Din
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Genres
نسلم هذا كله، ولكن يبقى أن نعرف هل توصلنا هذه المقدمات مجتمعة إلى النتيجة المطلوبة، وهي أن الدين في جملته نظام اجتماعي، بمعنى أنه خلقته الجماعة ليعود إليها بالعبادة والتقديس؟
إننا نبصر ها هنا هوة سحيقة بين النتيجة ومقدماتها، ونرى أن الاستنتاج يطفر بنا من مقدمات نحيلة إلى دعوى عريضة فضفاضة، ولنسجل في هذا المعنى اعترافا قيما لأحد أعضاء المدرسة الاجتماعية نفسها، حيث يقول في مقدمة ترجمته لكتاب في تاريخ الأديان ما نصه:
إنه لا يكفي أن يقال إن الظواهر الدينية تحدث في جماعة وتختلف باختلاف الجماعات، لإثبات أنها ظواهر اجتماعية حقيقية ... فالظواهر الاجتماعية الحقيقية - كما نشاهده في القوانين والقواعد الاقتصادية - ذات وجود خارجي مستقل عن أفراد الجماعة؛ ونشاط الأفراد فيها إنما يحدده أو يعدله مجرد تجاورهم وتعاونهم من غير أن يكون لهم شعور بها أو موافقة عليها، فهل الظواهر الدينية ظواهر اجتماعية بهذا المعنى؟
لا شك أن جانبا كبيرا منها يبدو لنا كذلك، وهو جانب الأنظمة والشعائر العملية، التي حددت في قواعد ثابتة، والتي تظل مستمرة على الرغم من إرادة الأفراد وآرائهم.
ولكن هل هذه الحالات الجماعية التلقائية هي الحالات الجوهرية في الدين؟ وهل هي أعظم وأقدم وأشمل ظواهر الدين؟ إنه قد يغرينا على الجواب بالإيجاب اقتصارنا على اعتبار الديانات القديمة أو البدائية؛ لأن بعدها عنا يمحو في نظرنا فوارق الأفراد فيها، وينظمهم في الكتلة الاجتماعية للشعب، أما إذا درسنا الظواهر الدينية وهي ماثلة أمامنا، وفي ديانة يشترك فيها الأفراد بقلوبهم إلى حد ما، فإن ذلك يقودنا بالطبع إلى أن نخصص جانبا عظيما منها للابتكار الفردي.
27
هكذا استدرك أنصار النظرية على مؤسسها، بأنه ينبغي فيها التقسيم لا التعميم، وأنه إذا كان الجانب السطحي من الدين - أعني: رسومه ونظمه العملية - يعد ظاهرة اجتماعية؛ لأنه يحمل طابع الإلزام الجمعي، وليس للفرد اختيار في تكوينه، فإن القسم الرئيسي منه - وهو قسم الاعتقادات والتصورات - يأبى بطبيعته أن يكون اعتناق الفرد إياه ضربة لازب من خارج ، لا يجد فيها أدنى تجاوب مع أفكاره ووجداناته وأحاسيسه.
ذلك، ولو أمعنا النظر قليلا لرأينا عبء الإلزام الجمعي في الشعائر الظاهرية نفسها إنما يقاسيه الفرد في ديانة قد تكونت واستقرت، واعتنق هو مبادئها أو انتسب إليها من قبل، وليس هذا مجال بحثنا، ولا موضوع دراستنا. وإنما الشأن في نشأة الدين ومبدأ ظهوره.
فهل سمع أحد بديانة ناشئة تحمل تعاليم جديدة، وتدعو إلى شعائر غير مألوفة يكون موقف الجماعة منها موقف حمل الأفراد عليها، وإلزامهم بها؟ أم يكون موقفها موقف المناهضة لها، والمقاومة العنيفة لداعيها؟ حدثينا أيتها التواريخ! وتكلمي أيتها الوقائع! وانطقي أيتها التجارب! ليسمع الذين يبنون نظرياتهم - فيما زعموا - على التواريخ والوقائع والتجارب.
بل هلم إلى الأعجوبة الكبرى!
Unknown page