Dirāsāt ʿan Muqaddimat Ibn Khaldūn
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
Genres
ولا سيما الإقليم الأول؛ ففيه أقوام «يسكنون الكهوف والغياض»، ويأكلون «العشب والحبوب غير مهيأة، وربما يأكل بعضهم بعضا»، «يقرب أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم»، وهم «أقرب إلى الحيوان الأعجم من الناطق، وليسوا في عداد البشر» (ص54 و83).
إن أحوال أهل الأقاليم المنحرفة في الديانة أيضا على غرار ذلك؛ فإنهم «لا يعرفون نبوءة ولا يدينون بشريعة، إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال وهو في الأقل النادر.»
يذكر ابن خلدون أسماء هؤلاء الأقوام النادرة، ثم يقول: «من سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا، فالدين مجهول عندهم، والعلم مفقود بينهم، وجميع أحوالهم بعيدة عن أحوال الأناسي، قريبة من أحوال البهائم» (ص83).
ومما يجب ملاحظته في هذا الصدد أن ابن خلدون لا يغفل عن وقوع جزيرة العرب في الأقاليم المنحرفة، ويقدر الاعتراض الذي قد يخطر على البال من جراء ذلك؛ فيتدارك الأمر قائلا: «ولا يعترض على هذا القول بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف وبلاد الحجاز واليمامة وما يليها في جزيرة العرب في الإقليم الأول والثاني؛ فإن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث - كما ذكرنا - فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها؛ فنقص ذلك من اليبس والانحراف الذي يقتضيه الحر، وصار فيها بعض الاعتدال؛ بسبب رطوبة البحر» (ص83). (2)
حينما ذكر ابن خلدون اعتدال أهل الأقاليم المتوسطة، كتب فيما كتبه من الفقرات التي نقلناها آنفا: «إنهم أعدل ألوانا وأخلاقا»، وبهذه الصورة أشار إلى تأثير الإقليم والهواء في اللون والأخلاق أيضا. غير أنه لم يكتف بهذه الإشارة إلى هذين النوعين من التأثير، بل إنه عاد إلى كل واحد منهما، وتناولهما بالشرح والتفصيل:
فقد صرح أولا: «أن اللون تابع لمزاج الهواء»، وأن «شدة الحرارة تسود جلود الناس»، في حين أن إفراط البرودة يؤدي إلى «بياض اللون»، وأن هذا البياض قد يصل إلى درجة «الزعورة»، كما أنه «يتبع ذلك زرقة العيون ، وبرش الجلود، وصهوبة الشعور» (ص84)؛ ولهذا السبب إذا سكن جماعة من السودان في الأقاليم المعتدلة أو الباردة «تبيض ألوان أعقابهم بالتدريج»، وبعكس ذلك إذا سكن جماعة من أهل الشمال بالجنوب «تسود ألوان أعقابهم». ويستشهد ابن خلدون على ذلك برأي ابن سينا، ويذكر بيتين من أرجوزته في الطب، كما أنه ينتقد بشدة مزاعم بعض النسابة الذين يتوهمون أن «السودان هم ولد حام بن نوح، اختصوا بلون السواد؛ لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه، وفيما جعل الله من الرق في عقبه». إنه يعتبر ما ينقلونه في هذا الصدد من «خرافات القصاص»، ويتهم هؤلاء بعدم «العلم بطبائع الكائنات» (ص83)، ويقول إن هذا الزعم «من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات»، وإن هذه كلها تتبدل في الأعقاب (ص85). (3)
وأما مسألة تأثير الطبيعة في الأخلاق فيتوسع فيها ابن خلدون بعض التوسع في فصل خاص - أي في المقدمة الرابعة من الباب الأول - تحت عنوان «أثر الهواء في أخلاق البشر».
إنه يلاحظ أن السودان متصفون «على العموم بالخفة والطيش وكثرة الطرب»، وأنهم مولعون «بالرقص على كل توقيع في كل قطر»، ويعلل ذلك بتأثير شدة الحرارة، ويوضح هذا التعليل كما يلي:
من الأمور المقررة في الحكمة «أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه»، وطبيعة الحزن بالعكس، هي «انقباضه وتكاثفه». ومن الأمور المقررة أيضا «أن الحرارة مفشية للهواء والبخار ومخلخلة له، زائدة في كميته»؛ ولهذا السبب نجد أن الحرارة تؤدي إلى «تفشي الروح الحيوانية»، وتولد في النفس من جراء ذلك «الفرح والسرور» (ص86).
ويدعم ابن خلدون هذا الرأي بذكر مشاهدتين من المشاهدات المألوفة؛ الأولى ما يحدث من الفرح والسرور في سورة الخمر، والثانية ما يحدث من السرور والانبساط في الحمامات.
Unknown page