Dirāsāt ʿan Muqaddimat Ibn Khaldūn
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
Genres
يلاحظ بأن هذه الفقرة تشير بوضوح إلى مهمة التقليد والمحاكاة في اكتساب المعارف من جهة، واكتساب الفضائل من جهة أخرى، وبتعبير آخر في التربية الفكرية من جهة، والتربية الأخلاقية من جهة ثانية.
هذا ويشرح ابن خلدون في فصل «العقل التجربي» عمل الزمان والتجربة في تعليم ما ينبغي للإنسان في معاملة أبناء جنسه - فلا وتركا - ثم يقول: «وقد يسهل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب من زمن التجربة، إذا قلد فيها الآباء والمشيخة والأكابر، ولقن عنهم، ووعى تعليمهم؛ فيستغني عن طول المعاناة في تتبع الوقائع واقتناص هذا المعنى من بينها. ومن فقد العلم في ذلك والتقليد فيه، وأعرض عن حسن استماعه واتباعه؛ طال عناؤه في التأديب بذلك» (إن هذا الفصل غير موجود في الطبعات الشرقية، فيجب مراجعة الطبعة الباريسية، ج2، ص370).
ومن الواضح الجلي أن هذه الفقرة أيضا تشير بصراحة إلى أهمية التقليد في التربية وفي الحياة الاجتماعية. (5)
ابن خلدون يذكر عمل التقليد والمحاكاة في تعلم اللغة واكتسابها أيضا.
إنه يقول في صدد الكلام عن علم النحو والبحث في كلام العرب: «إن اللغة ملكة في ألسنتهم، يأخذها الآخر عن الأول، كما تأخذ صبياننا لغاتنا لهذا العهد» (ص546).
ويقول كذلك - في الفصل الذي يقرر «أن اللغة ملكة صناعية» - ما يلي: «فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة، ويكون كأحدهم؛ هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل، وتعلمها العجم والأطفال» (ص554-555).
ويقول ابن خلدون في الفصل الذي يقرر فيه «أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير»: «إن هذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل، بل هي متوارثة فيهم متعاقبة» (ص558).
كما يقول - بعد أن يشرح كيفية النطق بالقاف عند القبائل البدوية: «إن من يريد التقرب والانتساب إلى الجيل، والدخول فيه، يحاكيهم بالنطق بها» (ص557).
إن رأي ابن خلدون في هذا الصدد يتكرر في جميع الفصول المتعلقة باللغة وبتعلم اللغة. (6)
يشرح ابن خلدون - في فصل علم الكلام - كيفية تكون المعلومات عند البشر، ويتطرق خلال هذا الشرح إلى معلومات العميان وتصوراتهم، ويشير إلى عمل التقليد في هذا الصدد أيضا، حيث يقول: «الأعمى يسقط عنده صنف المرئيات، ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة، لما أقروا به، ولكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم» (ص459).
Unknown page