منهج السلف في تقرير العقيدة ونشرها والرد على المخالفين
منهج أهل السنة والجماعة في أبواب الدين وكلياته وقواعده واضح بين، سواء ما كان في مصادر التلقي والاستدلال، أم ما يتعلق بتقرير العقيدة ونشرها، أم في الرد على المخالف في أصول الدين أو فروعه وجزئياته، بخلاف أهل الأهواء والافتراق الذين ليس لديهم منهج واضح يحكمهم، ولا قواعد صحيحة يستندون إليها ويرجعون، ويستمدون منها العقيدة والدين، ولا مصادر واضحة في التلقي والاستدلال.
1 / 1
أهمية الحديث عن مناهج السلف في العصر الحاضر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن من أهم الأمور التي ينبغي بيانها لعموم المسلمين ولطلاب العلم خاصة: ما يتعلق بمناهج السلف العلمية والعملية في الاعتقاد والأحكام، وربما يقول قائل: لماذا التركيز على مناهج السلف في هذا الوقت؟ فأقول: إن الموجب للحديث عن منهاج السلف في هذا العصر أمور كثيرة:
1 / 2
التشكيك في المفاهيم والعقائد والأفكار
أولها: ما دخل على قلوب كثير من المسلمين، وعلى أعمالهم ومفاهيمهم وأفكارهم ومعارفهم من أفكار وافدة، شككتهم في أصول دينهم، وفي مناهج السلف، وفي سبيل المؤمنين، ثم ما طرأ على كثير من المسلمين من الخلل في أصول تلقي الدين، وتلقي العلم الشرعي.
فقد كان المسلمون منذ عهد النبي ﷺ إلى وقت قريب يستمدون الدين عن القدوة، وما كان أحد من الناس يخالف هذه البدهية، بل كانت الأمة ترجع إلى الراسخين في العلم وإلى أهل الذكر كما أمر الله ﷿، لكن في الآونة الأخيرة، ولكثرة مصادر التلقي غير النقية، ولهيمنة البدع على قلوب بعض الناس وأعمالهم، ولكثرة الأهواء والافتراق، ولشيوع المذاهب الهدامة بين كثير من المسلمين؛ اختل هذا الأصل، فصار الناس لا يدرون ولا يفهمون، وربما يجهلون عمن يأخذون الدين.
كما أن كثيرًا من أبناء المسلمين صار عندهم استقلالية في التلقي، وبعضهم أخذه التعالم والتعالي، فبمجرد ما يحصِّل الواحد منهم القليل من العلم؛ يظن أنه بذلك استغنى عن العلماء، فيستقل؛ فلا يأخذ عن القدوة وهو موجود بحمد الله في المسلمين إلى قيام الساعة؛ لأن الله تكفل بذلك.
1 / 3
الهجوم الإعلامي على عقائد الناس وقلب الحقائق
ثانيها: الهجوم الإعلامي الشرس على المسلمين وإلزامهم بمعلومات غير نقلية، وإدخالها إلى أذهان المسلمين بما يتاح من وسيلة معلنة أو خفية؛ مما جعل الناس تختل عندهم المناهج، وما كان المسلم قبل مدة يسيرة يظن أنه يتلقى الدين عن غير أهله، فكان حتى المبتدع والفاجر والفاسق والمعرض يعترف بأن الدين إنما يؤخذ عن القدوة، حتى ولو لم يأخذه، ولو خالف هواه.
أما الآن فوجد من المتدينين من يزعم أنه يستغني عن القدوة، فقد وجد من دعاة الضلالة الذين يرفعون راية الإسلام بل والسنة بزعمهم من يحجب أبناء المسلمين عن القدوة -العالم الراسخ- بدعاوى كثيرة، وربما التبس هذا الأمر أيضًا على بعض خيار الدعاة، وعلى طلاب العلم أو من ينتسب للعلم، وربما ذهلوا عن هذه الحقيقة؛ فصرفوا من حيث قصدوا أو لم يقصدوا- الناس عن العلماء بدعاوى وشبهات.
إذًا: نحن نحتاج إلى تذكير عموم المسلمين -وطلاب العلم خاصة- بمناهج الدين المتمثلة في مناهج السلف، ونذكرهم فيها جملة وتفصيلًا.
