قال الشيخ شسم الدين بن قيم الجوزية وهذه أيضًا غيرة فاسدة وغاية صاحبها أن يعفى عنه وأن بعد ذلك من سطحاته المذمومة وأن يعد في مناقبه وفضائله أن يقال له أتحب أن ترى حبيبك فيقول لا فلا ورؤيته أعلى نعيم الجنة وهو ﷾ يحب من عبده أن يسأله النظر إليه وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان من دعائه اللهم أني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وقول هذا القائل أنزه ذلك الجمال عن نظر مثل من خدع الشيطان والنفس وهو شبه ما يحكي عن بعضهم أنه قيل ألا تذكره فقال أنزهه أن يجري ذكره على لساني وقد وقع بعضهم في شيء من ذلك فلاموه فأنشد:
يقولون زرنا واقض واجب حقنا ... وقد أسقطت حالي حقوقهم عني
إ ذا هم رأوا حالي ولم يأنفوا إليها ... ولم يأنفوا مني أنفت لهم مني
وبعضهم من ترك الحج غيرة على بيته أن يزوره مثله وقد لمت شخصًا على ترك الصلاة.
فقال لي أني لا أرى نفسي أهلًا أن أدخل بيته فأنظر إلى تلاعب الشيطان بهؤلاء وأما الغيرة على المحبوب من الآدميين فلنا فيها ضروب وحسنات غالبها ذنوب فمنهم من يغار على المحبوب من النسيم أذاهب أو سماع أنه في الدرب:
أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذار أو خوفًاتكون لحبة
وقال آخر:
تغار من ألطيف الملم حماتها ... ويغضب من النسيم غيورها
وقال ابن الأثير في المثل السائر: سافرت إلى الشام سنة سبع وثمانين وخمسمائة فدخلت مدينة دمشق فوجدت جماعة من أربابها يلهجون بيت من الشعر لإبن الخياط وهو:
أغار إذا آنست في الحي البيت المتقدم
فقلت لهم هذا البيت مأخوذ من قول أبي الطيب المتنبي:
لو قلت للدنف المشوق فديته ... مما لا به لاغرته بفدائه
والمتنبي أخذه من قول العباس ابن الأحنف:
لم ألق ذا شجن يبوح بحبه ... ألا حسبتك ذلك المحبوبا
حذار عليك وإنني بك واثق ... أن لا ينال سواي منك نصيبا
ومنهم من يلحق في الغيرة يومه بأمسه ويغار على المحبوب من كلام نفسه كما قال البحتري:
إني لأحسد ناظري عليكا ... حتى أغض إذا نظرت إليكا
وأراك تخطر في شمائلك التي ... هي فتنتي فأغار منك عليكا
ولو استطعت منعت لفظك غيرة ... كي لا أراه مقبلًا شفتيكا
خلص الهوى لك واصطفتك مودتي ... حتى أغار عليك من ملكيكا
ومنهم من يغار عليه ... من أزراره ولبس إزاره
أرى الأزرار على ليلى فأحسده ... إن الأزرار على ما ضم محسود
قلت ولهذا البيت حكاية لطيفة وهي ما حكي عن الحسن بن زيد أمير المدينة أنه قال يومًا لأبي السائب وكان قد جمله وكساه فكان يركب معه في موكبه ويسلم على النساء إذا مر بهن فنهاه الأمير عن ذلك فسار معه يومًا وعليه قلنسوة ففعل كعادته فأنشده الأمير: أرى الأزرار على ليلى البيت. فقال له أبو السائب بأبي أنت وأمي. من الذي قال هذا البيت. فقال: قيس فتخلف أبو السائب عن مسايرته ثم لحق ولا قلنسوة عليه. فقال له الأمير: أين القلنسوة. قال: تصدقت بها على الشيطان الذي ألقى هذا اليبت على لسان قيس. ومنهم من يغار عليه من ارتشاف السلاف كما قال كشاجم:
وعذبني قضيب في كثيب ... تشارك فيه لين واندماج
أغارا إذ أدنت من فيه كاس ... على در يقبله زجاج
وأشفق إن دنا المصباح منه ... على بدر يقابله سراج
أخذه المتنبي فقال في ممدوحه ... أغار من الزجاجة حيت تجري
على شفة الأمير أبي حسين وقد عيب عليه ذلك لكونه خاطب ممدوحه بما تخاطبه به المليحة ومنهم من ينزل نفسه منزلة الأجنبي فيغار على المحبوب من نفسه كما قال أبو تمام:
بنفسي من أغار عليه مني ... وأحسد مقلة نظرت إليه
ولو ان قدرت طمست عنه ... عيون الناس من حذري عليه
حبيب بث في جسمي هواه ... وأمسك مهجتي رهنًا لديه
فروحي عنده والجسم خال ... بلا روح وقلبي في يديه
وقال أيضًا:
1 / 33