Dirasat Falsafiyya Islami
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Genres
ليس الفكر الإسلامي فكرا صوريا يقوم على شعارات لا مضمون وراءها، ولكنه فكر يقوم على تحقيق أهداف إنسانية هي مقاصد الشريعة أي الضروريات الخمس: المحافظة على الحياة، والعقل، والدين، والعرض، والمال بإجماع فقهاء الأمة. فالحياة قيمة مطلقة، والمحافظة عليها واجب ديني، وفرض إلهي، ضد الجوع وسوء التغذية وحوادث الطريق وحروب الإبادة، والاغتيال والاعتقال. وكذلك المحافظة على العقل واجب شرعي، وبالتالي يستحيل الجهل، والتعتيم والكذب والتشويه والتمويه والخداع، فالعقل أساس التكليف. كما يستحيل إيقاع الناس في الأسطورة والغيب والخرافة والسحر والشعوذة. والمحافظة على الدين أيضا فريضة، والدين هنا أي الحقيقة والمبدأ العام الشامل الذي ينتسب إليه الإنسان بعيدا عن العنصرية والقومية والقبلية والطائفية، وبعيدا عن التردد والشك واللاأدرية وتغير القيم تبعا لتغير الظروف، وإيثار النفعية الخالصة والبراجماتية الرخيصة. والمحافظة على العرض تعني المحافظة على جميع القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية العامة المتمثلة في عرض الإنسان رمز شرفه وكرامته وحرمته. فحرية الإنسان جزء من عرضه، وكرامته وشخصيته المستقلة وحياته الخاصة أيضا من عرضه بعيدا عن مظاهر الانحلال والتفسخ. أما المحافظة على المال فهو دفاع عن حياة الإنسان المادية وحقه في الكسب والرزق، والمأكل والمشرب والمسكن دون عدوان من أحد عليه، ينهب قوته، ويسرق نتاجه، ويبتز عرقه. هذا هو تطبيق الشريعة الإسلامية وليس مظاهر النفاق الديني عن طريق بناء المساجد دون المدارس، والنداء على الصلوات بمكبرات الصوت منافسة للأغاني الإباحية والتفسخ والانحلال ولخطب القادة والسياسيين وكأن كل ما في الأمر هو حرب الهواء، وإطالة اللحى، ولبس الجلباب، وارتداء الحجاب، فما الفائدة في ظاهر عامر والباطن خراب؟ ومما يساعد على ذلك التفسير «الموضوعي» للقرآن من خلال «المعجم المفهرس» لألفاظه حيث يمكن التعرف على النظرية العامة في الحياة أو العقل أو الدين أو المال أو أي موضوع آخر يمس مصالح الناس بدلا من تقطيعه وتجزيئه في التفسير «الطولي» للقرآن، سورة بعد سورة، وآية بعد آية. (4) الإصلاح في الأرض لا الإفساد فيها
ويمكن الاقتراب من مقاصد الشريعة وهي لب الفكر الإسلامي ليس بالضرورة عن طريق الحكم الإسلامي المباشر وتطبيق الحاكمية وأحكام الشريعة، بل عن طريق الإصلاح في الأرض والنهي عن الفساد، أي الأساس الوضعي للشريعة. وبالتالي تقترب الحركة العلمانية من الحركة الإسلامية، وتتجاوز الحركتان الشعارات إلى المضمون. فكل قضاء على مظاهر الفساد في المجتمع وإصلاح الأرض هو حكم شرعي. وبالتالي على المفكر أن يعرف تماما ما هي مظاهر الفساد الاجتماعي، وما هي مواطن الإصلاح. فالرشوة، والعمولات، والكسب الحرام، والسرقة، والنهب؛ كل ذلك مظاهر فساد وغش. وتقريب الفوارق بين الطبقات واحترام المال العام وصياغة سياسة في الأجور تتناسب مع طبيعة العمل وحده؛ كل ذلك إصلاح في الأرض. فتطوير الواقع نحو الصلاح والأصلح أفضل من هدمه كلية وإعادة بنائه من الصفر، وهي عملية لا يقدر عليها حتى الآلهة. فالإسلام تطوير للجاهلية، وإبقاء على ما لا يعارض العقل والمصلحة. مهمة المفكر الإسلامي أن يعرف جميع مشاكل عصره وأن يرصدها، ويحاول حلها كما كان الإسلام يفعل قبلا في «أسباب النزول» حتى كان الإسلام هو مجموع هذه الحلول للمشاكل المعروضة. لم ينزل القرآن دفعة واحدة بل نزل منجما طبقا للظروف والمشاكل حتى يعيه الناس.