1 / 4
أصول ومرتكزات تتعلق بمنهج السلف في الاستدلال
أما الحديث عن منهج السلف في تقرير العقيدة ونشرها والرد على المخالف، فهو موضوع يحتاج الناس إليه، وقبل أن أبدأ بهذا المنهج أشير إلى بعض الأصول والمرتكزات والمسلمات التي ينبغي أن تفهم قبل معرفة بعض الفوائد في منهج السلف في تقرير العقيدة والدفاع عنها.
والحديث سيتركز على القواعد والمناهج دون الدخول في التفصيلات والأمثلة والأدلة؛ لأن ذلك يستدعي وقتًا طويلًا، لكني أوجز بالاقتصار على أهم الأصول والمرتكزات التي تتعلق بمنهج السلف عمومًا.
1 / 5
إتمام الدين وشموليته في العقائد والأحكام
أولًا: لا بد لكل مسلم أن يؤمن -ضرورة- بأن الله ﷿ أكمل هذا الدين، فالدين بجملته وتفصيلاته ليس بحاجة إلى أن يستمد من مصادر أخرى، أو اجتهادات البشر في أصوله وقواعده وأدلته، بل يحتاج إلى جهود البشر في جانب الاجتهاديات في الأحكام والاستنباط، أما ما يتعلق بالأصول والمناهج ما يتعلق بالعقيدة والقواعد فهي أمور مقررة توقيفية، قد أكمل الله بها الدين، والله ﷿ يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣].
فمنذ ذلك اليوم الذي أعلن الله فيه هذا الأصل تقرر قطعًا أن الناس ليسوا بحاجة إلى أن يستمدوا الدين من غير الكتاب والسنة.
ثم يستلزم ذلك أن كمال الدين هو صلاحيته لكل زمان ومكان، ولكل بيئة ومجتمع، ولكل وضع من أوضاع البشر إلى أن تقوم الساعة، الوضع البدائي والوضع الحضاري؛ كله لا بد أن يكون الدين قد اشتمل على المنهج الأكمل في إصلاحه واستصلاحه؛ لئلا يدعي مدع أننا بحاجة إلى نمط آخر، أو إلى أصول أو اجتهادات أخرى في قواعد الدين تختلف عن مناهج الأولين؛ بدعوى أن أوضاع البشرية تغيرت، وأن الناس قد تحضروا، وأن المدنية هيمنت الخ.
والله ﷿ جعل هذا الدين هو الدين الخاتم، وجعل رسالة النبي ﷺ هي الرسالة الأخيرة؛ وهذا -بالضرورة- يقتضي أن تكون صالحة لكل زمان ومكان، كما أن هذا الدين الذي أكمله الله لا بد أن يشتمل على العقائد والأحكام على الأدلة بتفصيلاتها، وعلى القواعد التي ترجع إليها ملايين الجزئيات إلى ما لا نهاية.
كما اشتمل على الأصول العلمية والعملية، المنهجية والجزئية، كما اشتمل على العلم والعمل، وعلى مناهج ذلك كله الذي تؤدي إليه، كما اشتمل أيضًا على الوسائل التي تخدم الدين أو التي يكون بها الاستمداد من الدين لأحوال البشر ونوازل الحياة.
1 / 6
الدين بين النظرية والتطبيق
ثانيًا: أن هذا الدين لا بد أن يمثله سلوك بشر، فالدين ليس بمثاليات ولا نظريات، إنما جاء لحل مشكلات البشر، ولتسيير أمورهم وأوضاعهم على ما يرضي الله ﷿ إذا سلكوا هذا الدين.
فالدين يمثله سبيل المؤمنين الذي توعد الله من خالفه، وجعل ذلك مشاقة للرسول ﷺ، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:١١٥]، فجعل الله ﷿ الخروج عن مقتضى هذا الدين مشاقة للرسول ﷺ، وخروج عن سبيل المؤمنين، وجعل اتباع غير سبيل المؤمنين من الأمور الموجبة لغضب الله ومقته وعذابه، وسبيل المؤمنين هو السنة؛ لأن النبي ﷺ وصف هؤلاء المؤمنين بالجماعة، والطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وبالظاهرين، ووصفهم بأوصاف كثيرة، ثم إنه وصف حالهم بوصف دقيق يكون هو الميزان عندما يختلف الناس، أو عندما يتنازعون في المقصود بأصحاب هذا الوصف؛ لأن النبي ﷺ بيَّن أن سبيل المؤمنين هو سبيل الجماعة، ثم لما سئل عن الجماعة قال: (هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي).
