229

Dirāsāt ʿan Muqaddimat Ibn Khaldūn

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

Genres

وأما قضية تأثير العوامل الطبيعية في الطبائع فهي أيضا تحتاج إلى إنعام النظر؛ إن على كل باحث أن يسلم مبدئيا بتأثير الطبيعة في الإنسان، لكن عليه أيضا أن يلاحظ في الوقت نفسه أن علاقة الإنسان بالطبيعة لم تكن علاقة «المنفعل المتأثر» فحسب، بل هي علاقة «الفاعل المؤثر» أيضا، فالإنسان ينفعل ويتأثر من الطبيعة من جهة، ويفعل ويؤثر فيها من جهة أخرى. إنه يحاول التخلص من سيطرة الطبيعة بصور شتى، وإذا لم يتمكن من التخلص منها بصورة نهائية فهو يتوصل - على كل حال - إلى تخفيف تأثيراتها فيه إلى حد كبير، كما أنه يحاول أن يسيطر عليها - إلى درجة ما - ويسعى إلى استخدام بعض قواها في صور شتى.

إن آثار ونتائج الحياة الاجتماعية التي يحياها الإنسان منذ أجيال وأجيال، قد تلاحقت وتراكمت وتبلورت على شكل بعض الأمور المعنوية من جهة ، وعلى شكل بعض الأشياء المادية من جهة أخرى. إن هذه الأمور المعنوية - كالتقاليد، والمعتقدات، والعلوم، والأذواق، والصناعات، والنظم الاجتماعية، على اختلاف أنواعها - وهذه الأشياء المادية - كالآلات، والماكينات، والبيوت، والمدن، والطرق، والمرافئ، والحقول، والكتب، والتماثيل، إلى آخر ما هنالك من معالم الحضارة ووسائلها - كلها تتضافر لتكوين «بيئة اجتماعية» خاصة، تعمل عمل «العازل» نوعا ما بين الإنسان وبين الطبيعة؛ ولهذا السبب نجد أن عناصر البيئة الطبيعية لا تؤثر في أمور الإنسان إلا من خلال هذه البيئة الاجتماعية.

فنستطيع أن نقول لذلك إن تأثير الطبيعة في الإنسان مما يتبع الأحوال الاجتماعية، ويقول بتحولها.

ولهذا السبب يترتب علينا أن نضع الأحوال الاجتماعية نصب أعيننا، حتى عندما نحاول استكناه تأثيرات الطبيعة المحيطة بنا. (6)

وإذا أردنا أن نجمل البحث في هذا الصدد، استطعنا أن نقول إن تأثير البيئة الطبيعية لا يخرج عن نطاق «تعين بعض الاتجاهات، وتحديد بعض الإمكانيات»، غير أن السير في تلك الاتجاهات، والاستفادة من تلك الإمكانيات مما لا يتم إلا تبعا للأحوال والعوامل الاجتماعية، والوقائع والدوافع التاريخية.

ولهذه الملاحظات الهامة زاد اهتمام علماء الاجتماع بالبحث في العوامل الاجتماعية عن طريق درس «البيئة الاجتماعية» من جهة، وتتبع «تواريخ المؤسسات الاجتماعية» من جهة أخرى.

بعد هذا الاستعراض السريع للمذاهب المختلفة التي قامت حول مسألة طبائع الأمم، نستطيع أن ننتقل إلى مقدمة ابن خلدون، فنتساءل: ماذا كان موقف ابن خلدون في هذه المسألة الأساسية؟ ماذا كان الاتجاه الذي اتجهه لتعليل اختلاف الأمم في الطبائع والسجايا؟ وإلى أي حد تعمق في درس هذه المسألة، وفي تحليل العوامل المؤثرة فيها؟

لم يعالج ابن خلدون مسألة طبائع الأمم في فصل خاص، ومع هذا فقد تطرق إليها، وتأمل فيها، وكتب عنها في مواضع كثيرة من فصول عديدة وبوسائل شتى.

إننا نجد في فصول المقدمة عدة «آراء صريحة» حول هذه القضية، وإذا جمعنا هذه الآراء؛ وجدنا أن ابن خلدون كان ذا مذهب واضح تام في هذا الصدد.

2

Unknown page