الحياة كلعبة
إذا كانت الأشياء نفسها غير فارقة، فإن استخدامنا للأشياء فارق!
ليس ثمة تعارض بين الحزم والطمأنينة، أو بين الحرص والشهامة.
ولكي يوضح ذلك يشبه إبكتيتوس الحياة بلعبة النرد: إن الأرقام ليست في قدرتنا، أما استخدام الأرقام فهو في قدرتنا. وعلينا من ثم أن نؤدي اللعب بمهارة وتدقيق. ولا تناقض إذن بين الحرص (في الأداء، أي فيما هو في قدرتنا) وبين خلو البال (تجاه الأرقام، أي فيما ليس في قدرتنا).
ويشبه إبكتيتوس الحياة أيضا بلعبة الكرة: لا يتساءل أحد لحظة هل الكرة شيء جيد أو شيء رديء! بل ينظر فقط هل يمكنه أن يرميها أو يلقفها بالمهارة المناسبة. ما يهم في لعبة الكرة هو ملكة المهارة والحذق والسرعة والحكم التي يبديها اللاعبون. وإنما بكفاءة استخدام هذه الملكات نعتبر اللاعب قد أجاد اللعب. وفي حين نبدي كل الحرص في إجادة اللعب فإننا غير مكترثين البتة بمادة الكرة. كذلك الأمر في الحياة: إذ نعمل مهاراتنا في مادة خارجية ما. ليس علينا أن نقيم المادة نفسها، جيدة أم رديئة، بل أن نبدي مهارة في استخدامها ونجيد التعامل معها.
الحياة كمسرحية
قلنا: إن إبكتيتوس يهيب بنا أن «نتذكر من نحن» وأي «اسم» نحمله؛ وذلك لأن الدور الذي نلعبه في الحياة سيحدد الأفعال اللائقة بنا؛ فالحياة أشبه بمسرحية علينا أن نتقن دورنا فيها، وليس علينا أن نختاره ، ولا هو من اللائق أن نتمرد على الدور الذي قيضه لنا المؤلف؛ إذ ليست العبرة بالدور بل بالأداء. يقول إبكتيتوس في «المختصر»: «تذكر أنك ممثل في مسرحية تمضي مثلما يشاء لها المؤلف، قصيرة إذا شاء لها القصر، وطويلة إذا شاء لها أن تطول. إذا راقه أن تلعب فيها دور شحاذ فإن عليك أن تؤديه أداء طبيعيا. وقد يريدك أن تؤدي دور أعرج أو مسئول حكومي أو صاحب عمل خاص. وأيا ما كان دورك فهذه مهمتك: أن تجيد أداء الشخصية المقيضة لك. أما اختيار الشخصية فليس هذا من شأنك» (المختصر، 17).
الحياة كمباراة رياضية
يعقد إبكتيتوس مماثلة بين تدريب المرء في الأخلاق الرواقية كإعداد له كي يعيش الحياة الفلسفية وبين تدريب شخص ما تدريبا رياضيا لإعداده لدخول حلبة المنافسة. يخاطب إبكتيتوس شخصا أصابه الكرب؛ لأنه لا يجد فراغا كافيا لدراسة كتب الفلسفة: «أليست القراءة ضربا من الإعداد للحياة؛ على أن الحياة مكونة من أشياء أخرى غير الكتب؟ وكأن على الرياضي إذا دخل الإستاد أن ينهار ويبكي لأنه لا يتدرب خارجه! هذا ما كنت تتدرب من أجله. هذا ما كنت تصطنع له الأثقال والرمل والخصوم الأشداء. أفأنت تلتمس هذا الآن وقد حان وقت الفعل؟! تماما كما لو أننا في مجال التصديق، وقد ووجهنا بانطباعات بعضها بين الصواب وبعضها بين الخطأ، علينا بدلا من أن نميز بينها أن نطلب قراءة ما كتب عن الإدراك» (المحادثات، 4-4).
التدريب الفلسفي كالتدريب الرياضي ليس نزهة، إنه طريق مجهد ومسلك وعر. ومن العبث إبداء شغف سطحي بأي مشروع صعب دون تقدير حصيف للمطالب التي يضعها على عاتقنا. وإلا فإن حماسنا الأول سرعان ما يفتر فنبدو كالحمقى. يصدق هذا على التدريب الفلسفي مثلما يصدق على إعداد المصارع للمنافسة في الألعاب الأوليمبية (انظر «المختصر»، 29). «التدريب هو من أجل الفعل الحياتي وليس غاية في ذاته. فإذا ما سمعت أذان الفعل الحياتي فاترك الكتب وطبق المبادئ التي في الكتب. وليكن سقراط قدوتك في هذا؛ لم يكن على حكمته وعلمه يتخلف عن الحملات العسكرية ، وكان مثالا لتلبية نداء الفعل وعدم الاقتصار على الدرس والتدريب ... لقد أتاح الله لك منذ قليل فراغا للدرس والقراءة والتدريب. أما الآن فقد آذن وقت الفعل وحانت المنازلة لكي ترينا تطبيق ما تعلمت» (المحادثات، 4-4). «إلام تنتظر حتى تنتدب نفسك لأجل المراتب ولا تحيد عن حدود العقل؟ لقد تلقيت النظريات التي ينبغي الإلمام بها وألممت بها. أي معلم آخر إذن ما زلت ترتقبه حتى تحيل إليه مهمة تقويم ذاتك؟ أنت لم تعد صبيا، لقد كبرت. فإذا بقيت مهملا كسولا، وما تنفك تسوف وتماطل وترجئ اليوم الذي ستنتبه فيه إلى نفسك، فلن تراوح وستظل جهولا في حياتك وفي مماتك. الآن إذن اعتبر نفسك جديرا بالعيش كراشد وسالك على درب الفلسفة، وخذ كل ما تراه حقا واجعله قانونا صلبا لا يقبل الانتهاك. فإذا عرض لك عارض من ألم أو لذة أو مجد أو شين فتذكر أن النزال الآن، الأوليمبياد الآن ولا يمكن أن تؤجل. وبانكسارة واحدة وتخاذل واحد يذهب الفوز أو يأتي. هكذا بلغ سقراط الكمال؛ مقوما نفسه بكل وسيلة، غير مصغ إلى شيء سوى العقل، ورغم أنك لست سقراطا بعد فإنه ينبغي عليك أن تعيش كمن يطمح أن يكون سقراطا» (المختصر، 51).
Unknown page