وهذا وصف بيِّن جلي؛ لأن ما كان عليه النبي ﷺ وصحابته الكرام بيِّن جلي مسطور محفوظ، حفظه الله ﷿ في كتابه، وفي سنة نبيه ﷺ، المنقولة عملًا، والمكتوبة والمسطورة، والتي تكفل الله بحفظها إلى قيام الساعة؛ لئلا يحتج محتج فيقول: لا أدري أو لا أعرف ما كان عليه النبي ﷺ والصحابة.
فالحجة بذلك قائمة، والسنة بين أيدينا ولذلك وصفها النبي ﷺ بأن ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فالجادة هي المنارة في وسط الظلماء، إذا كان الإنسان يسير في ليل وليس أمامه إلا هذا الطريق المنار؛ فإنه إذا خالف يمينًا أو شمالًا وقع في الظلمة؛ وبذلك قصد الخروج عن مقتضى الواضحة، كذلك السنة واضحة كالطريق المنارة، لا يزيغ عنها إلا من تعمد الزيغ، نسأل الله العافية.
1 / 7
حفظ الدين واختلاف المناهج
ثالثًا: أن الله تكفل بحفظ دينه، وقد يقول قائل: إن المناهج قد اختلفت علينا وكثرت السبل، وكثرت دعاوى السنة، ولم يعد الدين واضحًا، فنقول: ليس الأمر كذلك؛ فإن الله ﷿ كما أكمل الدين فقد تكفل بحفظ دينه وبقائه، فقال ﷿: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:٩]، مؤكدات قاطعة أن هذا الدين سيحفظ.
ثم الخبر الصادق عن النبي ﷺ المتواتر بأن طائفة من هذه الأمة ستبقى ظاهرة: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، والظهور يشمل ظهور العيان ظهور الحجة ظهور القدوة ظهور العلم ظهور العمل ظهور المناهج، وهذا أمر بدهي أن يكون الظهور من كل وجه، وإلا فمتى يكون وصف النبي ﷺ على حقيقته، مع أن النبي ﷺ أوتي جوامع الكلم، فهو لا ينطق عن الهوى.
ثم فسر أمر الجماعة بتفسيرات أخرى، قال: (لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى أن تقوم الساعة)، وسمَّاهم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وسماهم الجماعة، وسماهم الصحابة ﵃ بأسماء تدل على أنهم أهل الحديث وأهل الأثر الخ.
وهذه الصفات بمجموعها توجب -حتمًا- أن السنة بيِّنة واضحة لا يزيغ عنها إلا هالك، وأن الله ﷿ تكفل بحفظ الدين، ومن مقتضيات الحفظ: بقاء طائفة تكون هي القدوة؛ لأن الدين لا يكون مجرد مثاليات، أو نظريات.
فكما حفظ الله الدين بمصادره -وهو القرآن والسنة- كذلك حفظ وضمن لنا العمل به، وحفظ لنا وجود القدوة وضمنها إلى قيام الساعة، ويلتمس ذلك ببقاء الطائفة الذين هم على الحق ظاهرين، وهم أهل السنة والجماعة.
1 / 8
منهج التلقي والاستدلال عند أهل السنة
المنهج الذي عليه السلف في بيان تقرير العقيدة ونشرها يتمثل فيما يلي:
1 / 9
مصادر العقيدة توقيفية لا مجال للعقل فيها
أولًا: الدين -والعقيدة بخاصة- يقوم على الوحي، فالعقيدة توقيفية، أي: موقوفة على ما جاء عن الله تعالى، وصح عن رسوله ﷺ؛ لأن الدين لله، فهو سبحانه الذي شرع الدين، ولا تستطيع قوى البشر وعقولهم أن تقرر منهاجًا تعبد الله فيه على ما يرضي الله ﷿، أو منهاجًا تعبد الله على الأحكام التي تسعد الناس جميعًا في الدنيا والآخرة؛ لأن ذلك راجع إلى الله ﷿ وليس إلى البشر.
ولذلك كلما أراد البشر أن يخرجوا قيد أنملة عن مقتضى الدين في أي أمر من الأمور؛ تخبطوا وتاهوا، فهم قد يجيدون تدبير دنياهم بعقولهم؛ لأن الله ﷿ جعل ذلك لهم، لكن أمر الدين لا طاقة للعقول فيه.
ولذلك فما من أحد حكم عقله في الدين إلا ويأتي بالصبيانيات المضحكات، ويقع في زلات عظيمة، ومتاهات ومحارات يدخل فيها ولا يخرج منها إلا بتوبة.
