Din
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Genres
الدين هو «الاعتقاد بوجود ذات - أو ذوات - غيبية، علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشئون التي تعني الإنسان، اعتقادا من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد»، وبعبارة موجزة هو «الإيمان بذات إلهية جديرة بالطاعة والعبادة»، هذا إذا نظرنا إلى الدين من حيث هو حالة نفسية
etat subjeclif ، بمعنى: التدين، أما إذا نظرنا إليه من حيث هو حقيقة خارجة
fait objectif
فنقول: «هو جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها.» (10) المآخذ على تعريف المدرسة الاجتماعية «وبعد» فلن يشق على القارئ أن يعود الآن بنفسه إلى التعريفات المختلفة التي نقلناها في صدر هذا البحث، وأن يتبين في ضوء هذا البيان مقدار ما في كل واحد منها من وفاء أو زيادة أو نقص عن الحاجة، غير أننا نود أن نشير إلى مؤاخذتين مهمتين في تعريف «دوركايم» و«ريناك» وأشياعهما.
أما «الأولى» فهي أن هؤلاء الباحثين لم يعتبروا من القدسية الدينية سوى جانبها العملي «السلبي» وهو تحريمها لبعض الأشياء، والتحذير من مباشرتها والدنو منها :
Tabou ، وقد فاتهم أن المنع من لمس شيء ما ليس دائما دليل قدسيته، بل قد يكون - على الضد - دليل ما فيه من خبث ورجس. كما فاتهم أن الشعائر العملية في كل نحلة يجب أن تكون ترجمة كاملة لعقائدها، فإذا كان التقديس هو من أحد جانبيه تنزيها عن العيوب والنقائص، فهو من الجانب الآخر وصف بالجميل والكمال، هو تعظيم للقيم الكبرى والمثل العليا، فمظهره في الناحية السلبية عدم انتهاك الحرمات، وفي الناحية الإيجابية الإقبال على الفضائل اغترافا من معينها، وتذوقا لجمالها وتمثلا لجوهرها. فالتعريف إذن قاصر عن استيفاء أجزاء المعرف.
وأما المؤاخذة «الثانية» - وهي أشد خطرا وأمس بالجوهر - فهي أنهم بتجريدهم ماهية الدين من فكرتي: «الروحية» و«الإلهية» قد جردوها من أخص صفاتها، ونزعوا منها المحور الذي تدور عليه كل عناصرها، والمعيار الوحيد الذي تقاس به مظاهرها وتتميز به عما سواها. وفي الحق أن التعريف الذي يقدمونه لنا بعد حذف هاتين الخاصتين يمكن تطبيقه بأكمله على كل مظهر من مظاهر النشاط الاجتماعي، متى كانت له صبغة السنن الموروثة، التي يلتزم الجمهور مراعاتها في حياتهم الأدبية، أو الفنية، أو الاقتصادية أو غيرها، فعادة رفع الأعلام في الأعياد، والقيام عند السلام الوطني، ولبس السواد في الحداد، ووضع الخاتم في إصبع معينة للمتزوج أو غير المتزوج، وحفلات التكريم وإشارات التعظيم، والأزياء القومية أو الطائفية، وسائر العوائد الملتزمة التي تسمى ب «الإتيكيت» أو «البروتوكول» والتي يعد الخروج عنها نابيا في ذوق العرف العام أو الخاص؛ كل أولئك يسوغ لنا - بمقتضى تعريفات المدرسة الاجتماعية الفرنسية - أن نسميها أعمالا دينية وعبادات. ومثل هذا يقال في باب الآراء والمذاهب السياسة وغيرها.
ولا يكفي لإزالة اللبس هنا أن نقول: إن الفكرة الدينية تقتضي «الإيمان بأن الموجودات ليست كلها من نوع واحد، ولا في مرتبة واحدة، بل بعضها أسمى من سائر الأنواع»؛
3
لأن اعتقاد هذا التفاوت كما يتحقق في الفكرة الدينية يتحقق في غيرها، كاعتقاد أمة ما أنها أرقى عنصرا، وأنبل مولدا وأحق بالزعامة العالمية من سائر الأمم ... وهكذا ينفرط العقد ويمتد اللبس بين الحقائق الدينية وغيرها إلى أقصى مداه، وما وضعت الحدود إلا لإقامة الحدود بين المعاني المختلفة حتى لا يبغي بعضها على بعض.
Unknown page