وتلك التي تقوم على فكرتي «اللغز» و«السر»
mystery plays - والتي تستمد جوهرها من حكايات من الكتاب المقدس - هي المنتشرة آنذاك. أما الشعر فقد كان يستمد موضوعاته كذلك من نفس التراث، ويظهر ذلك في ملحمة حكايات كانتربري
Canterbury Tales
للشاعر الإنجليزي جيفري شوسر
Geoffrey Chaucer (1343-1400م) وبعض الأشعار الأخرى الأقل أهمية لشعراء آخرين. ومن هذا الفن انبثق نوع آخر؛ وهو فن البلاط الملكي
courtly art . وقد استبدل هذا الفن موضوعات أخرى بالموضوعات الدينية، وهي تمثل حياة البلاط الملكي وعظمة الأمير أو الملك وحياة الحاشية المحيطة به. تحول الفن إلى جزء من حياة الطبقة الأرستقراطية ورواد البلاط الملكي. وعلى الرغم من أن الفن - رغم تغير موضوعاته - ظل مرتبطا بمفهوم الوظيفة، إلا أن هذه النقلة في طبيعة الموضوعات المتمثلة، انعكست على رؤية الفنان لذاته؛ إذ لم يعد الفنان «حرفيا يؤدي وظيفة»، بل أصبح «فنانا» يتصف بصفة الإبداع. وقد ظهر هذا التغير بقوة مع مايكل أنجلو
Michael Angelo (1475-1564م) الذي على الرغم من أن نحوتاته ظلت مخلصة للموضوعات الدينية المستمدة من قصص الكتاب المقدس، إلا أن وعيه الذاتي بكونه فنانا، قد تجسد عبر توقيعه على أعماله، مما يعني أن إحساس الفنان بذاته، وبقيمة ما يقدمه، قد بدأ بالفعل في التغير.
5
سرعان ما بدأت مكانة الإنسان «الفرد» في الرسوخ مع عصر النهضة، الذي يعد بحق عصر النزعة الإنسية، والعودة لكل ثقافة مركزها الإنسان؛ فلقد شيد الفن في عصر النهضة ذاته على فكرة العودة للماضي اليوناني والروماني، في محاولة لإبطال مفعول التوجهات الدينية لكل مناحي الحياة، والبحث عن مصدر أكثر ثراء لحياة الإنسان، ولكنه في عودته تلك كانت عينه على المستقبل الذي يصير فيه الإنسان مركز العالم وبؤرته. وعلى الرغم من بقاء الموضوعات الدينية في برنامج الأعمال الفنية (أعمال يوهن باخ
Bach (1685-1750م)، على سبيل المثال)، إلا أنه بدأ مع عصر النهضة النزوع للخروج إلى تصوير الطبيعة واتخاذها موضوعا للفن، وكذلك العمل على معالجة الموضوعات الحياتية الأخرى. ولم يكن هذا التحول ممكنا، إلا من خلال الافتراض المسبق بأنه من وراء الذات والموضوع تقبع مجموعة من القوانين العامة لنظام كوني راسخ، والصالحة بشكل غير مشروط، حين تستقي منها كل قاعدة فنية، وبالتالي يعتبر فهم هذه القواعد والشروط والقوانين من صلب النظرية الفنية في عصر النهضة. وقد كان النزوع نحو الدراسة المتأنية للطبيعة، بوصفها مقدمة ضرورية لتحقيق الصدق الفني؛ يعطي المشروعية لفناني هذا العصر بحيث يصير إبداعهم مؤسسا على الدراسة والعلم، إلى جانب الملكة الإبداعية والخيال الحر الخلاق، حتى لا يصير الفن مجرد صيغة أو حرفة، يمكن لأي أحد أن يمتهنها، أو مجرد نتاج لشطحات ميتافيزيقية لا يمكن الوقوف فيها على محددات تمكننا من فهم الفن على نحو إنساني محض.
Unknown page