1 / 10
الاعتماد على الأحاديث الصحيحة
ثانيًا: يعتمد السلف في تقرير العقيدة على الصحيح الثابت، فلا يعتمدون على الضعيف ولا الموضوع، ولا على الحكايات، أو الكرامات، أو الكشوف، أو الوجد، أو الذوق، أو العقليات والظنون، ولا على العلوم الطبيعية والمقاييس ونحوها؛ لأن هذه الأمور تتعلق بعالم الشهادة، والدين في أصوله وقواعده يعتمد على الغيب البحت، والغيب لا يعلمه إلا الله ﷿.
والعقول البشرية قد تدرك العمومات، لكن لا تدرك التفاصيل ولا تهتدي إلى ما يرضي الله ﷿ على جهة التفصيل، والعمومات لا توصل إلى ما يريده الله ﷿، فلذلك أرسل الله الرسل وبعث النبيين؛ لتقوم بهم الحجة.
إذًا: يقوم أساس منهج السلف على الاعتماد على الصحيح الثابت؛ ولذلك تميز منهج السلف بالعناية بالإسناد، وهذا لم يوجد في أي فرقة من الفرق التي خالفت السنة والجماعة أن تعتني بالإسناد، وإن عنيت ربه فعلى مناهج مختلة، ولا تعنى به أيضًا إلا عندما تريد أن تستدل بدليل للاعتضاد لا للتأصيل.
فالسلف منهجهم فيما يتعلق بالحديث يكون معتمدًا على الإسناد والرواية، أما القرآن فقد تكفل الله بحفظه.
1 / 11
الاستدلال بالآثار الضعيفة للاعتضاد بها لا للاعتماد عليها
ثالثًا: قد يستدل السلف بعد الاستدلال بالقرآن والثابت من السنة بالأدلة والآثار الضعيفة لا للاستدلال بها، ولكن للاعتضاد، فليس عند السلف شيء من الاعتقاد إلا ويعتمد على دليل صحيح ثابت، أو على الإجماع الذي يقوم على الدليل، وهذه القاعدة لا تتخلف، ويجب أن يعتمدها طلاب العلم؛ لحماية العقيدة من تخريب المخربين، وهي أن العقيدة كلها بل الدين كله لا يعتمد إلا على الدليل الصحيح، وليس عند السلف شيء من الدين يعتمد على غير الدليل الشرعي الصحيح.
وقد يشكل على بعض الناس: أن السلف في كتب السنة -خاصة كتب الآثار وبعض المسانيد وبعض السنن، ما عدا الصحاح- قد يوردون الأدلة والآثار الضعيفة؛ فيظن بعض الناس أن هذا للاستدلال، وليس كذلك وإنما لعضد الدليل الأصلي، فما من قضية من قضايا الدين ولا أصل من أصول له إلا وله دليل صحيح من الكتاب أو السنة، أو من الإجماع الذي يعتمد على الكتاب والسنة، أو من القواعد التي استمدت من مجموعة من الأدلة أو من دليل، فما قرره السلف من أصول الاعتقاد فهو مستند على دليل صحيح ثابت.
واستدلالهم بعد ذلك بالأدلة الضعيفة وبالروايات والآثار وبالرؤى أحيانًا والمنامات والقصص أحيانًا؛ كل ذلك من باب عضد الدليل، لا من باب الاستدلال والاستقلال؛ فيجب أن يتنبه طلاب العلم لهذه المسألة، لأن بعض دعاة الفتنة بدءوا يثيرون هذه القضية، ويقولون: إن السلف يحشدون في كتبهم وفي كتب السنن والآثار والمصنفات شيئًا كثيرًا من الروايات والأسانيد الضعيفة.
ونقول: هذا ليس للاستدلال، إنما هو للاعتضاد، ومن باب حشد الدلالات وتقوية الدليل.
1 / 12
استخدام الدليل العقلي والفطري في استنباط الأدلة
رابعًا: من منهج الاستدلال أن السلف قد يستعملون الدليل العقلي والفطري -وهذا منهج القرآن، ففي كلام الله ﷿ نجد الاستدلال العقلي قائمًا، ولكن ليس استقلالًا، فالاستدلال بالأدلة العقلية راجع إلى كمال الله ﷿، ولا يعني ذلك أن البشر يستطيعون أن يسلكوا مسلك القرآن من كل وجه؛ لأن الله ﷿ هو خالق العقول، وهو الذي وضع من الأدلة والبراهين القرآنية ما يناسبها، لكن من الأدلة القرآنية ما لا تطيقه العقول استقلالًا؛ لأنه متعلق بكمال الاستدلال، وذلك لا يكون إلا لله ﷿، لكن مع ذلك فإن السلف يستخدمون الدليل العقلي والفطري لتأييد الوحي، واستنباط الدلالة، وتوجيه الأدلة ودلالاتها.
