كل ما يصلح للمو ... لى على العبد حرام
وقعد والده الرشيد يومًا عند زبيدة وعندها جواريها فنظر إلى جارية واقفة على رأسها فأشار إليها أن تقبله فاعتلت بشفتيها فدعا بدواة وقرطاس فوقع فيه قبلته من بعيد. فاعتل من شفتيه. ثم ناولها القرطاس فوقعت فيه:
فما برحت مكاني ... حتى وثبت عليه
فلما قرأ ما كتبت استوهبها من زبيدة فوهبتها فمضى بها وأقام معها أسبوعًا لا يدر مكانهما فكتبت إليه زبيدة:
وعاشق صب بمعشوقه ... كأنما قلباهما قلب
روحاهما روح ونفساهما ... نفس كذا فليكن الحب
وحدث أبو جعفر قال بينما محمد ابن زبيدة يطوف في قصر له إذ مر بجارية له سكرى وعليها مطرف خز وهي تسحب أذيالها من التيه فراودها عن نفسها فقالت يا أمير المؤمنين إنك قد هجرتني مدة ولم يكن عندي علم بموافاتك فانظرني الليلة حتى أتهيأ للقياك وآتيك في غد فلما أصبح انتظرها فلم تجئ فقام ودخل عليها وسألها انجاز الوعد. فقالت: يا أمير المؤمنين أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار، فضحك وخرج من مجلسه فقال: من بالباب من الشعراء فقيل له مصعب والرقاشي وأبو نواس فأمر بهم فدخلوا فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعرًا يكون آخره كلام الليل يمحوه النهار فأنشأ الرقاشي يقول:
متى تصحو وقلبك مستطار ... وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركتك صبا مستهاما ... فتاة لا تزور ولا تزار
إذا استنجزت منها الوعد ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال مصعب:
أتعذلني وقلبي مستطار ... كئيب لا يقرّ له قرار
بحبّ مليحة صادت فؤادي ... بألحاظ يخالطها احورار
ولما مددت يدي إليها ... لألمسها بدا منها نفار
فقلت لها عديني منك وعدًا ... فقالت: في غدمنك المزار
فلما جئت مقتضيًا أجابت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو نواس:
وخود أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار
وقد سقط الردى عن منكبيها ... من التخميش وانحل الإزار
وهز الريح أردافًا ثقالا ... وغصنًا فيه رمان صغار
هممت بها وكان الليل سترًا ... فقام لها على المعنى اعتذار
وقالت في غد فمضيت حتى ... أتى الوقت الذي فيه المزار
وقلت الوعد سيدتي فقالت ... كلام الليل يمحوه النهار
فقال له: ويلك أكنت مطلعًا علينا أو ثالثنا في القصر. فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ولكن نطرت إليك فعرفت ما في نفسك وعبرت عما في ضميرك فأمر له بأربعة آلاف درهم ولصاحبيه مثلها وذكرت هنا ما قلته في ابن نهار:
أقول لموعدي زوروا بليل ... بدا كالبدر فيه ثم غابا
كلام الليل يا ابن نهار زيد ... إذا طلعت عليه الشمس ذابا
وقلت:
أتبيت ريان الجفون من الكرى ... وأبيت أسهر فيك مع سماري
وتلوم إن أصبحت في يوم الجفا ... مجنون ليلى فيك يا ابن نهار
حكي أنه كان للمتوكل غلام اسمه شفيع وكان من أحسن الفتيان فكان المتوكل يجن به جنونًا فأحب يومًا أن ينادم حسين بن الضحاك وأن يرى ما بقي من شهرته وكان قد أسن فأحصره فسقاه حتى سكر وقال الشفيع: اسقه فسقاه وحياه بوردة وكانت على شفيع ثياب موردة فمد حسين يده إلى ذراع شفيع فقال المتوكل: أتخمش أخمص قدمي بحضرتي فكيف لو خلوت به ما أحوجك إلى الأدب وكان المتوكل قد غمز شفيعًا على العبث به فدعا بدواة فكتب:
وكالوردة الحمراء حيّا بزهرة ... من الورد يمشي في قراطق كالورد
تمنيت أن أسقي بعينيه شربة ... تذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله دهرًا لم أبت فيه ليلة ... خليًا ولكن من حبيب على وعد
ثم دفعها الشفيع فأعطاها للمتوكل فاستملحها وقال: أحسنت يا حسين ولو كان شفيع ممن تجوز هبته لوهبته لك ولكن بحياتي يا شفيع إلا كنت ساقية بقية يومنا وأمر له بمال كثير وكان شفيع المذكور يكتب على طرز قبائه الأيمن:
بدر على غصن نضير ... شرق الترائب بالعبير
1 / 21