امتحان الله للمؤمنين بأوامره لهم
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ [الحجرات:٣] .
الامتحان في اللغة: التخليص، ومنه: عرض الذهب على النار؛ لأن الذهب من حيث هو: ذهب معدن نفيس لا تحرقه النار، ولا تنقص من معدنه شيئًا، وإذا ما وضع على النار وأذيب ليست له فقاقيع كالزيت أو كالرصاص أو غيره، إنما يتموج متماسكًا كالزئبق.
والذهب من حيث هو: معدن نفيس لا يصلح للصياغة خالصًا، ولابد أن يضاف إليه معدن فيه صلابة، وهو النحاس، فيضاف مثلًا إلى الثمن ثلاثة قراريط من الأربعة والعشرين؛ حتى يمكن أن يصاغ فيصير صلبًا صالحًا للاستعمال.
ونحن نسمع: عيار (٢١)، وعيار (١٨)، وعيار (٢٠)، فكيف يتوصلون لذلك؟ في دُور الدمغ أو الضرب والصك يأخذون من السبيكة التي وزنها -مثلًا- كيلو جرام، عشرة جرامات أو جرامين فيعرضونها لنار مرتفعة إلى درجة مائتين فهر نهايت، فتذيب الذهب وتحرق ما معه من معدن آخر ويتبخر ويتلاشى، ويبقى المعدن الصافي من الذهب، فيعيدون وزن الباقي، ويقارنون بينه وبين وزنه قبل الاحتراق -كم نقص وتبخر؟ - فيعرفون الجزء المضاف إلى الذهب، ويعرفون كم عيار هذا الموجود، فيكتبون عيار كذا، بنسبة ما فيه من معدن أجنبي عنه، ويقولون لك: عيار كذا، أو كذا.
بقدر ما فيه من ذهب خالص.
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ﴾ بمعنى خلّص، كما أن امتحان الذهب بالنار يخلصه من شوائب أي معدن آخر.
إذًا: قلوبهم أصبحت أوعية للتقوى، وليس في قلوبهم شيءٌ آخر قط غيرها، فطهرت ونقت، وتعطرت واستقبلت التقوى في تربة خصبة خالصة لا تشوبها شوائب أخرى.
بمثل هذا تكون التقوى في قلوبهم ذات فعالية قوية، بخلاف ما إذا كانوا خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فهذا أمر متموج، وبخلاف ما إذا كان خالصًا صافيًا إلى آخر أمره، فهؤلاء بمقتضى صفاء قلوبهم، وما خلصت فيه من التقوى، يكون العكس في ذلك هو غض الصوت عند رسول الله؛ لأن رفع الصوت عند إنسان ليس دلالة على احترامه وتوقيره، وغض الصوت عند إنسان دلالة على توقيره واحترامه، ولو لم يكن له سلطان عليه، ولكن إكرامًا وإجلالًا له، كما قيل: أهابكِ إجلالًا وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها فيهاب ويوقر لا لمخافة ولا لذلة، ولكن توقيرًا ومحبة لمن يهابه ويوقره بغض الصوت عنده، وهذا هو غاية إكرامهم وتأدبهم ومحبتهم لرسول الله ﷺ.
2 / 4