إذًا: الدليل العقلي عاضد، والدليل الفطري عاضد يؤصل له دليل من الكتاب والسنة؛ ولذلك لا يوجد عند السلف قاعدة في الدين أو أصل من أصول الدين دليلها العقل فقط؛ لأن الله ﷿ وفى في الوحي كل ما يحتاجه الناس في هذا الأمر، وإن احتاجوا إلى الاستدلال العقلي فمن باب تبيين الدلالة الشرعية، أو الدليل الشرعي، أو توظيف العقل لتأييد الشرع، وهذا لا حرج فيه، والسلف كانوا يسلكونه، بأن يأتوا بالدليل الشرعي ثم يعضدونه بالاستدلال من العقل أو الفطرة؛ لتقوية الأمر في قلوب الناس.
1 / 13
قواعد منهج السلف في بيان وتقرير العقيدة وأصول الدين
أما من حيث منهج العرض والبيان والتقرير والنشر فإن السلف لهم في ذلك قواعد ذهبية واضحة بينة، لا لبس فيها ولا غموض:
1 / 14
الالتزام بالألفاظ الشرعية
أولها: عند عرض العقيدة وأصول الدين يلتزمون بألفاظ الشرع ومصطلحاته، فلا تجد عند السلف مصطلحات كلامية في تقرير العقيدة، ولا مصطلحات فلسفية، ولا مصطلحات صوفية، ولا مصطلحات باطنية، ولا مصطلحات أدبية، بل يلتزمون بألفاظ الشرع ومصطلحاته، وإذا اضطروا إلى مواجهة المصطلحات المحدثة؛ واجهوها بألفاظ شرعية بينة، لها دلالات من الكتاب والسنة، فقد يعبرون أحيانًا بتعبير موضح للقاعدة، لكن لا يخرجون عن اللسان العربي المبين، فقد يشرحون أصلًا من الأصول الموجودة في القرآن والسنة بكلام زائد عما في الكتاب والسنة، لكنهم يلتزمون المعنى بألفاظه الدقيقة، ولا يوقعون الناس في اللبس، وفي الإشكالات اللغوية، أو المحارات العقلية، أو السفسطات الفلسفية، بل يلتزمون ألفاظ الشرع ومصطلحاته.
ولذلك جاءت تقريراتهم بالعقيدة متفقة في ألفاظها ومعانيها، فلا تجد أحدًا من أئمة السلف قديمًا أو حديثًا يخالف الآخر في تقرير أصول الدين، وهذا -بحمد الله- من مقتضيات حفظ الله لهذا الدين.
فالسلف لم يختلفوا منذ عهد النبي ﷺ إلى يومنا هذا، ولن يختلفوا إلى قيام الساعة في أصول الدين، وإن اختلفوا في بعض الفرعيات التي تلحق بمسائل العقيدة، لكنها ليست أصولًا، بل هي من الأمور التي يسع فيها الخلاف، مثل الاختلاف في رؤية النبي ﷺ لربه ليلة المعراج: هل هي عينية أو قلبية؟ لكن اتفقوا على أصل مبدأ الرؤية، كما اختلفوا في مسائل كثيرة لكنها فرعيات، وقد تلحق بالعقيدة لكن أدلتها غير واضحة.
فهذه الأمور لا يلوم السلف بعضهم بعضًا في الخلاف فيها، أما أصول الإيمان وأركان الإسلام وأصول الاعتقاد المتعلقة بالرؤية وبالشفاعة وبكلام الله ﷿ وبالصفات هذه أصول واحدة لم يختلف عليها أحد من السلف منذ قديم الزمان وحتى الآن، ولن يختلفوا عليها إلى قيام الساعة، لأنها مسائل وأصول بينة واضحة، ولما وجد بعض الذين ندوا عن تعبيرات السلف في التعبير عن العقيدة؛ وقعوا في إشكالات، وأوقعوا الناس في إشكالات، كمن كتب عن الإسلام بأسلوب أدبي، تجد عنده تعبيرات باطنية قد لا يريدها، أو تعبيرات فلسفية، أو تعبيرات أدبية مائعة، لكنه لم يلتزم منهج السلف في التعبير عن العقيدة؛ فوقع فيما وقع فيه.
