لا ريب أن الحضارة الصينية أقدم حضارة على الأرض، يرجع تاريخها إلى ألفين وخمسمائة سنة قبل المسيح. فكان «فو هي» إمبراطورها الحكيم أول فيلسوف في مملكته. ولم تكن الكتابة معروفة لذلك العهد، فرسم حكمته في سطور سرية على ألواح محفوظة حتى اليوم، وعلم شعبه العدد والفلك، وعوده احترام الأجداد، ثم جاء بعده باو، وشون، وبو، فنظم الأول المواقيت، وسن الشرائع، واخترع كثيرا من الفنون المفيدة، وكان دمث الأخلاق، طيب القلب، إلى حد أنه منع العرش على بنيه؛ لأنهم لم يكونوا أهلا للحكم، ورفع إليه مزارعا بسيطا هو «شون» الذي اقتفى أثره، فاختار خليفة له مزارعا هو «بو».
باو، شون، بو، هم الأركان الثلاثة التي قامت عليها الفلسفة الصينية، وضعوا أسسها وقالوا للحكام: الرعية أبناؤكم، وقالوا للرعية: الملك أبوكم.
ومنذ دفع هؤلاء الصين في طريقها إلى الأمام أخذت تتقدم في معارج الارتقاء، يساعدها على ذلك غناها الطبيعي، واتساع ملكها، ومناعة حماها؛ بما حبتها الطبيعة من حدود ترد طرف الغزاة وهو حسير، كجبالها الشماء التي تعد أعلى جبال الكرة الأرضية، ومنافذها الشاسعة التي يعز اجتيازها على بني الإنسان.
وانصرف الشعب الصيني إلى إنماء تجارته وصناعته، وكان له من نجاحه المطرد وثروته الآخذة في الازدياد حافز للاهتمام بالفنون الرفيعة، ولا سيما الموسيقى، حتى إن الإمبراطور شون جعل لها في حكومته وزارة خاصة، وكان هم الصينيين متجها إلى توفير أسباب الراحة وحياة الخفض والدعة والسكون، فاكتشفوا بسهولة ما قضى الغرب زمانا طويلا قبل الوصول إليه. وقبل المسيح بخمسة عشر قرنا كانوا يعرفون الورق والكتابة ويستعملون البيكار، وكانوا يكرهون الحروب، وقد عودتهم أسوار الصين الهائلة أن يناموا في جناح آمن، فكانوا يحتقرون الأشياء العسكرية، ولا يريدون سوى التمتع بنعم السلم؛ ولهذا لم يحفظ التاريخ ذكرا لرجال الحرب منهم.
وكتب الآداب عندهم تلقن مبادئ العدل، وتنص على خلود النفس والثواب والعقاب في عالم آخر، وتأمر كالكتب الهندية بالرحمة والشفقة على الحيوان، واحترام العصافير الصغيرة في أعشاشها، والأشجار التي تعطي الظل، وتعلم أن الإنسان السعيد هو الذي يرى الخير، ويصنع الخير، وما أجمل هذا التعريف للسعادة!
والقضاء قديم في الصين، وهو عادل وصارم معا. وعقاب الصين قائم على العصا يخضع لها العظيم والحقير دون أن يجدوا من ورائها عارا أو تحقيرا. فترى القاضي نفسه إذا استحقها يخلع ثيابه ويحني ظهره ويتلقى الضربات ثم يقوم فيرتدي لباسه، ويعود إلى منصة القضاء دون خجل ولا استحياء، وأما الجرم السياسي فيعاقب بالتعذيب الشديد، والموت بلا شفقة.
وللشعب الصيني شعر وأدب، ولكنه شعر جامد وأدب لا يتغير؛ لأن طاعته العمياء وخضوعه للتقاليد قد وضعا الفكر والخيال في دائرة ضيقة لا يتعديانها، على أنه من العجب العجاب أن يكون لهذا الشعب فلسفة وعلم وأدب، في زمن كان العالم فيه غارقا في ظلمات الجهالة، وأن يتولى العقل زمام الأحكام فيه بينما كانت سائر الشعوب خاضعة للقوة، وربما كان من أهم أسباب ذلك الجمود الكتابة الصينية التي يحمل كل حرف منها صورة مرسومة، فلا يسهل حفظها؛ ولهذا لا يزال الصينيون يتكلمون اليوم كما كانوا يتكلمون منذ طفولة العالم بلغة كلها ألغاز ورموز يقضي الذكي منهم ثلثي عمره في تفهمها، والثلث الباقي في التبحر بها.
وفضلا عن ذلك فالصيني محكوم عليه بشرائعه أن لا يفارق موطنه؛ فحيث ولد يعيش، وحيث عاش يموت. وكما حرم عليه الخروج من أرضه فقد حرم على الغريب الدخول إليها. فإذا بهذه المملكة الكبيرة كالسجن المحكم الأقفال، لا تتسرب إليه أصوات الخارج، ولا يؤثر فيه ما يعصف حوله من الزعازع.
وفي منتصف القرن السادس قبل التاريخ المسيحي كانت الصين - بلا ريب - أعظم بلاد الله حضارة وأرقاها مدنية، مملكة واسعة الأطراف كاملة التنظيم، مقسومة إلى ولايات يديرها حكام باسم الإمبراطور، وفيها نظام للشرطة وللسلطات جميعا، وصناعاتها كثيرة كالحرير والخزف والصباغ والطباعة والحفر، وزراعتها زاهرة، وبساتينها خضراء، وحدائقها كثيرة غناء، ولا يخلو فيها بيت من روضة يقضي الصيني فيها معظم وقته مستسلما إلى الراحة، وأحلام النفس المطمئنة، في تلك الحقبة من الزمن بينما كانت ضفاف الكانج وغابات الهند الأزلية تردد صدى تعاليم بوذا كانت الصين تتلقى الحكمة من فم مرشدها وفيلسوفها الأكبر كونفوشيوس.
2
Unknown page