237

Al-Durar fī ikhtiṣār al-maghāzī waʾl-siyar

الدرر في اختصار المغازي والسير

Editor

الدكتور شوقي ضيف

Publisher

دار المعارف

Edition

الثانية

Publication Year

١٤٠٣ هـ

Publisher Location

القاهرة

قَادِمًا زَاحَ١ عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَلِمْتُ أَنِّي لَا أَنْجُو مِنْهُ إِلا بِالصِّدْقِ. فَلَمَّا صَبَّحَ٢ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَة نَزَلَ بِالْمَسْجِدِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ جَلَسَ فَجَاءَ الْمُتَخَلِّفُونَ، فَجَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ. وَجِئْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، وَقَالَ لِي: "مَا خَلَّفَكَ؟ ألم أكن ابتعت ظهر ك؟ " ٣ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِكَ لَرَجَوْتُ أَنْ أُقِيمَ عِنْدَهُ عُذْرِي لأَنِّي أُعْطِيتُ جَدَلا٤ وَلَكِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنِّي إِنْ كَذَبْتُكَ الْيَوْمَ أَطْلَعَكَ اللَّهُ عَلَيْهِ٥ غَدًا، فَفَضَحْتُ نَفْسِي. فَوَاللَّهِ مَا كَانَ لِيَ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ، وَمَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَمَا هَذَا فَقَدْ صَدَقَكُمْ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ" فَقُمْتُ وَمَعِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي: بَنِي سَلَمَةَ يَقُولُونَ: مَا عَلِمْنَاكَ أَتَيْتَ قَطُّ غَيْرَ هَذَا الذَّنْبِ، أَفَلا اعْتَذَرْتَ إِلَيْهِ فَيَسَعَكَ مَا وَسِعَ الْمُتَخَلِّفِينَ؟ وَكَانَ يَكْفِيكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى هَمَمْتُ أَنْ أَنْصَرِفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَأَكْذِبَ نَفْسِي ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ لَقِيَ مِثْلَ هَذَا أَحَدٌ غَيْرِي؟ قَالُوا: [نَعَمْ] ٦ رَجُلانِ قَالا مِثْلَ مَقَالِكَ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ، قُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَمْرِيُّ وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ. فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَصَمَتُّ حِينُ ذَكَرُوهُمَا لِي. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ خَاصَّةً٧ فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي نَفْسِي وَالأَرْضُ الَّتِي أَنَا فِيهَا. فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ بِالأَسْوَاقِ لَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَلا أَسْمَعُهُ يَرُدُّ عَلَيَّ، فَأَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي هَلَّ رَدَّ فِي نَفْسِهِ. وَكُنْتُ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، فَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ٨ جِدَار "حَائِط" أبي

١ زاح: ذهب.
٢ صبح الْمَدِينَة: دَخلهَا صباحا.
٣ الظّهْر: الدَّابَّة. وَفِي البُخَارِيّ: "ألم تكن قد ابتعت ظهرك".
٤ جدلا: فصاحة ولسنا وَقُوَّة حجَّة.
٥ عَلَيْهِ: أَي على الْكَذِب.
٦ زِيَادَة من ابْن هِشَام وصحيح البُخَارِيّ.
٧ خَاصَّة: أَي من المتخلفين.
٨ تسورت: عَلَوْت.

1 / 244