Dirasat Can Muqaddimat Ibn Khaldun
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
Genres
ابن خلدون لم يرتح لهذا الطلب؛ لأنه كان قرر الخروج من الحياة السياسية بصورة نهائية، والتفرغ إلى الدرس والعلم تفرغا كليا، غير أنه لم ير من الموافق أن يطلع السلطان على ما كان ينتويه في قرارة نفسه؛ فتظاهر بتلبية الطلب، وخرج من تلمسان بحجة الاتصال بالعشائر واستمالتهم إلى خدمة مآرب السلطان، وعندما وصل إلى البطحاء «عدل ذات اليمين إلى منداس»، ولحق بأولاد عريف.
وهؤلاء تلقوه «بالتحفي والكرامة»، وتوسطوا في إبلاغ اعتذاره إلى السلطان، وفي نقل عائلته من تلمسان، وقاموا بهذه الوساطة خير قيام، ثم أنزلوه وعائلته في قلعة ابن سلامة. (8) في قلعة ابن سلامة (1374-1378)
إن انتقال ابن خلدون لهذه القلعة صار بمثابة نهاية النهاية لحياته السياسية.
كانت القلعة شيدت في موقع استراتيجي هام على حافة طنف مرتفع، يطل من عل على السهول المجاورة التي تمتد إلى الآفاق البعيدة، وكانت موئلا لشيوخ أولاد عريف، منعزلة عن المدن انعزالا تاما.
وكان ابن خلدون عند وصوله القلعة المذكورة بلغ الثانية والأربعين من العمر، وكان قد عاش حياة سياسية طويلة زاخرة بالأحداث والانقلابات المعقدة، وخلال هذه الحياة السياسية لم ينقطع عن الدرس والعلم، ولكنه كان يشعر بأن السياسة تشغله عن العلم، وصار يتمنى أن ينصرف عنها انصرافا كليا ليتفرغ إلى العلم تفرغا تاما. إن هذه القلعة المنعزلة مع القصر القائم فيها كانت أحسن مكان لتحقيق أمنيته هذه؛ ولذلك أقام فيها أربعة أعوام، تفرغ خلالها إلى التأمل والتأليف بكل نشاط، وشرع في تأليف التاريخ، وكتابة المقدمة خلال انزوائه عن الناس في هذه القلعة النائية.
ويصف ابن خلدون ما عمله هناك في ترجمة حياته بهذه العبارات الوجيزة: «أقمت بها متخليا عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة.»
وبعد إتمام المقدمة أقدم على كتابة «أخبار العرب والبربر وزناتة»، وكان يكتب كل ما يكتبه عن حفظه بطبيعة الحال، غير أنه عندما تقدم في تدوين الأخبار، أدرك عدم إمكان العمل هناك، وضرورة مراجعة بعض الكتب والمصادر التي لا توجد إلا في المدن.
إنه لم يشأ أن يعود إلى مدينة من مدن المغرب الأوسط والأقصى التي كانت مرسحا لحياته السياسية؛ فقرر الارتحال إلى تونس، وكتب إلى سلطانها يستأذنه في ذلك.
يصف ابن خلدون قراره هذا وما نجم عن هذا القرار بالعبارات التالية: «حدث عندي ميل إلى مراجعة السلطان أبي العباس والرحلة إلى تونس، حيث قرار آبائي ومساكنهم وآثارهم وقبورهم، فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته والمراجعة، وانتظرت فما كان غير بعيد، إذا بخطابه وعهوده بالأمان والاستحثاث للقدوم، فكان الخفوق للرحلة.»
بهذه الصورة غادر ابن خلدون قلعة ابن سلامة بعد الانزواء فيها مدة أربعة أعوام. (9) في تونس (1378-1382)
Unknown page