا قوله في أكثر أصوله مركب من كلام أهل السنة وكلام غيرهم، أما في الانتساب فهو لا ينتسب بعد الاعتزال إلا للسلف، وهذا شأن ثابت له.
أما الماتريدي فهو ليس بدرجته، وإن كان يقارب طريقة المتأخرين من الأشاعرة، كـ أبي المعالي الجويني؛ فإن أبا المعالي الجويني قد نزل بالمذهب الأشعري عن طريقة الأشعري كثيرًا، وهذه المسألة من المهم أن ينتبه لها في المذهب الأشعري على وجه الخصوص، وهي أن المذهب كلما تقدم التاريخ كان أفضل، بمعنى أن كلام الأشعري خير من كلام القاضي أبي بكر الباقلاني، وكلام الباقلاني أقرب إلى السنة والجماعة والنصوص من كلام أبي المعالي الجويني وعبد القاهر البغدادي، وكلام الجويني في الجملة أقرب من كلام محمد بن عمر الرازي.
والمعتزلة في الغالب على العكس، فإن المتأخرين من المعتزلة في الجملة خير من المتقدمين؛ لأن المتأخرين من المعتزلة عنوا بالانتساب الفقهي لـ أبي حنيفة على وجه الخصوص، ولهذا تأثروا بأصحابهم من أهل السنة من الحنفية.
حيث إننا
1 / 13
التفريق بين حكم القول وحكم قائله
لابد للناظر في كلام الطوائف، وما قررته في مسائل أصول الدين، أن ينتبه عند القول في هذه الطوائف للفرق بين القائل ومقالته.
يقول شيخ الإسلام ﵀: ما من إمام من أئمة المتكلمين إلا وفي كلامه ما هو كفر.
وهذا من جهة المقالات، بمعنى أنه قد وقعت مقالات لهؤلاء -وفي الجملة أن الطوائف الكلامية المحضة لم تنفك عن هذه المقالات- هي من جهة الحكم الشرعي كفر، ومع ذلك لا يعني هذا أن القائل بها يلزم أن يكون كافرًا، فإن الله ﷾ وصف نفسه بأنه استوى على العرش في سبعة مواضع من القرآن، فإذا جاءت طائفة ولم تثبت هذا الاستواء فإن حقيقة هذا -أعني: من جهة الحقيقة في نفس الأمر- نفي للخبر الذي أخبر به في القرآن، فمن هذا الوجه كان هذا النفي كفرًا، لكن القائل به إن كان قاله تكذيبًا للقرآن وقال: القرآن لا يصدق في هذا.
فلا شك أن هذا يكون كافرًا بعينه، وهذا لم يقع في أحد من أهل القبلة، لكن من تأول هذا تأولًا فهذا هو الذي يفصل السلف في شأنه، فلا نقول: إن السلف لا يكفرون، ولا نقول: إن السلف يكفرون، وإنما نقول: هذا هو الذي فصل السلف في شأنه.
ولهذا مع أن شيخ الإسلام ﵀ قال المقالة المتقدمة، إلا أنه يقول في موضع آخر: ويعلم أن الواحد من أهل الصلاة والشعائر الظاهرة -أي: من يظهر الصلاة والشعائر الظاهرة- لا يكون كافرًا في نفس الأمر -أي: عند الله- إلا إن كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق.
وهذا الكلام من المهم أن ينظر فيه، لأنه يتعلق بموضوع مهم في هذا العصر، وهو موضوع التكفير الذي يقع فيه إفراط أو تفريط.
ولـ شيخ الإسلام كلام كثير في هذا، منه رسالة لطيفة في المجلد الثالث من الفتاوى شرح فيها حديث الافتراق الذي جاء عن النبي ﵌ من رواية أبي هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر وغيرهم أنه ﷺ قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة).
وهذا الحديث قد تكلم فيه الأئمة، فمنهم من ضعفه، كـ أبي محمد بن حزم، ومنهم من صححه.
1 / 14
حقيقة الخلاف في مسائل أصول الدين بين أهل القبلة
بعض من يتكلم في مسألة الافتراق يفرض أن مسائل أصول الدين ليس فيها اختلاف بين المسلمين، وأن النزاع نزاع اجتهادي كالنزاع الفقهي ..
