Dumuc Bilyatshu
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
Genres
1
الطريق
قال الغلام الذي رافق المعلم إلى منفاه الأخير:
لا أستطيع أن أحول عيني عنه منذ أن خرجنا - هو والثور الأسود السمين الذي يحمله على ظهره وأنا - من البوابة الأخيرة لولايتنا «تشو»، وتركنا وراءنا المدينة في ساعة الشفق كأنها التنين الأصفر الذي يلمع في وشاح الغروب الذهبي برغم السحب الرمادية التي تلفه في الغبار والضباب، ألمح خفية وجه معلمي الشاحب النحيل الذي لم تمح الخطوط والتجاعيد الصخرية قسماته الرقيقة الحنون وهو يلتفت خلفه بين الحين والحين كأنما يتلفت قلبه المهموم على أجنحة نظراته الطيبة التي تحجرت فيها الدموع منذ سنين، وكلما قطع الصمت الذي يتدثر بسواده الفاحم أكثر مما يتدثر جسده الفارع الهزيل بعباءته السوداء، كلما حرك شفتيه أو أشار بيده الصغيرة البارزة العروق، أسرعت إليه ومقود الثور لا يغادر يدي وندائي عليه لا يتوقف: نعم يا معلمي، هل تطلب شيئا؟ لكن ما أندر أن يفتح فمه بكلمة أو ينطق عن رغبة، حتى الزاد القليل الذي أقدمه له عندما نميل قليلا إلى ظل شجرة أو صخرة لنستريح لا يكاد يقربه حتى ألح عليه بلقيمات قليلة أو قطعة لحم خشنة أو قضمة جبن بيضاء.
آه! ما هذه الأحزان التي سكنت قلبك كالخفافيش التي تعشش في كهف مظلم وترفرف أجنحتها السوداء دائما على وجهك وجبهتك وكيانك؟ وكيف أجرؤ على السؤال وأنت الذي علمتني أن الحكيم لا يتكلم وأن الذي يتكلم ليس حكيما؟ وإذا سمح لي طيش الصبا أن أسألك سؤالا، فهل يمكن أن أتجاوز عتبة باب أسرارك الذي أغلقته بألف مزلاج ومنعت عنه الأيدي والأقدام والآذان؟ أقصى ما أقدر عليه أن أداعب رفيقنا الأخرس السمين الذي لا يعنيه إلا البحث عن العشب الأخضر واجترار صمته المختلف عن صمتك.
وأهتف بالثور الواسع العينين الذي أخذ قسطه من الراحة وراح يرسل نظراته الرخية الخرساء إلى الأفق البعيد: هيا هيا، الطريق ما زال طويلا، وأتجاسر على توجيه كلامي إلى المعلم الذي بدأ يستعد للرحيل: أليس كذلك يا معلمي؟
ويأتيني صوته الخارج من مغارة حلقه وصدره الضيق النحيل: نعم يا ولدي، طويل هو وبلا نهاية. وأعود للسؤال دون أن أتهور بالاستفسار إلى أين أو متى نصل فيقول: طويل هو وعميق بلا قرار. استطعنا أن نسميه ما كان هو الطريق، لو أمكننا أن ندل عليه ما كان هو الطريق الأبدي، وبغير أن أفهم شيئا كما عودني المعلم وعودته أقول ضاحكا: لكننا على كل حال على الطريق! ويقول وهو يتكئ علي ويسند ذراعه إلى كتفي قبل أن يعتلي ظهر الثور المستكين: من يتبع الطريق يصبح هو الطريق، من يهتدي بفضيلته يصبح هو والفضيلة شيئا واحدا، ومن يضيعه يصبح هو والضياع شيئا واحدا، وأداري جهلي أمام الكلمات الملغزة التي تتردد في سمعي كأصوات أرواح غامضة ترقص في صندوق مقفل: سنتابع مهما كانت مشقة الطريق، ويستدير بقامته النحيلة: إذا تعبت فقل لي. وأواصل ضحكي وأنا أدفع الثور وأصيح به: شي، شي. وأنا أقول لك الآن ما سمعته منك مرة: إذا كان الطريق طويلا ولا نهاية له، فهو وحده الذي يمنح القوة والكمال.
نتابع السير على الدروب الوعرة الضيقة وفي الفيافي الواسعة المجدبة إلا من الأعشاب والأشواك، نجتاز الطرق الصاعدة بين الجبال ونهبط المنحدرات الخطرة إلى الوديان، نمر على القرى المتناثرة ونعبر الجسور الخشبية الهشة الممدودة فوق الجداول والأنهار الصغيرة ونحيي الرعاة واللصوص والمهربين والهاربين من الشرطة والحراس، وتمتلئ آذاننا بنباح الكلاب وعواء الذئاب وثغاء الشياه والحملان والماشية ونرد بأدب على حراس الحدود والبوابات، وحين يهلكنا التعب وتحن مفاصلنا وعظامنا إلى الراحة نأوي إلى مكان ظليل ونربط الثور إلى جذع قديم وننام. ما أكثر ما فتحت جفني فجأة لأجد المعلم العجوز يرمقني كأم تراقب طفلها الرضيع، فإذا التقت عيوننا قال وهو يبتسم ويلف عباءته حول ظهره وصدره: هكذا الحكيم الكامل يا بني، فكمال من يجمع الفضيلة في نفسه، أشبه بكمال طفل حديث الولادة، وأفرك عيني وأتمطى وأنا أتلفت حولي: هل أحسست بخطر يا سيدي؟! فيقول وابتسامته لا تفارق شفتيه الجافتين ولا وجهه الصخري المملوء بالتجاعيد: الوحوش لا تعتدي عليه، والجوارح لا تنقض عليه، من يلازم الطريق يبقى في أمان. إن سقط جسده لا يتعرض لخطر.
وأثبت بصري في وجهه الطيب وأستقبل موجات الحنان المنسكبة منه على الرغم من السهر والصمت والشحوب، ثم أغمض عيني إلى الفجر وأنا أتمتم في السر بما سمعته منه مرة وهو يتحدث مع أمي: من يكرم معلمه، يكرمه الطريق، ومن لا يكرم معلمه، فقد ضل إلى أبعد حدود الضلال، حتى ولو كان أكبر العلماء. •••
كيف أحكي قصتي معه وهي لا تعدو بضع خطوات على الطريق؟ ماذا أذكر منها وماذا أدع للتاريخ أو النسيان؟ شي، شي، أيها المتخم الثقيل الكسول! ليتك تدعو السماء أن تفتح كوة ضئيلة في رأسك المظلم المحاصر بالغياب والغباء لتعرف من هو الحكيم الذي يمتطي ظهرك وأحيانا يربت على رأسك وعنقك وشعرك كطفل وديع!
Unknown page