الصَّحَابَةِ سُؤَالَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى". وَلم يحل ابْن عبد الْبر على الِاسْتِيعَاب وَحده من كتبه، فقد أحَال أَيْضا على كِتَابه "التَّمْهِيد لما فِي الْمُوَطَّأ من الْمعَانِي والأسانيد" إِذْ عقب على حالات الْوَحْي فِي مفتتح الْكتاب بقوله: "وَقد أشبعنا هَذَا الْمَعْنى فِي كتاب التَّمْهِيد عِنْد ذكر حَدِيث عَائِشَة ﵂ الْمَذْكُور". وتحدث فِي خَاتِمَة الْكتاب عَن صَلَاة أبي بكر بِالنَّاسِ فِي مرض الرَّسُول ﷺ، وَقَالَ: "وَقد أوضحنا مَعَاني صلَاته فِي مَرضه بِالنَّاسِ مَعَ أبي بكر وَمَكَان الْمُقدم مِنْهُمَا، وَمَا يَصح فِي ذَلِك عندنَا فِي كتاب التَّمْهِيد". وَمر بِنَا تعقبنا لمن روى عَنْهُم ابْن عبد الْبر الْأَحَادِيث وَالْأَخْبَار فِي هَذِه السِّيرَة مِمَّن لم يذكرهم فِي أسانيده لكتب ابْن عقبَة وَابْن إِسْحَاق وَابْن أبي خَيْثَمَة، ورأيناهم جَمِيعًا فِي عداد أساتذته الَّذين روى عَنْهُم، بِشَهَادَة تِلْمِيذه الْحميدِي.
وكل ذَلِك مَعْنَاهُ أَن نِسْبَة هَذِه السِّيرَة إِلَى ابْن عبد الْبر نِسْبَة وَثِيقَة، ونراه يَقُول فِي خطبتها أَو فاتحتها: "هَذَا كتاب اختصرت فِيهِ ذكر مبعث النَّبِي ﷺ وَابْتِدَاء نبوته وَأول أمره فِي رسَالَته ومغازيه وسيره فِيهَا، لِأَنِّي ذكرت مولده وحاله فِي نشأته وعيونا من أخباره فِي صدر كتابي فِي الصَّحَابَة، وأفردت هَذَا الْكتاب لسَائِر خَبره فِي مبعثه وأوقاته ﷺ ... والنسق كُله على مَا رسمه ابْن إِسْحَاق. فَذكرت مَغَازِيَهُ وسيره على التَّقْرِيب والاختصار والاقتصار على الْعُيُون من ذَلِك دون الحشو والتخليط".
وواضح من ذَلِك أَن ابْن عبد الْبر قصد فِي هَذَا الْكتاب إِلَى صنع مُخْتَصر للسيرة النَّبَوِيَّة، وَعبر عَن مقْصده لَا فِي خطْبَة الْكتاب فَحسب، بل أَيْضا فِي عنوانه الَّذِي اخْتَارَهُ لَهُ، وكأنما رَأْي كتب السِّيرَة تحتوي على حَشْو كثير، فَرَأى أَن يَكْتَفِي بالدرر والفرائد الَّتِي تجْعَل مِنْهَا خيطا ممدودا مُتَّصِلا. وَقد بَدَأَ هَذَا الْمُخْتَصر بالمبعث وَمَا بعده من الْمَغَازِي والأحداث، أما مَا قبل ذَلِك من ولادَة الرَّسُول وَنسبه ووفاة أَبِيه وَأمه وجده وكفالة أبي طَالب ونشأته وأطواره قبل الْبعْثَة وزواجه بالسيدة خَدِيجَة فقد أجمله فِي صدر كِتَابه:
"الِاسْتِيعَاب فِي معرفَة الْأَصْحَاب" وَكَأَنَّهُ رأى أَن لَا دَاعِي لتكرار حَدِيثه عَنهُ. وَيَقُول إِنَّه بنى الْكتاب على مَا رسمه ابْن إِسْحَاق، والتقاؤه بِهِ وَاضح فِي الْمَغَازِي وتواليها وَأَسْمَاء من شاركوا واستشهدوا من الْمُسلمين فِيهَا وَمن قتلوا أَو أَسرُّوا من الْمُشْركين. وَإِذا كَانَ قد تَابع ابْن إِسْحَاق فِي الْبناء الْعَام فَإِنَّهُ اسْتَقل عَنهُ فِي كثير من الْمَوَاضِع بِمَا أضَاف من كتابي مُوسَى
1 / 12