وهذا غلط، فإن مسائل الاجتهاديات والفقهيات -كما تقدم- يقال فيها بالتوسعة، ويسع فيها الاجتهاد، أما مسائل أصول الدين كالصفات والقدر والإيمان وأمثال ذلك فهذه لا يسع فيها الاجتهاد، بل يجب أن يلتزم فيها ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وإن كنا نقول: أنه يجب التزام ما دل عليه الكتاب والسنة حتى في الفقهيات، لكن من المعلوم أن الفقهيات المختلف فيها ليس فيها إجماع، وقد لا يكون فيها نصوص صريحة حاسمة قاطعة لا تحتمل الاختلاف؛ ولهذا اختلف فيها السلف ولم يختلفوا في الأصول.
فمن يحاول التقريب بين مسائل أصول الدين ومسائل الاجتهاد الفقهية ويقول: إن الخلاف هنا كالخلاف هنا، مستدلًا بأن هذا التفريق مبني على حديث ضعيف، وهو حديث: (افترقت اليهود) فإن هذا الكلام في حقيقته ليس بشيء: لا من جهة الواقع التاريخي، ولا من جهة النصوص النبوية؛ لأن الحديث وإن كان ضعيفًا فإن اختلاف أهل القبلة في أصول الدين يعد واقعًا تاريخيًا لا يمكن النزاع فيه، ولا يمكن لأحد أن يجادل فيه، فإننا نجد أن المعتزلة متحيزة بنفسها، وأن الخوارج قد سلت السيف على الصحابة، وطوائف الشيعة أيضًا لهم شأن يطول، وكذلك المرجئة، والقدرية
إلخ، فهذا شأن يعد واقعًا تاريخيًا أقرت به سائر الطوائف، فمحاولة القول بأنه ليس بشيء أو مبالغة أو تكلف ليس من باب المنطق العلمي الصحيح.
ثم أيضًا من جهة السنة النبوية؛ فإنه وإن تكلم بعض الحفاظ في ضعف حديث أبي هريرة وأنس وأمثالهم: (افترقت اليهود) ولو فرض أنه ضعيف فإنه قد تواتر عن النبي ﷺ -وقد جاء هذا في الصحيحين من طرق كثيرة- قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله) وفي رواية: (حتى تقوم الساعة) أعني: حديث الفرقة الناجية المنصورة، فهومما ثبت في السنة ثبوتًا قطعيًا متواترًا، وقد أجمع عليه أئمة الحديث، ولم يطعن أحد منهم فيه؛ وهو دليل على أن هناك طائفة مختصة بالحق.
ثم يبقى المخالفون لهم: هل عدتهم كما ذكر في حديث الافتراق فيكون عدد الطوائف غير هذه الطائفة ثنتين وسبعين فرقة أم أنهم أقل من ذلك أو أكثر؟
نقول: إذا كان حديث افترقت اليهود ضعيفًا فإن الجزم بهذا العدد يضعف، أما أن هناك طائفة مختصة باتباع الكتاب والسنة وموافقة هدي النبي ﷺ، وأن هناك طوائف خالفتهم في أصول الديانة فهذا متحقق بهذه النصوص التي ذكر فيها النبي ﷺ الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة.
ولهذا من فقه السلف أنهم لم يشتغلوا بتعيين الفرق المخالفة الثنتين والسبعين، وإنما اشتغل بتعيينها بعض المتأخرين من الفقهاء، وبعض المتكلمين الذين جعلوا طائفتهم هي الفرقة الناجية المنصورة المصيبة للحق، وجعلوا غيرهم من أهل الاختلاف والضلال.
إذًا: لا يجوز التساهل في الاختلاف في أصول الديانة، وهذا لا يعني الاستطالة على أحد من الخلق، فإن الرسل بعثوا بالرحمة والعلم، ولهذا وصف الله نبيه بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧] فهذا باب لابد فيه من الاعتدال والضبط.
