Dirasat Falsafiyya Islami
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Genres
وما زال الجميع ينتظر المخلص. وتلك مسئولية أساتذة الفلسفة أولا وقبل كل شيء بوعيهم بالتراث وبرؤيتهم لأحداث العصر، بفكرهم كعلماء وبممارستهم كمواطنين. وقد تكون تراثنا القديم بفضل علماء الأمة الذين أسسوا المدارس، وصاغوا المذاهب، وشكلوا العقائد. إن تحقيق الوحدة العضوية بين العالم والمواطن، بين حق العلم وواجب المواطنة هو السبيل إلى الجمع بين التراث والفلسفة وحال الأمة.
ثم إنها مسئولية الطلاب ثانيا الذين يشكلهم الأساتذة، سواء في الدراسات العامة أو في الدراسات العليا، كعلماء ومواطنين يجمعون أيضا بين حق العلم وواجب المواطنة، يتأثرون بهم ويردون عليهم، ويكونون مذاهب بديلة، في حوار صريح وعلني. فقد نشأت الفلسفة كما نشأ التراث كله نتيجة لحوار بين المذاهب وخلاف بين العقائد. فالكل راد والكل مردود عليه. وما من حجة إلا ولها حجة مناقضة، وما من موقف إلا وله موقف بديل، ليس الطلاب نسخة منا، ولكنهم تطوير لنا، وزيادة علينا، أو قلب وتغيير لفكرنا رأسا على عقب.
وإنها لمسئولية الدولة ثالثا أن تقف على الحياد التام في الخلاف الفكري بين العلماء وفي حرية الاختيار بين المذاهب. فالسلطة ليست حجة، والفكر ناصح والسلطة سامعة. ليس للسلطة مفكروها ولكن المفكرين يخاطبون الناس الذين يختارون ممثليهم، ويبايعون أئمتهم، ويعقدون على ولاة أمورهم، فالإمامة عقد، وبيعة، واختيار.
التراث والتغير الاجتماعي1
أولا: أنواع المجتمعات البشرية
بالنسبة إلى تراثها
تمتاز المجتمعات البشرية على غيرها من المجتمعات الحيوية بأنها مجتمعات تراثية تحتفظ بتاريخها الماضي وتدون آثارها، أو تحفظه شفاها ثم ترويه الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة. ومن هنا ارتبط تاريخ الإنسانية بعلم النقوش والآثار والحفائر كما حفظت حياة المجتمعات في السجلات والحوليات، وخلد الملك على حوائط المعابد والمقابر. فإذا كانت التجمعات الحيوانية تحفظ تجاربها السابقة في سلوكها وتعلمها من المحاولة والخطأ، فإن التجمعات البشرية تحفظ هذا التاريخ وتدونه كتابة. التجمعات البشرية هي إذن وحدها التي لها تاريخ، وبالتالي كان تاريخها سجل حياتها ومرآة روحها، وهو ما أكدته فلسفة الحضارات البشرية.
والمجتمعات البشرية بالنسبة إلى تراثها على ثلاثة أنواع: الأول ما يسمى بالمجتمعات «البدائية» وهي المجتمعات التراثية التي يكون فيها تراثها ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ويكون دينها وفنها وفلسفتها وأسلوب حياتها، ويكون بديلا عن واقعها وفكرها ويقوم مقام عملها ومعرفتها. وفي هذه المجتمعات لا يحدث تغير اجتماعي قصدي، بل يحدث تقدم في أساليب الحياة العملية طبقا للمحاولة والخطأ، أو إيهاما بوسائل السحر وأساليب الخرافة.
والثاني ما يسمى بالمجتمعات «المدنية» أو المجتمعات الحديثة أو المجتمعات الغربية المتقدمة، وهي المجتمعات اللاتراثية التي كان فيها تراث يوما ما يكون ماضيها وحاضرها ومستقبلها ثم تكشف لها تعارض بعض جوانب هذا التراث مع العلم الحديث والعقل البسيط أو الحياة المدنية العصرية التي تقوم على العقد الاجتماعي الحر، فنفدته أولا وتركته ثانيا، ولم تستبق منه إلا ما اتفق مع المعرفة الجديدة والعلم الحديث والنزعة الإنسانية بعد معركة فاصلة بين القدماء والمحدثين، بين أنصار القديم وأنصار الجديد.
والثالث ما يسمى بالمجتمعات «النامية» أو المجتمعات المتحررة حديثا وهي المجتمعات التي ما زالت في مرحلة انتقال بين القديم والجديد، تحاول الخروج من التراث إلى الواقع والذي تثار فيه قضايا الأصالة والمعاصرة، وتعرض عليه النماذج التراثية واللاتراثية، ويتأرجح بين التقليد والتجديد، ويتجاذبه تيارا الانقطاع والتواصل في هذه المجتمعات، وهي مجتمعاتنا التي لم تحسم فيها القضية بعد والتي تثار فيها قضية «التراث والتغير الاجتماعي». فهي مجتمعات تراثية تشارف على العصر بعد أن جابهت الاستعمار وحققت الاستقلال الوطني وبدأت التنمية الاجتماعية الشاملة.
Unknown page