مقدمة
الدين
تمهيد في العلاقة بين العلم والدين
1 - تحديد الدين وبيان أصله في نظر الباحثين من الفرنجة
2 - الدين في النظر الإسلامي
الوحي
1 - معاني كلمة: «الوحي»
2 - أهم النظريات في تفسير الوحي
الإسلام
1 - النظريات المختلفة في العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكلمة «إسلام»
2 - الرأي الراجح في العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكلمة «إسلام»
مقدمة
الدين
تمهيد في العلاقة بين العلم والدين
1 - تحديد الدين وبيان أصله في نظر الباحثين من الفرنجة
2 - الدين في النظر الإسلامي
الوحي
1 - معاني كلمة: «الوحي»
2 - أهم النظريات في تفسير الوحي
الإسلام
1 - النظريات المختلفة في العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكلمة «إسلام»
2 - الرأي الراجح في العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكلمة «إسلام»
الدين والوحي والإسلام
الدين والوحي والإسلام
تأليف
مصطفى عبد الرازق
مقدمة
عالجنا في هذا الكتاب ثلاثة موضوعات يكمل بعضها بعضا، ويرتبط بعضها ببعض أوثق الارتباط، وهي الدين والوحي والإسلام؛ فأولها بحث في حقيقة الدين على العموم، وثانيها تفسير لظاهرة هامة صاحبت معظم الأديان وتوقفت عليها نشأتها وهي ظاهرة الوحي، وثالثها توضيح للدين القائم على الوحي بمثال عال من أمثلته وهو الإسلام.
وقد عرضنا في الموضوع الأول لثلاثة مباحث: أحدها في العلاقة بين العلم والدين، وثانيها في تحديد الدين وبيان أصله في نظر الباحثين من الفرنجة (بداية الاهتمام بهذا البحث وصلة ذلك بتكون علم اللغات، معاني الكلمة الأوروبية الدالة على الدين وأصل مادتها اللاتيني، مذاهب علماء النفس ومذاهب علماء الاجتماع في أصل الدين، مناقشة التعاريف المختلفة للدين، حيرة العلماء في تعريف الدين ودلالتها)، وثالثها في الدين في النظر الإسلامي (أصل مادة الدين ومعانيها اللغوية المختلفة، الدين في لسان القرآن، المعنى الشرعي لكلمة دين، الدين عند الفلاسفة الإسلاميين والفرق بين الدين والفلسفة.)
وعرضنا في الموضوع الثاني لمبحثين؛ أحدهما في المعاني المختلفة لكلمة «الوحي» في اللغة والقرآن والسنة، وثانيهما أهم النظريات في تفسير ظاهرة الوحي (مذاهب المتكلمين، مذهب الفلسفة الإسلامية، رأي الصوفية، مذهب ابن خلدون، آراء المسلمين في العصور الحالية.)
وأما الموضوع الثالث فقد عرضنا في قسمه الأول للنظريات المختلفة في العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكلمة «إسلام»، وبسطنا في قسمه الثاني رأينا في هذا الموضوع.
مصطفى عبد الرازق
21 ذو القعدة سنة 1364ه / 27 أكتوبر سنة 1945م
الدين
تمهيد في العلاقة بين العلم والدين
يقرر العلامة الفرنسي إميل بوترو
Emile Boutroux «أن أمر العلاقات بين الدين والعلم - حين يراقب في ثنايا التاريخ - يثير أشد العجب؛ فإنه على الرغم من تصالح الدين والعلم مرة بعد مرة، وعلى الرغم من جهود أعاظم المفكرين التي بذلوها ملحين في حل هذا المشكل حلا عقليا - لم يبرح العلم والدين قائمين على قدم الكفاح، ولم ينقطع بينهما صراع يريد به كل منهما أن يدمر صاحبه لا أن يغلبه فحسب؛ على أن هذين النظامين لا يزالان قائمين. ولم يكن مجديا أن تحاول العقائد الدينية تسخير العلم؛ فقد تحرر العلم من هذا الرق، وكأنما انعكست الآية منذ ذاك، وأخذ العلم ينذر بفناء الأديان، ولكن الأديان ظلت راسخة وشهد بما فيها من قوة الحياة عنف الصراع.»
1
ولسنا نريد أن نعرض لتاريخ العلاقات بين الدين والعلم على مر العصور، وما تناوبها من سلام وحرب؛ فإن ذلك بحث يطول، وليس هو مما قصدنا إليه في هذا الكتاب، على أنه قد يكون غير خلو من المناسبة لغرضنا أن نذكر ما كتبه إميل بوترو عن موقف العلم والدين في أيامنا هذه؛ إذ يقول:
ليس التصادم الآن فيما يظهر بين الدين والعلم باعتبارهما مذهبين، بل التصادم أدنى أن يكون بين الروح العلمي والروح الديني، فليس يعني العالم أن يكون ما جاء في الدين من عقائد متفقا مع نتائج العلم؛ لأن الأساس الذي يعتمد عليه الدين فيما يجيء به يختلف عن الأساس الذي يعتمد عليه العلم؛ فالدين يقدم مسائله على أنها عقائد يجب الإيمان بها؛ أي يجب أن يتقيد بها العقل والوجدان، ويعرضها في صورة تدل على اتصال الإنسان بنوع من الأشياء يعجز علمنا الطبيعي عن إدراكه، وفي ذلك ما يجعل العالم - إن لم يرفض هذه المسائل نفسها - يرفض الأسلوب الذي يسلكه المتدين في الأخذ بها ، والمتدين من ناحيته إذا وجد جميع عقائده وعواطفه وأحكامه العملية مفسرة - بل مثبتة - بالعلم يكون حينئذ أبعد شيء عن مسألة العلم؛ فإن هذه الشئون إذا شرحت على هذا الوجه فقدت كل خواصها الدينية.