1 / 15
أهم المقاصد التي اشتملت عليها رسالة العقيدة الحموية
قبل البدء بتوضيح عبارات المصنف والتعليق عليها نبين أهم المقاصد التي اشتملت عليها الرسالة، فنقول:
1 / 16
الرد على متأخري الأشاعرة
قصد المؤلف -في الغالب- الرد على المتأخرين من الأشاعرة، وإن كانت الرسالة تضمنت مقاصد أخرى، لكن المقصود الأخص هو: أن المصنف قصد الرد على ما قرره المتأخرون من الأشعرية، وبخاصة ما جاء في كتب محمد بن عمر الرازي -وهو أوسع الأشعرية المتأخرين تصنيفًا- وأمثاله.
وإنما كان الأمر كذلك لأن المصنف لما قرر في رسائل وفي مجالس له كثيرة معتقد السلف كان يقع في كثير من المناظرات، فكان مما عورض به في بعض المناظرات: أن ما قرره هو معتقد الحنبلية، وليس معتقدًا لسائر الأئمة الأربعة، فضلًا عن كونه معتقدًا لجميع أئمة السنة والحديث؛ وأن هذا المعنى الذي كان يقوله بعض علماء الأشعرية إذ ذاك هو الذي وقع في كتب، حيث إن الرازي لما عرض لمسألة العلو قال: واتفق المسلمون على عدم إثبات الجهة للباري، وأنه منزه عنها إلا الحنبلية والكرامية.
إذًا: هذا هو المقصود الغالب للمصنف، لكنه كذلك -في هذه الرسالة- قصد إلى مقدمات أجملها في الآتي:
1 / 17
بيان إسناد مقالة السلف
قصد بيان إسناد مذهب السلف، وأنه إسناد متصل بالتصريح إلى النبي ﵌، وقد ذكر تحت هذه المقدمة أوجهًا من النظر اللازم -أي: من النظر اللازم للاعتبار سواء كان نظرًا عقليًا أو نظرًا شرعيًا- ثم لما بين بالضرورة العقلية والشرعية بأوجه ذكرها أن مذهب السلف مذهب يتصل سنده إلى النبي ﵌، رتب بعد ذلك بيان إسناد مقالة المخالفين في باب الصفات، وذكر أنها مقالة متلقاة من المتفلسفة، سواء من المتفلسفة اليونان أو غيرهم، على ما يأتي تقريره إن شاء الله.
ثم بين أن قدماء المنحرفين في باب الأسماء والصفات -وهم أئمة الجهمية والمعتزلة- كان أخذهم عن المتفلسفة ظاهرًا، وقد نص عليه بعض الكبار من متأخري المتكلمين، فقد قرر أبو الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال في بعض كتبه: أن دليل المعتزلة الذي اعتبروه في نفي صفات الله متلقى عن الفلاسفة.
وكذلك ذكر جماعة من الأشاعرة أن مذهب المعتزلة ينتهي إلى المذهب الفلسفي الذي كان عليه أرسطو وأمثاله.
1 / 18
بيان اتصال مقالات التأويل المتأخرة بمقالات التأويل المتقدمة
لما انتهى المصنف ﵀ من بيان المقدمة الثانية قصد الوصول إلى مقدمة هي محتدم النزاع مع الأشاعرة، فإن المقدمة الأولى وهي: أن إسناد السلف ينتهي إلى المعصوم ﵊ -في الجملة- هي مقدمة مسلمة عند الأشعرية، وكذلك المقدمة الثانية؛ فإن الأشعرية يختلفون كثيرًا مع المعتزلة فضلًا عن الجهمية؛ ولهذا نجد أن جمهور الرد المفصل في كتب الأشاعرة يقع على طائفة المعتزلة.
لذلك قصد المصنف في المقدمة الثالثة بيان اتصال مذهب المتأخرين من المتكلمين سواء كانوا من الكلابية أو الأشعرية أو الماتريدية أو بعض متأخري المعتزلة المعتبرين في الحنفية كفقهاء، ومن تأثر بهذه المذاهب الكلامية المتأخرة من فقهاء المذاهب الأربعة بلا استثناء حتى الحنابلة؛ فإن طائفةً منهم تأثروا ببعض مقالات الكلابية والأشعرية -بيان الاتصال بين مقالات التأويل المتقدمة التي أجمع السلف، بل وحتى الأشاعرة، على ذم أصحابها، وهي: مقالات المعتزلة الأولى ومقالات الجهمية الأولى، وبين ما استعمله الأشعرية من التأويل؛ وأنه متلقى عن هؤلاء الذين اشتغل الأشعرية موافقةً للسلف في ذمهم، فقال مبينًا ذلك ﵀: وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس -مثل أكثر التأويلات التي يذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات ... - هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي.
