Dirasat Falsafiyya Islami
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Genres
تتولد العقلية الانقلابية، وتغيير المجتمعات عن طريق الصفوة الطليعية المؤسسة، الجيل القرآني الجديد، القادر على تجنيد الأمة، ومواجهة قوى البغي والعدوان، والدفاع عن حاكمية الله لتقويض حاكمية البشر. يحدث الانقلاب في حياة الفرد أولا ثم حياة المجتمع ثانيا، فالتغير انقلاب، والثورة انقلاب على ما هو واضح أيضا في اللغة الأوردية. وبالتالي يتم العمل في الخفاء، سرا لا علانية، تحت الأرض أكثر منه فوق الأرض، بجهاز سري شبه عسكري، سرعان ما تكتشفه السلطة القائمة فتقضي عليه بقوة الجيش والبوليس المسلح. ولا ضير من استعمال العنف المسلح والاغتيال السياسي لتبديل الزمرة الحاكمة وإحلال الصفوة المؤمنة محلها. (7)
ويتم ذلك كله باسم الله دفاعا عن حقه، وتأكيدا لحاكميته، وتنفيذا لإرادته وامتثالا لطاعته، وطمعا في أجره وثوابه. ولا يتم باسم الإنسان، دفاعا عن حقوقه وتأكيدا لسلطانه وتحقيقا لمصالحه العامة حتى يعيش في دنياه حرا كريما. وبالتالي غابت النظرة الإنسانية، ونقصت الرحمة، وظهرت القسوة. والله يبرر شعوريا عند دعاة التراث سلوكهم؛ لأنهم يدافعون عن الشرع باسمه. انزوى الإنسان وخاف، وتقلصت قواه، وتجمدت طاقته وضغطت طبيعته. فولد الكبت والحرمان مظاهر التعويض والإشباع، وكأن الله ليس غنيا عن العالمين وفي حاجة إلى دفاع، وكأن الله لم يكرم بني آدم في البر والبحر ولم يجعله سيد العالمين. (8)
ويسود التعصب والتشنج، ويرفض الحوار مع الآخرين حتى انغلق أصحاب التراث على الذات وأسقطوا الآخرين من الحساب، فأصبحوا نرجسيين، يرون أشخاصهم وذواتهم في مرآة الآخرين. هم الحق وما سواهم الباطل، وبالتالي استحالت الوحدة الوطنية وانقسمت الأمة إلى فريقين متصارعين متعارضين، خصمان يكفر أحدهما الآخر، ويحمل كل منهما السلاح في وجه الآخر. وتستعملهما الدولة كل فريق ضد الآخر، فيحدث الشقاق بين قوى المعارضة، وتتوقف عملية التغير الاجتماعي، وتكون الخطورة أعظم إذا ما انشق دعاة التراث على أنفسهم، ودبت الخلافات فيما بينهم، كل فريق يدعي أنه على حق وصواب وما دونه الباطل. (9)
وتسهل المعارك الشكلية حين يصعب تغيير المضمون، فيظهر التغير على السطح في مظاهر اللباس خاصة وصورة البدن، مثل إطالة اللحى، والتمتمة بالشفتين والحجاب، والصلاة وإقامة الشعائر والطقوس؛ بحجة الاستعداد وعدم التسرع، والإعداد للمعارك القادمة، فيبقى الواقع الاجتماعي لا يتغير، وتثار المشاكل الوهمية في مجتمعات التنمية مثل فصل الذكور عن الإناث، أو التجمهر لإقامة مصلى، ولا يجد الضنك والبؤس والفقر والجوع من يتصدى له، ويرتفع المترفون، وتستسلم الأمة، ويضيع استقلالها على رائحة العطر ومعارض كتب التراث ومعارك الحجاب. (10)
وسرعان ما تجد القوى المحافظة في النموذج التراثي خير دعامة لإيقاف حركة التغيير الاجتماعي، فتتمسك بالقديم، وتحافظ على الأصول، وبالتالي تجد شرعيتها في التراث بعد أن فقدتها في الواقع، وتتأصل في المبدأ وتختفي وراءه وتستعمله كقناع يخفي التسلط في الواقع ونهب ثروات الأمة، لذلك عم النموذج التراثي في النظم المحافظة، وأصبح دعامة الإقطاع العشائري والحكم القبلي، والنظام الأسري، وتحولت قيم الأصالة والصلابة والإيمان إلى موانع للتغير الاجتماعي، وأصبحت القيم القديمة خير دعامة للنظم المحافظة. ولا تجد قوى التغير الاجتماعي لديها أية وسيلة لمواجهة القديم أو النظام القائم وإلا اتهمت بالخروج على المجتمع، خاصة إذا كانت المحافظة هو التيار الغالب على ثقافة الجماهير.
ثالثا: عيوب النموذج اللاتراثي
وفي مقابل النموذج التراثي، وكرد فعل عليه يظهر النموذج اللاتراثي. يقطع الصلة بالقديم لبناء الجديد على أسس من العلم والمعرفة وبالجهد الإنساني الخالص بعد اكتشاف عورات التراث وعدم ثباته أمام العلم الجديد، فالتقدم نحو الجديد مرهون بالتخلص من القديم، وهو درس عصر النهضة الأوروبي في القرن السادس عشر خاصة وحتى الآن. وكما ظهرت «البدائية» كتجمعات محلية ظهرت أيضا الحركات التحديثية العلمية العلمانية على النمط الأوروبي كتجمعات فوقية
Super-Groups
مفروضة على مجتمعاتنا من الخارج. وأهم عيوب النموذج: (1)
يحدث تغيير في السطح لا في العمق، وفي العرض لا في الجوهر، وفي الأطراف لا في المركز. فتتغير مثلا الحروف الوطنية في اللغة إلى الحروف اللاتينية، كما يتغير اللباس الوطني إلى اللباس الأوروبي، والموسيقى الشرقية إلى الموسيقى الغربية، والمنازل العربية إلى المنازل الحديثة، والمدارس الوطنية إلى المدارس الأجنبية، واللغة العربية إلى اللغات الأوروبية، وبدلا من أن تكون البلاد جزءا من الشرق تصبح قطعة من أوروبا، وكان التحديث هو ترك الأنا وتقليد الآخر، والقضاء على الهوية والوقوع في التغريب، وكما يقول الشاعر: «لبسنا قشرة الحضارة، والروح جاهلية.» (2)
Unknown page