Dirasat Can Muqaddimat Ibn Khaldun
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
Genres
بعد الخروج من بجاية دخل ابن خلدون على بعض القبائل، وأخذ يتنقل بينها، إلى أن وصل إلى بيسكرة، واتخذها مقر إقامة له ولعائلته؛ وذلك بسبب الصداقة التي كانت توطدت بينه وبين صاحب تلك الديار ابن المزني في أوائل حياته العامة.
أقام ابن خلدون في بيسكرة نحو ست سنوات، في الواقع إنه غادرها عدة مرات لإنجاز بعض الأعمال في البوادي أو في المدن، ولكنه في كل مرة عاد إليها بعد مدة قصيرة، فنستطيع أن نقول لذلك إن حياته خلال هذه السنوات الست ظلت مرتكزة على بيسكرة.
والحياة التي قضاها ابن خلدون هناك كانت من نوع جديد؛ إنه كان سئم العواصم وفتنها، ولم يعد يستسلم إلى غواية الرتب والمناصب، حتى إنه رفض تولي منصب الحجابة عندما عرضها عليه «أبو حمو» سلطان تلمسان.
ولكنه - مع كل ذلك - لم ينقطع عن الأعمال السياسية بتاتا، بل استمر على مزاولتها، وظل يلعب دورا هاما في سياسة الدول المغربية بطريقة جديدة وأسلوب خاص؛ صار يخدم هذا السلطان أو ذاك عن طريق استئلاف القبائل واستتباعها، دون أن يتولى منصبا رسميا، ودون أن ينتسب إلى حكومة من الحكومات.
إنه كان اكتسب خبرة كبيرة في شئون البدو، وسيطرة معنوية على العشائر، وإقامته في بيسكرة - بين أهم مجالات العشائر البدوية - زادته خبرة على خبرته السابقة، وضاعفت سيطرته المعنوية عليها، إنه أصبح بارعا في استمالة القبائل واستئلافها واستتباعها، ولا نغالي إذا قلنا إنه أصبح بمثابة الملتزم والمورد لتلك القوى المسلحة، إنه كان يوجه العشائر إلى خدمة السلاطين الذين يشايعهم، حتى إنه كان يصطحبها في بعض الأحيان.
إنه شايع وخدم بهذه الصورة أولا سلطان تلمسان «أبو حمو»، ثم سلطان المغرب الأقصى «عبد العزيز».
كان في ذلك العهد لدول المغرب أربع عواصم أساسية؛ فاس، تلمسان، قسنطينة، تونس، وكانت المنافسة والعداوة مستحكمة بوجه خاص بين سلطان تلمسان وبين سلطان قسنطينة.
لأن سلطان تلمسان «أبو حمو» كان تزوج ابنة سلطان بجاية «أبو عبد الله»، وعندما علم بأن صاحب قسنطينة قتل والد زوجته واستولى على بجاية؛ غضب غضبة شديدة، وزحف على بجاية بغية تخليصها من حكم قاتل عمه، إلا أن سلطان المغرب انتهز فرصة انشغال صاحب تلمسان بشئون بجاية، وأغار على عاصمته؛ ولذلك اضطر أبو حمو إلى ترك بجاية جانبا، والعودة إلى الدفاع عن تلمسان.
بهذه الصورة أصبح سلطان المغرب مساعدا طبيعيا لصاحب قسنطينة، ومقابل ذلك رأى صاحب تلمسان أن يوثق أواصر الصداقة بينه وبين سلطان تونس؛ ليهدد به سلطان قسنطينة عند الاقتضاء.
ونتج عن هذه الوقائع وضع سياسي معقد؛ خصمان واقفان وجها إلى وجه، ووراء كل واحد منهما خصم متحالف مع خصمه محالفة طبيعية.
Unknown page