وإذ هصرنا غصون الأنس دانية
قطوفها فجنينا منه ما شينا
لقد كان الأمر بينهما أجل وأخطر من أن يسمح بمثل هذا، وكانت نفس كل منهما أشد ثورانا وفورانا من أن يكون بها مجال لمثل ذلك. فكانت زياراته الطويلة يقضي معظمها في محاورات مرة أليمة عدائية عن أتفه الموضوعات وأقلها أهمية. وكانا يقضيان جانبا عظيما من الوقت في الاشتغال بالموسيقى، يتغنى هو صوتا أثر صوت، وهي تعزف على البيانو، ولكنهما لشدة الملل والضيق لم يكونا يستطيعان إكمال دور واحد، فكان لا يكاد يأتي على نصف الدور حتى تعتريه نوبة من الكرب والقلق، فيقذف بصحيفة الألحان على البيانو، ومع ذلك فقد كانا يديمان الاشتغال بالموسيقى - لعله فرار من التحدث في موضوعهما المؤلم، وهرب من الاستهداف للذعات الهواجس ولفحات الوساوس، أو لعله للسبب الآتي بيانه.
كانا يجلسان على البيانو متلاصقين تختلط منهما الأنفاس، وتمتزج حرارة الجسمين، واتفق مرة أن صحيفة الألحان سقطت منه فبينما كان يتناولها لمست كفه يدها، وسقطت مرة أخرى، وأراد حسب الظاهر أن يتناولها، فارتكز بيده وذراعه على فخذها لحظة - ثانية من الوقت لا غير - ولكن أحشاء الفتاة ذابت من تلك اللمسة الخفيفة، وأحست أن كيانها ينهدم انهداما، وجثمانها ينحطم انحطاما، وأن قوة عزمها المتماسك تتمزق وتتصدع كالمكينة، حينما تدار إدارة عنيفة معكوسة.
أعيدت صحيفة الألحان إلى مكانها، ولكن ذراعي الفتاة كانتا قد سقطتا عن معازف البيانو كالمشلولتين إلى جانبيها.
ثم قالت: «الحر شديد، ولا أطيق الاستمرار على العزف، تفضل علي بفتح النافذة.»
فذهب إصطفيان إلى النافذة ففتحها، وأرسل ابتسامة في ظلمات الليل.
في تلك الليلة أحس إصطفيان أنه لا يستطيع مفارقة الفتاة، فأطال الاشتغال بالموسيقى حتى جاوز حد اللياقة. وقد كان مستمرا إلى الصباح لولا أن جاءت أخت «إيزابلا» (اسم الفتاة) فأذكرته، وهي تبتسم أنه يجب مراعاة حرمة الجيران الذين يشاطرونهم المنزل، فألقى إصطفيان الصحيفة كارها. ونهض واقفا وإلى جانبه شخص إيزابلا الحسن الجميل، ووجهها المليح باديا للحظات مؤخر عينه، وهو متجه إلى أختها يحادثها.
أطال التحدث إلى أختها متعللا بكل غرض تافه، وموضوع سخيف، فلما فرغت جعبة تلك الأحاديث الفارغة جاءت فترة سكوت عجز فيها عن اختراع موضوع للحديث، فاستجمع قواه وتجلد ثم مد يده وقال: «إلى الملتقى!»
وكان بالفتاة إيزابلا أضعاف ما بالفتى من كراهية الفراق، فتبعته إلى خارج الغرفة ثم تواقفا برهة على رأس السلم، وكان قد استجم إذ ذاك في ذهن الفتى طائفة جديدة من المعاني الضئيلة، والخواطر التافهة، فأخذ يستخدمها إطالة لأمد البقاء مع الفتاة، ودفعا وتأجيلا لوقت الفراق، وكان لا يمتنع من استخدام أي شيء، وكل شيء في سبيل إطالة مدة اللبث معها دقيقة أخرى. ومع كل ذلك فقد كان لا يبدو عليه أدنى أثر من فرط وجده عليها، وشدة هيامه بها.
Unknown page