وقد كنت عندي تحب الستر فاستتر الستر تبصر من حولي فقلت لها: غطى هواك وما ألقى على بصري وقالت: كل ما ترى حولي من الجوار أحرار إن كان ٨٧ هذا الكلام خراج عن قلب سليم قط حكي عن أحمد بن أبي عثمان الكاتب أنه صديقًا لأبي الفضل عبد الغفار الأنصاري فعشق أحمد جارية لأم جعفر اسمها نعمي وهام بها فأطلعه على سره ووصفها له فعشقها عبد الغفار الأنصاري فأعتل علة طويلة فاتصل خبره بأم جعفر وظنت أن به علة فوجهت إليه طبيبًا فأنشد:
أرسلت أم جعفر لي طبيبًا ... لشكائي فضل علم الطبيب
ودوائي واصل دائي لديها ... في يدي شادن غرير ربيب
خبروها بأن نعمي دوائي ... كي تداوي مريضها عن قريب
فسمعت أم جعفر الآبيات وسألت عن قصته فلما وقفت عليها وهبته الجارية وهجر أحمد عبد الغفار وقال جعلتك موضعًا لسري فأفسدت علي والمفاسد المترتبة على إفشاء السر إلى الغيرة كثيره ولهذا قاال أبو العلاء المعري:
فظن بسائر الإخوان شرًا ... ولا تأمن عليّ فؤادًا
وقال الصاحب محي الدين الجزري من رسالة فواعجبًا كيف لا يتفطن من لا اسمية ولا ينشق لكثرة ما أحوم حول القول فيه ولا أوفيه أن شرحت فاضت نفوس فضلًا عن عيون وترامت إلى مهاوي الإثم الظنون ولو ابديت بعضه أخاف أن يفطن الناس وأن افضت فيه أخشى أن لا يسعه قرطاس.
ومن أحسن ما سمعه في كتمان السر قول النابغة.
وكان الإمام علي ﵁ يتمثل به وهو:
لا تفش سرك لا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحًا
فإني رأيت وشاه الرجال ... لا يتركون أديمًا صحيحًا
وكتب بهما عبد الملك بن مروان إلى الحجاج وكان قد استكتمه أمرًا في كتاب كتبه ليه فظهر وقال عمرو بن العاص ما استودعت أحدًا سرًا فأفشاه فلمته لأني كنت أضيق منه صدرًا به حين استودعته أخذه الشاعر فقال:
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسهفصدر الذي يستودع السر أضيق
وقال آخر:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرها ... فسرك عند الناس أفشي وأضيع
وقال أبو جعفر الشطرنجي:
فلا تخبر بسرك بل أمته ... وصير من حشاك له حجابًا
فما أودعت مثل النفس سرًا ... ولا أغلقت مثل الصدر بابًا
وحكى الماوردي أن عبد الله بن طاهر تذاكر الناس في مجلسه حفظ السر فقال:
ومستودعي سرًا تضمنت ستره ... فأودعته من مستقر الحشى قبرا
فقال ابنه عبد الله وهو صبي وأحسن ما شاء.
وما السر في قلبي كثا وبحفرة ... لأني أرى المدفون ينتظر الحشرا
ولكنني أخفيه حتى كأنني ... من الدهر يوما ما احطت به خبرا
وقال آخر:
يا ذا الذي اودعني سره ... لاترج أن تسمعه مني
لم أجره بعد في خاطري ... كانه ما مر في اذني
وقال بشار:
لأخرجن من الدنيا وحبكم ... بين الجوانح لم يعلم يه أحد
وقال طلحة بن أبي بكر:
لا تظهرن محبة لحبيب ... فترى بعينيك منه كل عجيب
أظهرت يومًا للحبيب مودتي ... فأخذت من هجرانه بنصيب
قيل أسر رجل إلى رجل حديثًا لما فرغ قال: أحفظته. قال: بل نسيته وقال ابن المعتز كلما كثرت خزان الأسرار زاد ضباعًا ومن كلام الحكماء احفظ ذهبك كما تكتم مذهبك ومنها مقتل الرجل بين فكيه. ومن كلام القاضي الفاضل وأمت الأسرار في قلبك والحد موتاها في جنبك فقبيح بك أن يرى لك سر إلا ربك. ووصف أعرابي قومًا فقال: سيوفهم آفات الأعمار وصدورهم قبور الأسرار وما أحسن قول ابن مماتي من أبيات:
وضاق علي السجن حتى كأنني ... حللت به للضيق في صدر محنق
فياليتني كالدمع في جفن عاشق ... فأخرج أو كالسر في صدر أحمق
وقال العباس بن الأحنف.
باخ دمعي فليس يكتم سرًا ... ووجدت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي ... فاستدلوا عليه بالعنوان
الباب الثامن
مغالطة الحبيب
واستعطافه وتلافي غيظه وانحرافه
1 / 37