1 / 15
الوضوح والبيان في تقرير العقيدة
ثانيها: حرص السلف على الوضوح والبيان في التعبير عن العقيدة، ويبتعدون عن الألفاظ البدعية والمصطلحات الفلسفية التي أحدثها الناس، كما فعل ابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم، الذين عبروا عن بعض مسائل العقيدة بالمصطلحات الفلسفية على فهمهم الفاسد؛ فأوقعوا الناس في محارات وإشكالات، ويبتعدون أيضًا عن التعبيرات الكلامية المحيرة، كما فعل الرازي والماتريدي، ومن سلك سبيلهما، فقد عبرا أيضًا عن العقيدة بمصطلحات كلامية محيرة ليس لها وجه يعقل.
ولذلك اختلفوا عليها، حتى كان الرازي يعبر عن شيء ثم يفترض على تعبيره إشكالات، ثم يحاول أن يجيب على تلك الافتراضات والإشكالات فيعجز.
وأيضًا السلف لم يستعملوا التعبيرات الأدبية الفضفاضة المائعة، التي وقع فيها أمثال: سيد قطب ﵀، حيث عبر عن بعض مسائل الاعتقاد بتعبير أدبي أخل بالعقيدة، وأوقع من بعده في خلافات لفهم ألفاظه؛ حتى صار الناس يختلفون أحيانًا في بعض ألفاظه على أربعة أو خمسة أقوال، هل هذا الحق أم الآخر، مع أن الحق لا يختلف عليه، والسبب في ذلك ما اعتاده من أسلوبه الأدبي، وربما لا يملك غير ذلك، لكن ليته لم يتعرض لتفاصيل العقيدة.
ومن المسائل التي عمت بها البلوى في عصرنا حتى صارت مصدر فتنة لكثير من المسلمين، وخاصة المثقفين والناشئين من طلاب العلم، هي تسلط كثير من غير المتخصصين على قضايا العقيدة وأصول الدين.
فمثلًا: الطبيب الذي تعلم بعض العلم الشرعي قد يحلل العقيدة من منظوره الطبي؛ فاختلطت عنده مصطلحات الطب بمصطلحات العقيدة، وهكذا المهندس درس شيئًا من العقيدة والعلوم الشرعية، ثم استقل بنفسه عن العلماء والراسخين في العلم؛ فصار يفسر العقيدة بتفسيرات هندسية، فخلط العلوم الهندسية بالعقيدة، وهلم جرًا، حتى أننا نجد بعض التعبيرات في مسائل العقيدة من بعض الحكام، وقد يكون هذا المصطلح شيوعيًا، أو تبع أي أيدلوجية أخرى، المهم أنه نشاز في العقيدة، والسبب في هذا: جرأة الناس على مسائل الاعتقاد.
وبعض المسلمين قد يتردد عن الحديث في التخصصات الأخرى إذا جرى حديث في أي مجلس من المجالس، لكن إذا عرضت قضية من قضايا العقيدة والدين رأيت أجهل الناس في المجلس هو أسبقهم إلى الحديث عنها، ويوالي الذي لا يخالفه، وهذا الأمر ما كان موجودًا وإنما حدث من وقت قريب، كان الناس حتى الفجار منهم والفساق والمعرضين عن دين الله ﷿ لا يجرءون على الكلام عن الدين، أما الآن فصار الدين عرضة لكل متسول، وهذه مشكلة أدت إلى الخروج عن منهج السلف في مسألة الألفاظ.
ومما تميز به منهج السلف أنهم تحاشوا المصطلحات الصوفية التي فيها لبس، أو تحتمل أكثر من وجه؛ وبذلك دخل كثير من الزنادقة على الإسلام، وأفسدوا العقائد من خلال المصطلحات الصوفية؛ لأنها مصطلحات مرنة تصلح لعدة وجوه، يعبر بها عن الحق وعن الباطل، فيستعملها صاحب الباطل في الباطل، ويستعملها صاحب الحق في الحق، وإن كان الحق غنيًا عنها بحمد الله.
كذلك السلف ابتعدوا عن الألفاظ الباطنية الماكرة، وعن ألفاظ الرافضة التي تقوم على الفرية والكذب.