فهذا المحل من كلام المصنف هو وصل للمذهب المتأخر عند المتكلمين سواء كان أشعريًا أو كلابيًا أو ماتريديًا، أو كان ينتسب إلى أحد المدارس الفقهية الأربعة، وحينما نقول: أو كان ينتسب إلى أحد المدارس الفقهية الأربعة فإننا نبين هنا حقائق علمية، وأما هؤلاء الذين غلطوا في هذا الباب من الفقهاء فهؤلاء اجتهدوا، وهذا هو محصل الاجتهاد، ويبقى أن هذا الاجتهاد ما قدره من جهة المخالفة؟ هذه مسألة فيها تفصيل، وإن كنا نعتبر أن هذا الاجتهاد ليست درجته بالقطع كالاجتهاد في المسائل الفقهية، لكن يبقى المقصود المجمل: أن حكم المقالة ليس بالضرورة أنه يطرد إلى قائلها.
فيقال: إن المتأخرين من المتكلمين بل وبعض الفقهاء نسبوا إلى بعض أئمة السلف أقوالًا ليست على مذهبهم، كـ أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي -مثلًا-، فإنه حنبلي لم يشتغل بعلم الكلام، وليس له صنعة كلامية فضلًا عن كونه ينتسب إلى مذهب كلامي كالأشعرية أو الاعتزال أو الماتريدية أو غيرها، ولكن ابن الجوزي الحنبلي قصد في كتبه -سواء في التفسير أو فيما صنفه في الاعتقاد- مذهبًا يقارب مذهب كثير من المعتزلة، ومال إلى تعطيل كثير من الصفات، وإن كان في قوله بعض التردد والاضطراب كغيره من الفقهاء الذين كانوا يظنون أن هذا المذهب هو مذهب الأئمة؛ ولهذا لما رد ابن الجوزي على بعض الحنابلة لم يقصد كبار الحنابلة، فضلًا عن الإمام أحمد، بل قصد طائفةً من الحنابلة الذين قد يقع لهم بعض الزيادة في الإثبات.
وهذا معنىً يلاحظ بالمقابل: وهو أن المتأخرين لما خلط كثير منهم مذهب السلف بمذاهب متلقاة عن بعض قدماء المتكلمين -الذين عرف انحرافهم عن مذهب السلف- قابلهم طائفة أخرى من الفقهاء، وهذا إذا اعتبرنا المقارنة بالمذاهب الأربعة تجده أكثر ما يكون في فقهاء الحنابلة، بمعنى أكثر من غيرهم من المذاهب الثلاثة؛ فصار طائفة من الحنابلة كـ أبي عبد الله بن حامد وغيره يزيدون في الإثبات أكثر مما أثر عن أئمة السلف، ويقصدون بهذا مقابلة من غلط من أصحابهم الحنابلة الذين مالوا إلى مذهب التعطيل، وشاركوا بعض نفاة الصفات في بعض المسائل.
وبهذا يتبين أن الفقهاء ﵏ لم يكونوا على درجة واحدة في هذا الباب، فمنهم من قد زاد في الإثبات، وهذا يسير في الجملة، ويقع كثيرًا في الحنابلة، ومنهم من قارب مذهب الكلابية أو الأشعرية، ومنهم من حقق مذهب الأئمة المعتبر الذي هو مذهب السلف، وهذا ليس مختصًا بطائفة، بل يقع في سائر الطوائف الأربع؛ فإن طوائف من فقهاء الحنبلية والشافعية والمالكية والحنفية محققون لمذهب السلف في باب الأسماء والصفات وغيره مما تحصل تحقيقه وتقريره.
1 / 19
بيان أصناف المخالفين للسلف
بعد ذلك قصد المصنف مقصدًا رابعًا فبين أصناف المخالفين للسلف، وذلك عند قوله: وأما المنحرفون عن طريقهم فهم ثلاث طوائف: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل.
يقصد بأهل التخييل: المتفلسفة، وأهل التأويل: المتكلمة، وأهل التجهيل: المفوضة ..
فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف المخالفين للسلف.
1 / 20