فقال عبد ربه بتعثر من يجد مشقة في النطق: أترضى أن يكون الجامع مأوى لهؤلاء؟!
فقال المؤذن بتوسل: ليس لديهم غيره، أنسيت أنه حي قديم قد يتهاوى باللكمات لا بالقنابل؟!
فضرب الإمام راحته بقبضته، وقال: هيهات أن يرتاح قلبي لاجتماع كل هؤلاء الأشرار في مكان واحد، إن الله لا يجمعهم في مكان واحد إلا لأمر!
وانفجرت قنبلة، فخيل إلى حواسهم الملتهبة أنها انفجرت في ميدان الخازندار، والتمع لها بريق خاطف في فراغ الجامع كشف عن أشباح مرتعدة لحظة، قبل أن تبتلعها الظلمة العمياء مرة أخرى، فأطلقت الحناجر عواء مزعجا، وصوتت النساء، والشيخ عبد ربه نفسه صرخ وهو لا يدري. وتطايرت أعصابه فاندفع يهرول نحو باب الجامع. وجرى خادم المسجد خلفه يحاول منعه، لكنه دفعه بقوة متشنجة، وهو يصيح: اتبعاني قبل أن تهلكا!
ومرق من الباب، وهو يقول مرتعدا: لم يجمعهم الله في مكان واحد إلا لأمر!
ومضى مهرولا يخوض ظلاما دامسا. واستمرت الغارة بعد ذلك عشر دقائق، تساقطت في أثنائها أربع قنابل. وشمل الصمت المدينة مقدار ربع ساعة أخرى، ثم انطلقت صفارة الأمان!
ومضت الظلمة ترق أمام البكرة الوانية. ثم تبدت طلائع الصباح في مثل حلاوة النجاة.
لكن الشيخ عبد ربه لم يعثر على جثته إلا عند الشروق!
موعد
أسعد ما في اليوم هو هذا الوقت من الليل. انتهت متاعب الواجبات، استقر كل شيء في موضعه على أحسن حال، حتى المطبخ بات أنيقا نظيفا كأنه معروض للبيع، الخادم آوت إلى غرفتها لتنام، لم يبق إلا جلسة مريحة طويلة يبهجها الحب العائلي حول الراديو المردد لشتى المسرات. ولولو الصغيرة لا تنام، لا تود أن تنام، ولا أن تكف عن اللعب والشقاوة، ولكن هذا السيد، هذا الزوج السعيد، ما باله؟! لولو العزيزة لا تدع لها فرصة للتفكير. إنها ترمي بنفسها عليها بلا نذير، فترتطم الرأس بالرأس، أو تنشب الأظافر الصغيرة بالخد أو الرقبة، وكافة المساحيق لا تنجح في إخفاء آثار هذه الأظافر الصغيرة. بنت لم تجاوز الثالثة، ولكنها عفريتة بكل معنى الكلمة، وكانت هي جديرة بأن تكون أسعد الناس بها لولا ما يبدو على الأب من تغير حقيقي. وها هي تختلس النظرات إليه رغم موقفها الدفاعي الدائم من لولو. وها هو غارق في المقعد الكبير مطروح الرأس إلى الوراء، ينظر إلى السقف تارة، وتارة إلى الراديو من فوق الزجاجة الذهبية السائل القائمة على ترابيزة أمامه. معهم لكنه ليس معهم. في بعض رحلاته التجارية كان أقرب إليهم مما هو الآن. ماذا غيره؟ .. ماذا طرأ عليه؟! وقلبها يحس بالمخاوف وهي بعيدة؛ ولذلك فهو لم يذق الراحة منذ ... منذ كم من الوقت؟! يا إلهي شد ما يبدو الوقت قصيرا أحيانا إذا قيس بالأرقام، على حين تتمزق الأعصاب من طوله تمزقا. وما هذه العادة الوحشية الجديدة!؟ إنه يجلس هذه الجلسة لا ليحادثها ولا ليلاعب لولو، ولكن ليشرب الخمر. ويمعن في الشراب ليلة بعد أخرى، ويفرط في التدخين؛ فدائما تتلوى حول رأسه سحاباته الشاحبة. ألا ما أفظع هذا كله! ويضاعف من الحسرة أنه مثال تغبط عليه في حسن المعاشرة والنجاح في الحياة. كهربائي محترم وصاحب دكان لبيع الأدوات الكهربائية وإصلاحها. ولم يكن يضايقها أن يذهب إلى القهوة الخديوية كل مساء؛ ليلعب الطاولة ساعة أو ساعتين، ثم يعود إلى بيته حاملا ما لذ وطاب من حلوى أو فاكهة. يعود إليها، وإلى لولو، فيحيي جلسة عائلية دافئة بالمحبة والمسرة. هكذا مضت حياتها الزوجية القصيرة السعيدة، إلى ما رصعت به لياليها من سهرات لطيفة في بيوت الأسرة، أو في السينما وما يستتبع ذلك عادة من تعليقات أو مناقشات تزيد الحياة بهجة وحيوية. وأما الخلافات التي كانت تتسرب بعض الأحيان إلى حياتهما فلم تبلغ درجة خطيرة قط، ولم يحدث أن تركت أثرا حتى الصباح. ترى هل ينطوي ذلك كله في ذمة التاريخ؟ .. هل؟ .. يا لهذه الطفلة الصغيرة التي لا تتعب من الشقاوة أبدا! .. إنها تحمل على أبيها، لكنها سرعان ما تصد عنه لفتور استجابته واستسلامه دون دفاع مثير، حتى الكأس التي أراقتها عند تعلقها بالترابيزة لم تغضبه. - يا عزيزي، لماذا تشرب هكذا؟
Unknown page