فتميز منهج السلف باعتماد المصطلحات والألفاظ الشرعية، والبعد عن الألفاظ البدعية في تقرير العقيدة وبيانها.
وقد يلجأ بعض السلف أحيانًا إلى استعمال بعض المصطلحات لضرورة تتعلق بعصره، أو تتعلق بأمر أو فتنة حدثت في زمنه؛ وهذه ضرورات، وفرق بين التقرير والبيان، فإن السلف لا يخلطون العقيدة بمصطلحات أخرى، لكن أحيانًا قد تدخل عليهم بعض الألفاظ من باب البيان أو من باب الدفاع.
1 / 16
استخدام المنهج الوسط في التعبير عن الحق
ثالثها: يلتزم السلف في منهج العرض وتقرير العقيدة ونشرها المنهج الوسط في التعبير عن الحق، بعيدًا عن المبالغات والعواطف والتحميلات الوهمية، وبعيدًا عن الحشد والاستطرادات؛ ولذلك جاءت كتب العقيدة المفردة موجزة جدًا، وأكثر ما يوجد في آثار السلف في كتب العقيدة من الأساليب والألفاظ المكررة؛ من باب حشد الأقوال وتقويتها في تقرير العقيدة والدفاع عنها، أما الألفاظ فليس عندهم فيها استطرادات.
كما أنه ليس في تعبير السلف عن العقيدة غلو ولا تقصير.
1 / 17
التجرد عن الهوى والرأي
رابعها: التجرد عن الهوى والرأي، لكن لا يتجردون عن الحق.
أما ما يتعلق بدعوى التجرد عند بعض الباحثين فيقصد بها أصحابها: أن الكاتب والمتكلم في أي قضية يحب أن يتجرد دون أن يكون له رأي مسبق حتى يبحث ويصل إلى نتيجة، وهذا لا يصح في الدين والعقيدة، لكن لا بأس بذلك في الكتب الاجتماعية وهذا الأصل كارثة الدراسات النفسية والاقتصادية، فهذا ينبغي أن تتجرد من الرأي؛ حتى تتبين لك الحجة، ويتبين لك الوسط العلمي الصحيح، لكن في العقيدة لا يصح التجرد من الحق لأن من تجرد عن الحق فقد ارتد.
ومع الأسف فإن هذا المبدأ أخذ به بعض الباحثين في مسائل الدين وصار يطبقه جهلًا منه، فيقول مثلًا: أنا عندما أبحث عن مسألة: هل اليهود كفار أم لا؟ أتجرد عن الحكم بكفرهم حتى يثبت الدليل!! هذا حكم سبقت إليه، وقد قرره الله ﷿، وليس هذا لك، وليست المسألة اجتهادية! المسائل الاجتهادية يتجرد فيها الإنسان من أن يكون له هوى أو رأي مسبق؛ حتى يصل إلى نتيجة، ويتقرر عنده الدليل الشرعي أو العقلي، أما مسائل الدين المتقررة أو قواعد المناهج الأساسية وأصول الدين فلا يجوز للمسلم أن يتجرد فيها عن الحق، بل يجب أن يلتزم الحق ويستدله، ولذلك كان السلف يبتعدون عن هذا المسلك؛ لأنه يؤدي إلى الردة، فكانوا يتجردون من الهوى والرأي الشخصي، لكن لا يتجردون عن الحق.
1 / 18
استخدام الوسائل المباحة في نشر العقيدة
خامسها: ومن أساليب السلف في ذلك: استخدام كل وسيلة مباحة في نشر العقيدة، حسب مستجدات العصر.
والعجب من الذين يحجرون على الناس في مسألة وسائل العقيدة وأساليبها، والتفصيل فيها أن يقال: إن قصد بالوسائل والأساليب: الأمور المنهجية فلا شك أنها توقيفية، ولا يجوز لنا أن نخرج عن مقتضى عمل الشرع، وإن قصد بالوسائل والأساليب: الأدوات؛ فلا شك أنها مستجدات، فالصحابة استعملوا في تقرير الدين ونشره ما لم يكن موجودًا في عهد النبي ﷺ، والتابعون استجد لهم من الوسائل ما لم يكن موجودًا في عهد الصحابة، وتابعوهم كذلك، وسلف الأمة في القرون الثلاثة الفاضلة حدث لهم من مستجدات الحياة من الوسائل والأساليب ما جددوه باسم العقيدة، فمثلًا: تصنيف الكتب لم يكن موجودًا في عهد الصحابة.