2
النهي عن الفساد في الأرض والإصلاح فيها هو الطريق لنشر الإسلام والتعريف به. بل إن النهي عن الإفساد أهم من الإصلاح لأن الإفساد فساد في الأرض وقضاء على فعل الإصلاح. فالإصلاح تدعيم للدين والإفساد تبديل له.
3 (5) استقلال المؤسسات الدينية
إن صورة الدين في أذهان العامة إنما تأتي عادة من «رجال» الدين، والمؤسسات الدينية. فإذا رأتها لا تقوم بواجبها الديني والوطني، الشرعي والاجتماعي، فإنها تفقد الثقة بها، وتفقد احترامها. إذ تجدها مرة تحلل شيئا إرضاء للحاكم ثم تحرمه مرة أخرى إرضاء للحاكم الآخر. لا تقول الحق بل تبغي رضا الحاكم؛ خوفا من رهبته، أو طمعا في جاهه، أو بحثا عن ماله، حتى أصبح رجال الدين «فقهاء السلطان» أو «فقهاء الحيض والنفاس» أي إنهم أدوات طيعة في يد الحكام أو لا يتعرضون لصالح الأمة ولا يوجهون فكرهم إلى قضاياها الرئيسية. واجب الدولة إذن هو رفع يدها عن المؤسسات الدينية، وإثبات استقلالها الذي كان يدعمه نظام الوقف؛ حتى لا يرتبط رجل الدين في معاشه بالوظيفة أو السلطان. ويمكن ذلك على النحو التالي: (أ)
دور الإمام الرائد في القرية أو في الحي، حيث يتصل بالجمهور خمس مرات يوميا على الأقل يثقون فيه إذا رأوا فيه قدوة وجرأة، وشرفا ونزاهة، مستعدون لطاعته إذا أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، أكثر من أي إطار سياسي أو «كادر» حزبي لا يلتف حوله إلا أنصاره أو الراغبون في المنفعة. (ب)
دور المسجد أيضا في القرية والحي، حيث يلتقي الناس خمس مرات يوميا على الأقل، فهو مكان عامر باستمرار دون ما دعاية. وأكثر عمرانا من أي مركز حزبي أو خلية سياسية. يجد الناس فيه التقوى والصلاح، الخير والمنفعة، الإيمان والعمل. وهو مكان للعلم دون ما حاجة إلى مدارس وتكاليف إضافية وبرامج محو أمية التي غالبا ما تفشل. (ج)
والجماهير موجودة، ومستعدة للعمل ، يسهل تجنيدها. هي الرصيد الطبيعي لأية حركة اجتماعية، حركة تلقائية في مركزها المسجد وفي وسطه الإمام. فلا شكوى إذن من «سلبية» الجماهير التي تعلنها الأحزاب السياسية أو من «غياب» الجماهير، وانعدام ثقلها في الساحة. الجماهير موجودة. وهي جماهير المصلين ، تقع العروش إذا تحركت وتهتز التيجان إذا ما تجندت. (د)
والعقائد أيضا لها دور في تحريك الجماهير وإعطائها تصورات للعالم وموجهات للسلوك، والتوحيد قادر على تحويل جماهير المصلين إلى جند الله يفتحون البلاد، ويحررون الأراضي ويستعيدون مجد الإسلام، ويستردون كرامة المسلمين. والتراث الإسلامي ما زال في قلوبهم يمدهم ببعد حضاري، والتاريخ الإسلامي يعطيهم نماذج وقدوة وسير أبطال، وكأن التاريخ نفسه يعيد سيرته الأولى من جديد. (6) إبطال مظاهر النفاق الديني من أجهزة الإعلام وجهاز الدولة
Unknown page