113

Dirasat Fi Madhahib Adabiyya Wa Ijtimaciyya

دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية

Genres

وحجر الغزالي على التعليم بهذه القيود لا يحسب من الحجر الديني على العقول كما وهم بعض المتأخرين؛ لأن مذهبه في ذلك مذهب العارفين بعقول الناس من قديم الزمن، وفي طليعتهم سقراط أستاذ أفلاطون ومن بعده أرسطو وسائر حكماء اليونان، فقد كان سقراط ينكر الكتاب؛ لأنه علم مفتوح لمن يدرك ومن لا يدرك، ويؤثر التعليم بالاختصاص والانتقاء والاستبراء، ولم يكن بين الغزالي وفلاسفة الإسلام فرق يذكر في جوهر هذا المذهب؛ لأن أولئك الفلاسفة كانوا يدينون بقصر العلم على أهله وتخصيصه بمن هو قادر عليه، ونحسبهم على صواب فيما اعتقدوه من «إلجام العوام عن هذا المقام»، ولو كانت هناك وسيلة التمييز العامي الذي سيظل عاميا طول حياته لوجب أن يمتنع العلم عن العوام ولا يسمح لهم منه إلا بما هم مضطرون إليه قادرون على فهمه، ولكن المحظور في هذه المسألة آت من صعوبة التمييز بين العامي بحكم البيئة والعامي بحكم الطبيعة التي لا تقبل التبديل، ورب رجل من سواد الناس يفتح له باب العلم فلا يقف فيه دون أقصى الغايات.

وإذا كان الغزالي قدوة الأساتذة الأولين، وهم المتصوفة وعلماء الكلام، فلعل الفارابي هو قدوة الأساتذة الآخرين، وهم الفلاسفة وعلماء الطبيعيات والرياضيات، وهو كالغزالي في تحريمه العلم الرفيع على سفلة الناس، وقد خطر له أن أرسطو كان يتعمد «الإغماض» تعمدا لثلاثة أغراض، وهي: استبراء طبيعة المتعلم هل يصلح للتعليم أو لا يصلح، وأن تبذل الفلسفة لمن يستحقها لا لجميع الناس، وأن يروض الفكر بالتعب في الطب.

وقد استوجب الفارابي على طالب العلم الرفيع أو الحكمة الخاصة دروسا عددها «فيما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة»، ومنها الهندسة والطبائع والمنطق ورياضة النفس على حب الحق والأنفة من الشهوات، ومتى استعد بهذه العدة تهيأ له أن يبلغ «الغاية التي يقصد إليها في تعليم الفلسفة، وهي معرفة الخالق تعالى وأنه واحد غير متحرك، وأنه العلة الفاعلة لجميع الأشياء، وأنه المرتب لهذا العالم بجوده وحكمته وعدله، وأما الأعمال التي يعملها الفيلسوف فهي التشبه بالخالق بمقدار طاقة الإنسان.»

ولسنا نستوعب «برنامج التعليم» كله عند العرب بما قدمناه على وجه الإجمال.

ففي هذا البرنامج المطلق برنامج «مخصوص»؛ لأنه مقيد بمطالب القصور والبيوتات من أعلى تلك المطالب إلى أدناها، وأقرب ما نشبهه به في عصرنا الحاضر هو «الدرس الخصوصي» الذي يستأثر به العلية ومن هم في حكم الحاشية والأعوان.

ويدخل في هذا البرنامج تعليم الملوك والأمراء والكبراء، وهو فن من التعليم له شروط ومؤهلات جمع زبدتها شهاب الدين بن محمد بن أبي الربيع في الكتاب الذي ألفه للخليفة المعتصم بالله باسم «سلوك المالك في تدبير الممالك»، وجاء فيه بما ينبغي أن يتعلمه الرئيس لسياسة نفسه وسياسة الشرفاء والرعية والعبيد، وقسم العمل على ثلاثة أنحاء، وهي: «سياسة الإنسان نفسه وبدنه، أي: سيرته في نفسه بالأعمال الصالحة، وسياسة المنزل، أي: سيرته مع أهله وماله وولده وعبيده، وسياسة أهل نوعه، أي: سيرته التي لا يستغني عنها ما دام حيا ...» ثم أحصى فيه الصفات التي تطلب في الوزير مثلا، وهي: «حسن العلم بالدين، وحسن العقل، والحلم، وحلاوة اللسان، وبلاغة القلم، وكرم الأخلاق، وسهولة الحجاب، واعتقاد الخير، والصلاح، وقلة اللهو، وكتمان السر، وصحة الجسم، وجودة التفكير ...»

وقد كثر عدد المعلمين الذين يستجيبون إلى مطالب القصور والبيوتات من أعلاها إلى أدناها، فكان منهم من يعلمون الجواري والوصفاء ويخرجونهم في فنون الأدب والموسيقى والمحاضرة وتربية الأبناء، ويغالون بأثمانهم على قدر حظهم من العلم والتدريب، وكان منهم معلمو الصناعات البيتية والدقائق الفنية التي لا ترام في غير القصور والبيوتات.

وأهم من هؤلاء جميعا أولئك المعلمون الذين يستعدون لتخريج أبناء السراة في كل ضرب من ضروب المعرفة التي تكمل بها مروءة الشرفاء، وكان لهؤلاء المعلمين فن يشبه فن التربية الحديثة والنظم «البداجوجية» فيما يساس به الطفل، وما يباح له وما يحرم عليه، وما يشجع به على التعليم، ويبسط له بعد إيجاز أو يفصل له بعد اقتضاب، ويبدو لنا أن ما كتب عن فن التدريس باللغة العربية إنما كتب لهذا الطراز من المعلمين «الخصوصيين»؛ لأن طبقة المعلمين في المكاتب الشعبية لم ترتفع إلى هذا المقام من التخير والاصطفاء، ولأن العلماء أصحاب الحلقات لم يكن من شأنهم تعليم البيان، وقد وفى شرح هذا الفن في كتاب الباحث الفاضل الدكتور «أحمد فؤاد الأهواني» عن «التعليم في رأي القابسي» فهو أفضل المراجع العربية في هذا الباب.

وخلاصة ما يقال عن التعليم عند العرب أنهم كان لهم تعليم يغنيهم ولا يقصرون به عن شأن حضارتهم، وأن منه ما هو أنفع من تعليمنا الآن، ونعني به تعليم الحلقات وتعليم الاصطفاء والاستبراء، فلولا أن تعميم التعليم فريضة من فرائض العصر الحاضر لكانت الحلقات أنفع من الجامعات، وكان استبراء المريدين أنفع من التخصص على النظام الحديث؛ لأن التعليم قبل كل شيء هو اتصال روح بروح واقتباس حياة من حياة، وليس هذا على أتمه بميسور مع التعليم الذي لا محيص فيه من بعض الآلية في النظام، وفي كل آلية جور على حرية الإنسان.

الفصل السادس والعشرون

Unknown page