Dirasat Falsafiyya Gharbiyya
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
Genres
وقد يكون السبب في ذلك أن الحضارة الإنسانية في بداياتها كانت أقرب إلى المعارف منها إلى المناهج؛ فقد كان يهمها تجميع المعارف بصرف النظر عن طريق الوصول إليها. وبتراكم المعارف تنشأ الحضارة البشرية، جيلا بعد جيل، وإضافة بعد إضافة. كانت العلاقة بين الإنسان والطبيعية آنذاك ينقصها التكيف المعرفي بالإضافة إلى التكيف المادي؛ وبالتالي نشأت الحاجة إلى المعارف، أية معارف لملء هذا الفراغ النظري بين الإنسان والطبيعة بصرف النظر عن مصدرها. وكان الغالب على هذه المصادر السحر والخرافة واستدعاء أرواح الموتى، والأساطير والحكمة الشعبية، وهي كلها مصادر للمعرفة لا يقين لها، الغاية منها التكيف المعرفي مع الطبيعة. ثم قام الأنبياء بعد ذلك بالدور نفسه كاشفين عن النبوة كمصدر للعلم، هم وحدهم المتصلون به، وعلى الآخرين أخذ المعارف دون المناهج. ثم تراكمت النبوات ودونت في كتب، من علمها أصبح عالما، وشرحها الشراح، وتراكمت الشروح، ومن علمها أيضا أصبح عالما. وهكذا في بدايات التاريخ البشري كانت للمعلومات والمعارف الأولوية المطلقة على المناهج وطرق الاستدلال.
1
ويشهد التاريخ أن الفلسفة تموت عندما يغيب المنهج، وتتحول الفلسفة إلى معارف موروثة يتراكم بعضها فوق بعض دون طريقة للوصول إليها. ماتت مرتين؛ مرة في العصر الوسيط الأوروبي عندما تحولت إلى موسوعات ودوائر للمعارف؛ ومرة لدينا في تراثنا القديم عندما تحولت أيضا إلى موسوعات ضخمة تضم كل المعارف والعلوم، ويقتصر دور الفيلسوف على التنسيق والربط بينها فتتراكم المعلومات، وتتعدد المصادر، وتحتضن الكنيسة كل ذلك وتنظمها بحيث تكون أكبر دفاع عن العقائد وأقوى دليل على صحتها. ولا يهم أن تنتقل من مصدر إلى مصدر أو أن تعتمد على فيلسوف ثم تغيره إلى فيلسوف آخر مناقض للأول؛ لذلك خرجت المسيحية أفلاطونية مرة لدى آباء الكنيسة ثم أرسطية مرة أخرى لدى توما الأكويني، وداروينية مرة ثالثة عند تيار دي شاردان؛ ومن ثم تحول الدين إلى حضارة، وأصبحت المعارف البشرية هي أساس الدين وفهم العقائد.
2
ولم يختلف الحال كثيرا في تراثنا الفلسفي القديم؛ فقد كانت الفلسفة فكرا موسوعيا يقوم على تجميع المعارف والعلوم وتصنيفها وإعادة ترتيبها وتبويبها حتى دون نسبة المعارف إلى أصحابها والمعلومات إلى مصادرها. فالمعارف مشاع للجميع بل ودون تحقق من صحة النسبة حتى كثر الانتحال والآراء المجهولة المؤلف. فلا يهم إن كان مؤلف «أثولوجيا أرسططاليس» أرسطو أم أفلوطين، ولا يهم إن كان كتاب «التفاحة» من وضع أرسطو أم منتحلا. وكأن الذهن البشري به قوالبه المسبقة وتصوراته للعالم، وما على الفيلسوف إلا ملء الفراغات والبحث عن المضامين البعدية لهذه الإشكالات القبلية. وأكبر نموذج على ذلك «رسائل إخوان الصفاء» وموسوعة «الشفاء» لابن سينا. خرجت الفلسفة أقساما: المنطق والطبيعيات والإلهيات إلى آخر ما وصلت إليه الحضارة البشرية في هذه العلوم؛ لذلك ظلت الفلسفة غريبة على مجتمعها، دوائر منعزلة على هامش الحضارة، نقاطا على المحيط بعيدة عن المركز حتى لقد سمي الفلاسفة المشاءون أتباع أرسطو.
ولا يزال الحال كذلك في جامعاتنا ومعاهدنا، كم من المعلومات يحفظها الطلاب ويضعها الأساتذة في كتب مقررة دون منهج للتفكير أو طريقة في البحث. فالعالم هو الحاوي للمعارف، والحافظ والناقل والمحدث والراوي وليس المخترع أو المكتشف. وإن كثيرا من الاضطراب في حياتنا الفكرية المعاصرة ناشئ من اضطراب في الفكر المنهجي؛ فقد غلب على ثقافتنا المعاصرة إما النقل عن الغرب أو النقل عن القدماء دون ما منهج لتحليل الواقع ومن ثم غاب الإبداع وماتت الفلسفة.
3
ولكن تحيا الفلسفة بالفكر المنهجي، فطريقة وضع السؤال أهم من الإجابة على السؤال، وكما قال القدماء نصف الإجابة في طريقة وضع السؤال. لقد ظلت الفلسفة اليونانية باقية في الفكر البشري لمناهجها التي وضعتها، وليس لعلومها واكتشافاتها ومعارفها. فقد وضع سقراط منهج التهكم والتوليد القائم على السخرية من الخصوم وتوليد الحقائق منهم دون أن يدروا وعلى غير وعي منهم. ووضع أفلاطون المنهج الجدلي، الجدل النازل للانتقال من المثال العقلي إلى العالم الحسي، والمنهج الصاعد للانتقال من العالم الحسي إلى المثال العقلي، وكلاهما يكونان منهجا جدليا رأسيا مزدوجا يجمع بين المثال والواقع، بين المعقول والمحسوس. مما يدل على أن الصراع بين المثالية والواقعية هو في حقيقة الأمر صراع منهجي. ثم جاء أرسطو وأراد البحث عن الصوري والفردي، عن العام والخاص، ووضع المنطق آلة للعلوم كلها؛ لذلك كانت تجد كل محاولة للجمع بين المثالية والواقعية في أرسطو رائدا لها. واتبع السوفسطائيون منهجا آخر، منهج تحليل الألفاظ لمعرفة معانيها الدقيقة منعا للبس والاشتباه، وهو المنهج الذي شاع في الفلسفة المعاصرة بنفس الاسم.
4
ثم حييت الفلسفة من جديد على يد القديس أوغسطين في عصر آباء الكنيسة بالعودة إلى منهج سقراط في الحوار. وأضاف على تحليل الألفاظ تحليل التجارب البشرية للبحث عن دلالاتها وإيجاد المضمون الإنساني للعقائد في الوجود الإنساني ذاته. كما حول الأفلاطونيون المسيحيون الجدل الصاعد عند أفلاطون إلى طريق إلى الله كما هو الحال عند القديس بونافنتير، وحوله الجدليون في العصر الوسيط المتأخر إلى منطق في الإقناع والتبشير ومحاورة الخصوم على ما هو الحال في «المنطق الجديد» عند ريمون الليلي. فاشتدت الحركة الفكرية وازدهرت الفلسفة معلنة بدايات العصور الحديثة.
Unknown page