4
ومتى أخذت حمامك بارتياح أكثر؟ ومتى مارست تدريبك الرياضي على رسلك؟ وباختصار: أية حياة تفضلها، حياتك الآن أم حياتك السالفة؟ بوسعي أن أقسم أنه ليس ثمة إنسان بلغ من الغباء والبلادة بحيث لا يأسى لحاله بقدر صداقته لقيصر وقربه منه» (المحادثات، 4-1). «إذا رأيت إنسانا يخضع لآخر أو يتملقه بما يخالف قناعاته فثق تماما أن هذا الإنسان أيضا غير حر، سيان أن يكون التملق من أجل عشاء أو من أجل حكومة أو قنصلية، ولتسمهم «العبيد الصغار»، أولئك الذين يفعلون ذلك من أجل أشياء صغيرة، ولتسم الآخرين كما يستحقون «العبيد الكبار».
كل من جعل سعادته وهنائه في يد غيره أو في يد الظروف والأشياء الخارجية فهو عبد، ولو كان يرتدي الأرجوان الملكي. وإذا ما وجدته مبتهجا، لا لشيء إلا لأن ظروفه الحالية مواتية رخاء فلا تدعه حرا بعد، إنما هو عبد في إجازة، لأن سيده على سفر وسرعان ما يعود فيذيقه مر العبودية تارة أخرى. من هو هذا السيد الذي سيعود؟ هو من يملك أن يمنح أو يمنع. إننا مستعبدون لأشياء كثيرة؛ للجسد، للمال، للصحة، والممتلكات، والمنصب، والأبناء والأهل والأصدقاء، وكلها أشياء ليست في يدنا» (المحادثات، 4-1). «الحرية هي في أن ننصرف عما ليس في قدرتنا إلى ما هو في قدرتنا. فإذا التمس الإنسان الحرية الصحيحة فليبحث عنها، لا في الأشياء الخارجية ولا في جسمه ولا في ماله ولا في جاهه؛ لأن في ذلك كله رقا أخلاقيا وبلاء عظيما، بل إنه واجدها في نفسه وفي شيء مستقل كل الاستقلال؛ وهو قدرته على الحكم والإرادة. ولا شيء يستطيع أن ينال حرية النفس بسوء.
5 «هل ينبغي علي إذن ألا أرغب في الصحة؟»
كل ما ليس في قدرتك اكتسابه والاحتفاظ به فهو ليس ملكك. وما ليس ملكك فلتنصرف عنه. لا تصرف عنه يدك فقط، بل رغبتك نفسها، وإلا فأنت تسلم رقبتك للأغلال.
6
جسدك نفسه ليس ملكك كما تظن، إنه تراب وعرضة للإعاقة والقهر. وليس بوسعك أن تملكه إلا بوصفه حمارا يحمل أثقالا، وعرضة لأن يؤخذ منك في أي لحظة. وإذا كان هذا حال الجسد فما بالك بمتعلقاته التي نتزود بها من أجله: الكساء والغذاء والمأوى ...؟ فلتكن فيها أزهد من زهدك فيه ... إنها متعلقات الحمار» (المحادثات، 4-1). «الحر إنسان غير مكبل، والأشياء تمضي مثلما يريدها أن تمضي. أما الإنسان المكبل أو المقهور أو المحبط أو الملقى في ظروف مضادة لإرادته فهو عبد. ولكن من هو غير المكبل؟ إنه ذلك الذي لا يرغب في أي شيء لا يخصه. وما هي الأشياء التي لا تخصنا؟ إنها تلك الأشياء التي ليس بيدنا أن نحوزها أو لا نحوزها، أو أن نحوزها على نحو معين أو بطريقة معينة. لذا فالجسد لا يخصنا، وكذلك أجزاء الجسد، والممتلكات. فإذا ما ارتبطت بهذه الأشياء على أنها ملكك، فسوف تتحمل العقوبة التي يستحقها من يرغب فيما ليس له. هذا هو الطريق المؤدي إلى الحرية، هذه هي الطريقة الوحيدة للانعتاق من العبودية، حتى يسعك في النهاية أن تقول من أعماق روحك: «قدني يا زيوس، وأنت أيها القدر، إلى حيثما رسمتما لي الطريق»» (المحادثات، 4-1).
يقدم إبكتيتوس في المحادثات مثالين للإنسان الحر، هما ديوجين وسقراط، فلنأخذ سقراط نموذجا: «كان لديه زوجة وأطفال ، ولكنه لم يكن يعدهم ملكه. كان لديه وطن وأصدقاء وأقارب، ولكنه أخضع كل ذلك للقانون ولواجب الطاعة للقانون. ولذا فعندما دعا داعي الجهاد كان أول الملبين. وفي القتال كان يعرض نفسه للخطر دون تحفظ. وحين أرسله الطغاة ليعتقل ليون لم يفكر في ذلك مجرد تفكير؛ لأنه رأى ذلك عملا دنيئا. كان يعرف أنه مهدد بالموت إذا أصر على وجهته، ولكنه لم يبال بالموت؛ لأن حرصه لم يكن منصبا على جسده البائس بل على شيء آخر؛ على إخلاصه، على شرفه. هذه أشياء لا يمكن أن تنتهك أو تخضع. فلما كان عليه أن يتحدث مدافعا عن حياته، فهل كان يتكلم كرجل لديه أبناء وزوجة؟ كلا، وماذا فعل عندما كان عليه أن يشرب السم وكان بإمكانه الهروب وقال له أقريطون: «اهرب من أجل أبنائك»؟ هل اعتبر ذلك فرصة سانحة؟ كلا، بل قرر أن يفعل ما يليق به ولم يحسب حسابا لأي شيء آخر. مثل هذا الرجل لا تنقذ حياته بأفعال دنيئة. إنما ينقذه الموت لا الهرب؛ فمثله كمثل الممثل الجيد الذي يحفظ شخصيته بالتوقف عندما ينبغي أن يتوقف وليس بالمضي في التمثيل فيما وراء التوقيت الصحيح ... والآن، وسقراط ميت، فليس أقل نفعا للناس بل أكثر نفعا تذكر ما فعله وما قاله عندما كان حيا» (المحادثات، 4-1).
إنما تبلغ الحرية لا بامتلاك كل الأشياء التي ترغب فيها، بل بإزالة الرغبة ذاتها. الحرية هي الغنى عن، وليس الغنى ب. (12) القربى بين الله والإنسان
ويحلو لإبكتيتوس أن يتحدث عن الأواصر الوثقى التي تربط بين الله والناس. وهو يفضل تلك القرابة على الفكرة المجردة الذاهبة إلى اشتراك الناس في العقل، ثم يجعلها مبدأ لفكرة عظمة النفس، ولفكرة الإخاء بين بني البشر.
Unknown page