110

Dirasat Can Muqaddimat Ibn Khaldun

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

Genres

إلا أن - من سوء حظه - لم يتم ذلك على الأسس التي كان وضعها هو، ولا في داخل البناية التي كان شيدها عليها؛ لأن تلك الأسس القويمة لم تجد من يقدر أهميتها ويعمل لإتمامها في حينها، فأهملت لذلك، وتنوسيت بمرور الزمان. وأما العلمان المذكوران فقد تأسسا وتوسعا في محلات أخرى على أسس مشابهة للتي وضعها ابن خلدون، ولكن على يد غيره من المفكرين، وبعد مرور عدة قرون.

والعلماء والمفكرون الذين توفقوا إلى تكوين وتأسيس هذين العلمين من جديد، لم يطلعوا على الآراء التي كان ابتكرها ابن خلدون في هذا الموضوع، إلا بعد مرور مدة تناهز خمسة قرون على تاريخ كتابتها.

وأما السبب في ذلك فهو أن ابن خلدون نشأ في أوان انحلال الدول العربية وانحطاط الثقافة العربية، فما كتبه في هذه المواضيع صار بمثابة البذور التي تنثر في أرض قاحلة، أو بمثابة الفسائل التي تغرس بعد فوات الموسم، فإنها لم تجد التربة الصالحة لانتعاش تلك البذور، والجو الملائم لتنمية تلك الأغراس؛ ولهذا لم يجد عمل ابن خلدون تلاميذ وشراحا ومعقبين، بالرغم من الإعجاب الذي أثاره بين المثقفين.

ولا نغالي إذا قلنا إن العالم العربي لم ينجب مفكرا وكاتبا عظيما بعد العصر الذي عاش فيه ابن خلدون، ونستطيع أن نقول: إن المفكر المشار إليه كان بمثابة الوهج الذي يحدث قبيل انطفاء الشعلة، حسب التشبيه الذي أبدعه هو، عندما وصف الأحوال التي تشاهد في أواخر حياة الدول (ص294). •••

وأما سائر أقسام العالم الإسلامي فلم تكن عندئذ أحسن حالا من العالم العربي من هذه الوجهة؛ فإنها كلها كانت في حالة انحلال وانحطاط، ولم يشذ عن هذا الانحلال العام إلا دولة إسلامية واحدة هي الدولة العثمانية، التي كانت قد تغلبت عندئذ على مشاكل التأسيس، ودخلت في طور التوسع والاستيلاء.

من المعلوم أن الدولة المذكورة كانت قامت على أنقاض الدولة السلجوقية، وأخذت تتوسع بسرعة بعد صدمة تيمورلنك التي أدركها ابن خلدون في أواخر حياته، وقامت بفتوحات عظيمة، خاصة في القسم الجنوبي الغربي من القارة الأوروبية، في البلاد التي كانت قد ظلت حتى ذلك العهد خارجة عن نطاق العالم الإسلامي، وبعيدة عنه.

إن هذه الفتوحات العظيمة استلزمت - بطبيعة الحال - ظهور سلسلة من المؤرخين بين رسميين وغير رسميين، وهؤلاء المؤرخون كانوا يقرءون المؤلفات العربية بحكم الثقافة الإسلامية السائدة في ذلك العهد، فكان من الطبيعي أن يطلعوا على مقدمة ابن خلدون، ويعجبوا بها إعجابا شديدا، ويتأثروا منها تأثرا عميقا.

فلا نغالي إذا قلنا إن مقدمة ابن خلدون وجدت أكبر الصدى، وأثرت أشد التأثير، في مؤلفات المؤرخين العثمانيين، فجميع هؤلاء المؤرخين - من نعيما صاحب التاريخ الشهير، إلى عبد الرحمن شرف المؤرخ الرسمي الأخير - كلهم استلهموا أسس التاريخ من ابن خلدون، حتى إن بعضهم اعتبر «واقعة أنقرة» - التي كانت حدثت بين السلطان بايزيد رابع، سلاطين آل عثمان، وبين تيمورلنك، التي انتهت بأسر السلطان المشار إليه، وأحدثت الأزمة المعروفة في التواريخ العثمانية باسم «فاصلة السلطنة» - اعتبروها آخر دليل على صدق نظريات ابن خلدون وإصابة ملاحظاته القيمة.

إن اهتمام المؤرخين والمفكرين العثمانيين بمقدمة ابن خلدون - على هذا المنوال - هو الذي حملهم على ترجمتها إلى التركية - منذ أواسط القرن الثامن عشر - قبل ترجمة الأوروبيين لها، بمدة تزيد على القرن الكامل.

غير أننا نستطيع أن نقول إن اهتمام المؤرخين العثمانيين بمقدمة ابن خلدون كان بمثابة الاقتباس والاستلهام بوجه عام، ولم يتعد ذلك إلى التوسيع والتعقيب. •••

Unknown page