إذا حظي امرؤ بهذا السلام الذي لا يدعيه قيصر نفسه (وكيف يمكن أن يدعيه؟) بل يبسطه الله من خلال العقل؛ ألا يكون راضيا حين يكون بمفرده؟ وهو ينظر ويتأمل: «الآن لا يمكن أن يصيبني أذى، لا لص، ولا زلزال ... كل شيء مفعم بالسلام، مفعم بالسكينة، كل طريق، كل مدينة ، كل لقاء، جار ، رفيق، كل شيء مأمون الجانب. لدي من يضطلع، بحكم عمله، بأن يزودني بالغذاء، ومن يزودني بالكساء، وآخر بالنظرات والأفكار. وإذا لم يزودني بما هو ضروري فإنه يأذن لي بالانسحاب.
9
يفتح الباب ويقول: اذهب. إلى أين؟ إلى حيث لا ذعر على الإطلاق، بل إلى المكان الذي منه أتيت، إلى أحبائك وأقربائك، إلى العناصر ... إلى حيث لا رعب ولا وحشة، بل آلهة وكائنات نورانية.»
بهذه الأفكار في رأسك، والشمس والقمر والنجوم والأرض والبحر في ناظريك، لن تكون وحدك ولن تكون بغير عون. - «حسن، ولكن ماذا لو اقتحم أحد وحدتي وقتلني؟» - أيها الأحمق، لا تقل قتلني بل قل قتل جسدي البائس.
أية وحدة تبقى إذن؟ وأي عوز؟ لماذا نجعل أنفسنا أدنى من الأطفال؟ وماذا يفعل الأطفال إذا تركوا وحدهم؟ يتناولون الأصداف والتراب، ويبنون شيئا ثم يقوضونه ويبنون غيره؛ ومن ثم لا يعدمون طريقة لتزجية الوقت. تراني إذن، إذا ما سافرت بعيدا، أجلس وأبكي لأنني تركت وحدي بلا أنيس؟ تراني إذن سأفتقر إلى الأصداف والتراب؟ وإذا كان الأطفال يفعلون ذلك من جراء الحماقة فهل نشقى نحن من جراء الحكمة؟
الموهبة الكبيرة خطر على المبتدئ، ادرس أولا كيف تعيش مثل إنسان في حالة مرض، عساك تعرف مع الوقت كيف تعيش مثل إنسان في حالة صحة. امتنع عن الطعام. اقتصر على الماء. اكبح رغبتك تماما لبعض الوقت، عساك في النهاية تستخدمها وفقا للعقل. فإذا تيسر لك ذلك وصرت أرسخ في الفضيلة فلسوف ترغب على النحو الصحيح. - «لا، إنما نود أن نعيش من فورنا كرجال حكماء بالفعل، ونكون نافعين للبشرية.» - ماذا تفعل؟ وهل فرغت من نفع نفسك فاتجهت إلى وعظ الناس؟ أنت تعظ! أترغب في أن تكون ذا نفع لهم؟ أرهم إذن في نموذجك الخاص أي صنف من البشر تصنع الفلسفة، وكف عن العبث. حين تأكل فكن ذا نفع لأولئك الذين يأكلون معك. وحين تشرب فلمن يشرب معك. كن ذا نفع لهم بأن تذعن لهم جميعا وتلين لهم وتحتملهم، لا بأن تنفس عليهم غضبك وسوء مزاجك» (المحادثات ، 3-13). (16) كيف يكون التدريب «ينبغي ألا نشط بتدريبنا إلى ما هو خارج عن الطبيعة والعقل ومهيأ لانتزاع الإعجاب؛ لأننا إن فعلنا ذلك فلن نختلف - نحن من ندعو أنفسنا فلاسفة - عن الدجالين والمشعوذين. فلا شك أن المشي على الحبل أمر صعب بل خطر. فهل علينا من أجل ذلك أن نجعل تدريبنا المشي على الحبال أو احتضان التماثيل؟ كلا. كل ما هو صعب وخطر فهو لا يصلح للتدريب. أما الأشياء الملائمة للتدريب فهي تلك التي تساعدنا على اجتراح ما نحن منتدبون لاجتراحه؛ أن نجعل رغبتنا ونفورنا ملك يدنا وغير معرضين للإعاقة والإحباط. ماذا يعني ذلك؟ ألا تحبط عما ترغب فيه ولا يحيق بك أي شيء تجتنبه. إلى هذه الغاية ينبغي أن يتجه التدريب، لا بد من التدريب الشديد والمستمر لكي نحفظ رغبتنا ونفورنا مثلما نود لهما، فلا نأسى على رغبة لا تتحقق ولا نجر على أنفسنا ما نود تجنبه، ولا يتم لنا ذلك إلا بأن نقصرهما على الأشياء التي في قدرتنا. أما الأشياء التي ليس لنا سلطان عليها فينبغي ألا تشغلنا ... ألا نرغب فيها ولا ننفر منها. وحيث إن للعادة سطوة وقيادة، وحيث إننا اعتدنا على استخدام رغبتنا ونفورنا في أشياء خارجة عن إرادتنا، فإنه يتعين علينا أن نعادل كل عادة سيئة بعادة مضادة.
إذا كنت ميالا للذة فإن علي أن آخذ نفسي بالامتناع، والمبالغة في هذا الاتجاه المضاد على سبيل التدريب. وإذا كنت هيابا من الألم، فإن علي أن أصطرع معه حتى لا أعود أجفل من الأشياء المؤلمة. وإذا كنت سريع الانفعال علي أن أدرب نفسي على أن أتحمل إذا أوذيت وألا أغضب إذا أهنت» (المحادثات، 3-12).
غير أن إبكتيتوس ينصح المبتدئ في التدريب الفلسفي أن يوغل في التدريب برفق وألا يتصدى في البداية لما لا طاقة له به، فقد يكون إغراء المواقف الحياتية أشد من قدرة العقل على الحكم الصحيح، و«ليس من الإنصاف أن تتبارى الجرة النحاسية والجرة الخزفية كما تقول الحكاية.» فالمباراة مثلا بين المرأة الفاتنة والشاب المبتدئ في الفلسفة ليست مباراة متكافئة (المحادثات، 3-12).
بعد الرغبة والنفور يأتي الموضوع الثاني: الإقدام والإحجام، أن تقدم على الفعل أو تتخلى عنه وفقا لأوامر العقل، بحيث لا تفعل شيئا غير لائق من حيث زمانه ومكانه أو أي وجه آخر.
أما الموضوع الثالث فيتعلق بالأحكام، أي بما هو معقول ومقنع، فقد قال سقراط: «إن حياة لا تخضع للنقد هي حياة غير جديرة بأن نحياها.» لذا فإن علينا ألا نقبل أي انطباع دون تمحيص، وإنما ينبغي علينا أن نقول له: «قف، دعني أرى ما أنت ومن أين أتيت.» شأننا شأن خفير الليل: «أرني أمارتك.» «هل لديك ذلك التصديق من الطبيعة الضروري لقبول كل انطباع (مظهر)؟»
Unknown page