Dumuc Bilyatshu
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
Genres
كنت أراه أحيانا وهو يتمشى على ضفة النهر الصغير القريب من سور قصر الإمبراطور، وبغير أن يلفت إليه أحدا أو يلتفت إلى أحد كان ينزلق إلى أكمة ملتفة الأشجار والأغصان والأوراق الكثيفة ويختفي فيها قبل أن تلمحه العيون وهو راجع إلى ضفة النهر متجها إلى باب القصر الخلفي الذي يغلق وراءه في هدوء، وعندما وصفته لأمي وأخبرتها أنني أراه أحيانا وأتتبعه إلى مخبئه دون أن يراني، ضربت على صدرها بيدها الصغيرة وصاحت: كيف تفعل هذا مع حكيم الإمبراطور؟ كيف تجسر يا ولدي على الاقتراب من طريق السماء الذي لا يسير عليه إلا الكامل القديس؟ ألم تسمع أقواله الغامضة التي يرددها الناس حائرين أو ضاحكين عن الطريق؟ قلت في لهفة لا أندم عليها: وأريد يا أمي أن أرافقه على هذا الطريق، أريد أن أكون تابعه وتلميذه. فتحت فمها من الدهشة وقالت: ترافق التنين؟! أجبتها في هدوء: وما رأيك أنني تكلمت معه أيضا ومشيت معه خطوات؟! قالت متحسرة: ما دمت تتلف عينيك كل ليلة بالكتب المأفونة بدلا من رعاية أمك! ضحكت قائلا: وأريد أن تأتي معي لمقابلته حتى أستطيع بعد ذلك أن أرعاك كما تتمنين. •••
كان اللقاء أبسط مما توقعت أو توقعت أمي. انحنت أمامه حتى كاد رأسها يلمس العشب الذي يجلس عليه تحت شجرة ضخمة سوداء وقالت: هذا الولد مفتون بك وبالطريق يا سيدي. سمع عباراتك وأخذ يدونها على الأعواد التي يكلفني شراؤها فوق ما أطيق. ابتسم المعلم وسألها: ويدونها أيضا قبل أن يدونها صاحبها؟ ماذا كتبت يا ولدي؟ هتفت في حماس وأطلقت الكلمات من فمي كمياه متفجرة من نافورة أو شلال: الشجرة الشامخة نمت عن برعم صغير، البرج ذو الطوابق التسعة ارتفع من كومة تراب. رحلة العشرة آلاف ميل تبدأ تحت قدميك. قال ضاحكا: كلماتي سهلة على الفهم، سهلة جدا على التنفيذ، لكن لا أحد في المملكة يقدر على فهمها أو العمل بها، صحت في رعونة يحسدني عليها أشجع المقاتلين: ولكنني أفهمها يا سيدي وأعمل بها أيها الحكيم الجليل، جربني وسوف ألازمك على الطريق.
قالت أمي معتذرة: سامحه يا سيدي، إنه منذ أن قتل أبوه أمام عينيه لا يفعل شيئا سوى تجربة الحبل المعقود، ومنذ أن أرسلته إلى ثلاثة معلمين وهو يملأ حجرات بيتنا الضيق الفقير بالريش والأقلام والمحابر وأعواد الخيزران، ويكدس أوراق الكتب القديمة في كل مكان حتى لا أجد مكانا يتسع لأوعية الطعام أو لجلوس الضيوف القليلين، خذه يا سيدي واجعله تلميذك وتابعك وخادمك الأمين، إنني مريضة ولا أدري كم سأعيش أو متى سأذهب وأتركه بلا أحد يضع عينه عليه أو يضع اللقمة في فمه. قال الحكيم العجوز وهو يمسك بيدي: وهل ستصبر يا ولدي على مشقة الطريق؟ هل تستطيع أن تضحي بكل شيء وتتمسك به؟ قلت وأنا أشد على يده: وأعيش له ولك يا سيدي. قال وهو ينهض متجها وأنا معه إلى بوابة القصر القريب: ولأمك التي ستزورها لتطمئن عليها من حين إلى حين. •••
الطريق طويل وتتسع مساحة صمتي وصمت الحكيم الحزين والثور الأسود السمين لأن أنثر على ترابه أوراق ذكرياتي الجافة، لكن كيف أرتبها وأسرد وقائعها التي تلتصق بلحمي وتزحم مجرى دمي؟ هل يمكن أن أنسى الليالي الطويلة التي قضيتها تحت قدميه وهو يقلب في الأوراق القديمة والكتب العتيقة في مكتبة القصر الملكي بحثا عن نماذج الحكماء القدماء والحكماء الكاملين؟ هل أروي عن صمته الممتد على اتساع طريق السماء والجواهر العشرة آلاف التي تكون الموجودات على سطح الأرض؟ أم أسترجع الأيام والليالي العصيبة التي رأيت أو سمعت فيها حواره الغاضب مع القواد والوزراء أو مع ذلك الشخص العصبي النحيل الذي عرفت فيما بعد أنه هو الإمبراطور، الإمبراطور الذي يقفز في كل مكان كالطاوس المثقل بالألوان الساطعة والثياب الطويلة الغنية بالزخارف المذهبة والتاج البراق الناصع باللآلئ والجواهر على رأسه الصغير؟ وحيرة الإمبراطور وغضبه وكلماته المتدافعة كالحمم الملتهبة بالغضب الأسود وردود المعلم عليه كأنها السدود في وجه السيل؟ وأسفاره التي كان يغيب فيها عن القصر وعن أوراق المكتبة وكنوز خزائنها العتيقة ثم يرجع وهو يدمدم بالكلمات اللاهثة الممزقة كقطع الدم المتجمد التي تنزف من جرح واسع: أين أنتم أيها الحكام الحكماء في الزمن القديم ؟ يا من كنتم نموذج العالم ومقياس المملكة! لم يبق إلا المدعون الذين لا يثق الناس بهم، الذين يمجدون أنفسهم فلا يعترف بهم أحد، ويفرضون على الشعب قوتهم فلا يزداد إلا ضعفا وبؤسا وهوانا، ويفرحون بالمذابح وسفك الدماء ويسمونه انتصارا ويحتفلون به كما يحتفلون بجنازة، أين أنتم أيها الحكماء القدماء لتعيدوهم إلى البساطة والسكينة؟ وكيف أستطيع أنا وحدي أن أعيدهم إلى الطريق أو حتى أكلمهم عنه فيسمعوني؟
حتى جاءت الليلة التي رأيته فيها محتقن الوجه كصفحة جبل عابس أجرد، كانت عيناه زائغتين وتجاعيد وجهه مربدة وملابسه مضطربة ورأسه ويداه وذراعاه في حركة متشنجة، خيل إلي أنني أرى أمامي ذئبا عجوزا انقض حديد الفخ على أعضائه ولم يسمح بالحركة إلا لشعر رأسه المتوفز وذيله المرتعش المتحفز وعوائه المبهم الباكي، قال فجأة وهو يحدق في بعينين محمرتين: لم يبق سوى المنفى! تطلعت في وجهه الثائر مستفسرا، فقال وهو يذرع أرض المكتبة التي اضطربت فيها أوراق التاريخ اضطراب أفكاره: سأنفي نفسي بإرادتي - الحكمة مستحيلة في هذا العالم - والحكيم منبوذ لا يطلبه أحد ولا يستمع لنصحه أحد. هممت أن أتكلم فقال: نعم لم يبق أمامي إلا أن أنفي نفسي بنفسي وأتابع الطريق. قلت مترددا خائفا: وأنا يا سيدي، أنا الذي تمسكت به وبك؟ قال وهو يطرق برأسه مليا: أمك في حاجة إليك. قلت والدموع تسبقني وتفلت جارية على خدي: أنا قادم من عندها، لم تعد في حاجة إلى أحد. اقترب مني وهز كتفي في عنف: ماذا تقول؟ أيمكن أن تتركها وحدها؟ قلت: إنها على وشك أن تتركنا وتترك العالم كله. صاح غاضبا: ولماذا لم تقل هذا؟ لماذا لم تبق معها؟ هيا بنا.
وجرينا إلى البيت الصغير على الضفة الأخرى من النهر. عبرنا جسرين وانحدرنا على طريق مترب مليء بالحفر والبرك الراكدة، ومررنا على أطفال مهلهلي الثياب وعجائز مكومات على أعتاب البيوت، ونهرنا الكلاب الجائعة الضالة أكثر من مرة، وعندما اقتربنا من البيت لمحت عجائز في الثياب البيض يتوافدن على الباب الواطئ وهن يولولن صائحات. كانت أمي في النزع الأخير، بالكاد حركت رأسها ونظرت إلى المعلم ثم إلي، نظراتها الصامتة تنطق في وقت واحد بالألم واليأس والطمأنينة والثقة وتقول: تركته لك، تركته لك.
انتبهت على صوت المعلم يوقظني في رفق من إغفاءتي التي طالت مع الذكريات وكادت أن تنسيني الركب الصغير، وجاءني صوته الضعيف الذي تعودت على نبرته الحادة التي طالما نفذت في أذني وقلبي كصيحة طائر عجوز: هل رأيت؟
تلفت حولي مستوضحا فضحك ضحكته النادرة التي شبهتها بيني وبين نفسي - ولتغفر لي السماء! - بضحكة جدي عجوز مكتئب الوجه: إنها آخر حدود الصين، انظر إلى الكوخ والحاجز هناك! •••
تعجبت كيف عرف هذا مع أنه لم ينف نفسه من قبل، ونظرت إلى حيث أشار ورأيت الحاجز الصغير الذي يقطع نهاية الدرب المنحدر بعارضة خشبية تنتهي فيما قدرت بكرة حديدية ضخمة، وتعجبت مرة أخرى من منظر الكوخ الخشبي الصغير الذي يقف وحيدا وسط أشجار السرو العجوز كأنه متسول منهك الجسد والروح على حدود الإعياء أو الجوع، لم أر حراسا يجوبون المكان، ولا فرسانا مدججين بالسيوف والخوذات البراقة، ولم أستطع أن أكتم شعورا بالخوف داهمني فجأة فهتفت: أهذه هي آخر حدود الوطن يا سيدي؟
فاجأتني النبرة الحادة المرتعشة بخفقات البهجة والسرور: حيث يكون الطريق يكون الوطن يا ولدي، وحيث يكون الوطن يكون الأصل والجذور.
Unknown page