فالسلف من منهجهم في نشر الدين: استخدام كل وسيلة مباحة في نشر العقيدة وبيانها، والدفاع عنها، في الدروس في حلق التعليم في الفتاوى في الخطابة في المواعظ في القصص في التأليف والكتابة فيما بعد ضرب الأمثال الجدال بالتي هي أحسن المناظرة، ضمن التفسير، ضمن الحديث، ضمن الأحكام، ضمن المتن، ضمن النظم، ضمن الرسائل الخاصة والعامة، والكتب والمصنفات؛ كل هذه استخدمها السلف في نشر العقيدة.
1 / 19
الاهتمام بالتصنيف والتأليف وتعدد الأساليب فيه
سادسها: كذلك تعددت أساليب السلف في بيان العقيدة وتقريرها في جانب التصنيف والتأليف على مناهج كثيرة جدًا.
منها: حشد الأحاديث والآثار والنصوص عن طريق المسانيد؛ كمسند الإمام أحمد، بدون عنصرة ولا تبويب، إلا أن تسرد النصوص تحت أسماء الرواة، وهذا منهج سلكه كثير من السلف.
ومنها: حشد النصوص وتبويبها وعنصرتها في العقيدة والشريعة والأحكام والآداب، وتسمى: المصنفات الشاملة، وهي مبوبة ومعنصرة في الغالب، ككتب الصحاح والسنن، مثل: صحيح البخاري، والكتب الستة عمومًا، وإن كان بعضهم لم يعنصرها، لكنه رتب الأحاديث على العناصر، ولذلك سهل على من بعده وضع العناصر، كما فعل الإمام مسلم.
منها: أسلوب حشد النصوص في تقريب العقيدة، وتقريب الأحكام والفتاوى والآداب، لكن بالعنصرة والتبويب وإن لم تكن تستعمل في القرن الأول الهجري، إنما استعملت في القرن الثاني والثالث والرابع.
ثم أتى بعد ذلك أسلوب آخر احتاجه الناس، وهو وضع المصنفات في جانب من جوانب الدين مصنفات في العقيدة مصنفات في الأحكام وسموا مصنفات العقيدة: السنن، وسموها الآثار، ومن ذلك مثلًا: السنة لـ عبد الله ابن الإمام أحمد، وإن كان فيه بعض الآداب والأحكام، لكن في جملته يقرر منهج العقيدة، وتبويبه وعنصرته يتضمن تقرير العقيدة والرد على المخالفين.
ثم جاءت بعده كتب كثيرة من هذا الباب، مثل: اللالكائي وابن بطة والآجري وغيرهم.
ثم بعد ذلك لما كثر كلام أهل الأهواء في العقيدة؛ صنفت كتب متخصصة في العقيدة، مثل: التوحيد لـ ابن خزيمة في الأسماء والصفات، ثم فيما هو أدق في مسائل عقدية محدودة، مثل: خلق أفعال العباد للبخاري، وقد كانت قضية القضايا في ذلك العصر.
ثم أيضًا في مثل قضية كلام الله ﷿ القرآن، والرد على القائلين بخلق القرآن، صنفت كتب مفردة في مسائل محدودة في العقيدة اقتضتها ظروف العصر.
فكتب السلف في الرؤية كتب مستقلة وفي الشفاعة كتب مستقلة وفي كلام الله وفي مسألة خلق أفعال العباد وفي القدر وفي الصفات وفي الإيمان، أفردوا أصول العقيدة بمفردات، بل أحيانًا الأصول المتفرعة عن الأصول الكبرى أفردوها بمفردات، لحاجة الناس إلى ذلك؛ لأن أهل الأهواء أثاروا هذه القضايا أمام العامة.
وقد يكون بعض أهل الأهواء متخصصًا في بلية واحدة، لا يهمه قضايا الدين الأخرى، يكون سوسة في ركن واحد من أركان الدين، وفي استهداف هذا الأصل لوحده.
ولذلك يعاتب بعض طلاب العلم الذين يؤاخذون بعض المجتهدين في الرد على مسائل مفردة من أصول الاعتقاد، وهذا منهج سليم لا حرج فيه، وهو فرض كفاية.
فكل من رد على شبهة من الشبهات إذا عمت بها البلوى؛ فجزاه الله خيرًا، ويجب أن نشكره على ذلك، ولا نقف عقبة أمام عمله.
1 / 20