حلم جميل لا أدري، ولا أحد في الناس يدري إذا كان في الإمكان استحالته حقيقة. وبينما العقلاء من الناس يفكرون في تحقيقه كله أو بعضه فالأرض لا تزال تدور، وتشهد حماقة البشر، وتحتمل التفظيع والتخريب، وتلبس الحداد، وتغص بدم أبنائها المهراق على صدرها.
العنصرية الروحية
العنصرية كلمة مشتقة من العنصر، ومعناه في اللغة الأصل والحسب، وقد اتخذها هتلر سلاحا يهول به على العالم للإشادة بتفوق الشعب الألماني على سائر شعوب الأرض، مدعيا أن في عروقه دما آريا نقيا يجعل كل مخلوق دونه. ولكن هذه الدعوى لا صحة لها على الإطلاق، وهي منقوضة بالأدلة العلمية، وما القول بالدم الآري النقي إلا أسطورة من الأساطير وخرافة من الخرافات يرمى بها إلى الدعاية وتضليل العقول. وكل يوم لنا من الشواهد ما يدل على فساد هذا الزعم، ويظهر بأجلى بيان أن الشعوب لا تتفاضل بالأصل والأحساب، وأن كل أمة قادرة على التفوق عندما تدق ساعتها؛ ففيها عباقرة كما أن فيها خاملين.
ولكن هناك عنصرية أخرى يمكننا من نتائجها أن نسميها عنصرية الروح؛ لأنها تخلع المزية على بعض الناس وتؤهلهم لإحراز التفوق العقلي والأدبي والمادي. ما هي هذه العنصرية؟ ومن أين أتت؟ أتكون ما يسميه علماء اللاهوت النعمة؛ أي منحة إلهية تهدي من ينعم بها الصراط المستقيم، وبدونها لا يفهم معنى للإيمان والرجاء والمحبة؟ أجد نفسي هنا مضطرا للوقوف قليلا عند هذه الكلمة، وإلقاء نظرة قصيرة على التاريخ لدرس نشأتها وتحليلها.
إن أول من تكلم عن النعمة بولس الرسول، فيقول في رسالته إلى أهل أفسس: «فإنكم بالنعمة مخلصون، وذلك ليس منكم إنما هو عطية الله.» وقد يشتم من هذا القول إنكار الإرادة الحرة في الإنسان، وهذا ما حمل المسيحيين من الذين تشربوا الفلسفة اليونانية وتعاليم أفلاطون على المعارضة. وقام راهب إنكليزي يدافع عن هذه الحرية فقال: إن آدم مسئول وحده عن خطيئته، ولا شأن لذريته بها. ولكن هذا القول يهدم عقيدة الخطيئة الأولى من أساسها، ولا يبقي لضرورة الخلاص معنى؛ فلم يكن بد من قيام أئمة الدين عليه، وفي طليعتهم القديس أوغسطينوس الذي حاول التوفيق بين النعمة والإرادة الحرة، فجعل الإنسان مسئولا عن أعماله؛ لأنه حر التصرف قادر على مقاومة النعمة، وعدم الانقياد إليها، إلا أنه لم يفلح بدليل أن أشياع «الجبرية»؛ أي الذين يدعون أن الإنسان مسير غير مخير، يعمل ما أراده له الله منذ الأزل، ما برحوا لزمن طويل من بعده يستشهدون بأقواله.
وجاء بعده توما الإكويني فلم يكن أكثر توفيقا في حل هذا المشكل، وظل النقاش محتدما أزمانا، ولكنه لم يتعد جدران المدارس حتى عهد الإصلاح، فقام لوثر وكلفن يقولان: إن الله يصنع في الإنسان كل شيء، خيرا كان أو شرا؛ فهو محكوم عليه مقدما بالنعيم أو الشقاء، فكان هذا القول أيضا حكما بالإعدام على حرية الإنسان واختياره. وعقد البابا كليمان الثامن مؤتمرا من الكرادلة والدكاترة للبحث في موضوع الإرادة الحرة، فبقي يعمل تسع سنوات وسط معامع الجدل دون جدوى.
وأخيرا جاء جانسنيوس مطران أيبر، فألف بعد الدرس طوال عشرين سنة كتابا منع من نشره في حياته، وفيه يقول: إن الإنسان أضاع حريته منذ طرد من الفردوس؛ فهو الآن مسير بالنعمة. فعادت النار إلى الاستعار وانفرجت مسافة الخلف بين الكاثوليك، وكان للكتاب ذيول ونتائج لا محل لذكرها هنا، حتى إن لويس الرابع عشر تدخل في الأمر، وكانت هي السبب الذي أوحى إلى باسكال «رسائله الإقليمية».
هذه لمحة تاريخية موجزة عن النعمة، ولا ريب أن السلف الصالح أراد بها فيما أراد التعليل عن التفاضل الذي يحصل في الأخلاق والأعمال، ولكنه حصرها في الناحية الدينية. وعندي أنه يمكن اليوم تفسير هذا التفاضل عن طريق العلم؛ لأنه أمر فسيولوجي مرتبط بتركيب الإنسان. وهذه هي العنصرية الروحية التي أريد التحدث عنها، ويحق لي أن أسميها نعمة دون أن أتهم بالتجديف؛ لأنه سواء أكانت النعمة هابطة من فوق أم مستقرة في الهيولى، فهي من فضل الباري تعالى. هذه النعمة تختلف حسب الأشخاص وحسب الأوقات؛ فيشعر المرء أحيانا كأنه قادر على نقل الجبال من مواضعها، وأحيانا يرى نفسه أضعف من دودة الأرض؛ ذلك لأنها تتبع حالة الجسم والغدد العاملة فيه، هذه الغدد وخصوصا الصماء التي اهتدى العلم إليها منذ عهد قريب، يقول الدكتور كارل في كتابه «الإنسان هذا المجهول»: إن القديسين العظام كانوا أقوياء الغدد، وإن الإنسان لا يصلي بقلبه فحسب، بل بسائر عضلاته أو أعضائه.
هذه الغدد هي ميراث الإنسان الذي يتسلمه منذ يتصور في الرحم، وعليها يقوم استعداده الفطري؛ فترى هذا قوي البنية وذاك ضعيفها، هذا شديد المراس يحتمل المشاق، ويقوى على مقاومة الأمراض، وذاك سريع التعب يدب الضعف فيه لأدنى سبب. الواحد يأكل ويحرق في أعماق أنسجته ما يأكل، والثاني بطيء التغذية الخلوية من تمثيل وتحليل، فلا يسلم من داء النقرس أو الحصاة أو السمن المفرط وما شاكل.
هذه الغدد هي التي تجعل من الإنسان ذئبا ضاريا أو حملا وديعا، وتحوله إلى شيطان رجيم أو ملك كريم؛ فالمعدة والكبد وغشاء الكليتين والغدة الدرقية وسواها تسبب بمفرزاتها، التي لا نزال نجهل الكثير من أسرارها، شتى حالات النفس من خمول وهمة، وضعف وقوة، وحزن وسرور، وغضب ورضى، والذي يتمتع منها بالجيد القوي المنظم فهو المعد للتفوق على سواه. ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما.
Unknown page