2
الفصل الأول
تحديد الدين وبيان أصله في نظر الباحثين من الفرنجة
(1) بداية الاهتمام بهذا البحث وصلة ذلك بتكون علم اللغات
ندع هذا الصراع وتاريخه لنتجه إلى ناحية أخرى من نواحي الأبحاث العلمية الحديثة في الأديان، هي التي نقصد إلى دراستها، وهي ناحية تعريف الدين.
والمراد بتعريف الدين: تعيين الخصائص التي لا بد لكل دين منها، والتي لا يسمى الدين دينا إلا بها، والبحث في تعريف الدين مرتبط أشد ارتباط بالبحث في أصل الدين وجرثومته الأولى؛ فإن حقيقة الشيء هي العناصر المكونة له في أبسط مظاهره، وقد نهضت همم العلماء لهذا البحث منذ نحو قرن من الزمان؛ ذلك أنه قد تكون في القرن التاسع عشر علم اللغات، وأدى تعاون الباحثين في ألسنة البشر منذ أحدث أدوارها إلى أقدمها - أي دور التكون الأولي للغة - إلى معرفة العناصر المؤلفة للغات الإنسانية، هنالك رأى الباحثون أنه يمكن على هذا المثال إدراك عناصر الفكر الإنساني وجراثيمه، دينيا كان ذلك الفكر أم غير ديني؛ أما ما وراء التكون الأول للغة فهو لا يتصل بتاريخ الإنسان، وإن كان مما يهم الباحث في طبائع الأجسام؛ ذلك بأن الإنسان هو أولا وبالذات مفكر، واللغة أول مظهر من مظاهر تفكيره الديني وغيره، وفي ذلك يقول «ماكس مولر»:
يمكن أن يقال في الدين ما قيل في اللسان من أن كل جديد فيه فهو قديم، وكل قديم فيه فهو جديد، وأنه منذ بداية العالم لم يوجد قط دين كله مبتدع، وإنا لنجد عناصر الدين وجراثيمه مهما سمونا في تاريخ الإنسانية إلى أبعد مدى مستطاع، وتاريخ الدين كتاريخ اللغة؛ يرينا في كل مكان ألوانا متتابعة من التأليف المستحدث بين عناصر أصلية قديمة.
ثم يقول: «وإني لأشك في أن يكون قد آن الأوان لوضع خطة ثابتة لعلم الدين كالخطة التي وضعت لعلم اللغة.»
1
وإذا لم يكن تم وضع هذه الخطة لعلم الدين لعهد «ماكس مولر» في أواخر القرن التاسع عشر؛ فإن علم الدين لما يقم إلى اليوم على خطة ثابتة.
على أن جهود الباحثين في تاريخ الأديان لا تزال متواصلة في تعرف أصل الدين، ووضع تعريف له جامع مانع على حد تعبير المناطقة، ولا يزال الباحثون منذ القرن الماضي يحاولون أن يضعوا للأديان شجرة أنساب كالتي وضعوها للغات. (2) معاني الكلمة الأوروبية الدالة على الدين وأصل المادة اللاتيني
ومما استعانوا به على مقصدهم تعرف أصل المادة التي تدل على «دين» وتتبع المعاني المعروفة لكلمة «دين» نفسها.
والكلمة التي تقابل عند الأمم الأوروبية لفظ «دين» العربي هي «رلجيون
Religion » المقتبسة من اللغة اللاتينية، وقد اختلفوا في مبدأ الاشتقاق لصيغة «رلجيو»
Religio
اللاتينية؛ على أن أكثر المتقدمين يردها إلى مادة تفيد معنى الربط الشامل؛ لربط الناس ببعض الأعمال من جهة التزامهم لها وفرضها عليهم، ولربط الناس بعضهم ببعض، ولربط البشر بالآلهة. بل يحاول بعض متأخري العلماء أن يجعل مأخذ الكلمة شاملا لمعنى الربط وما إليه كالجمع، هذا مع اختلاف الأقاويل في اللفظ الأول الذي هو مصدر الاشتقاق.
وكلمة «رلجيو»
Religio
اللاتينية تدل في غالب استعمالاتها على معنى الشعور بحق الآلهة مع الخشية والإجلال، أما كلمة «رلجيون
Religion » الحديثة فتطلق على معان ثلاثة: (1)
نظام اجتماعي لطائفة من الناس، يؤلف بينها إقامة شعائر موقوتة، وتعبد ببعض الصلوات، وإيمان بأمر هو الكمال الذاتي المطلق، وإيمان باتصال الإنسان بقوة روحانية أسمى منه حالة في الكون، أو متعددة، أو هي الله الواحد. (2)
حالة خاصة بالشخص مؤلفة من عواطف وعقائد ومن أعمال عادية تتعلق بالله. (3)
احترام في خشوع لقانون أو عادة أو عاطفة، ولعل هذا المعنى الأخير هو أقدم هذه المعاني.
ولئن فصلت هذه المعاني ليسهل تحليلها، فإن الغالب أن يدل اللفظ عليها مجتمعة مع غلبة المعنى الأول في بعض الأحوال، وغلبة المعنى الثاني أحيانا. (3) مذاهب علماء النفس ومذاهب الاجتماعيين في أصل الدين
وقد رأينا أن من معاني الدين المتعارفة معنى يجعله من موضوع علم الاجتماع، ومعنى يرده إلى علم النفس.
أما الذين درسوا أصل الدين من الوجهة «البسيكولوجية» فقد ذهبوا طرائق قددا: فمنهم من يرى أن جرثومة الدين تتولد من الإدراك المغروز في فطرة الإنسان للعلية والمعلولية بين الأشياء، ومنهم من يجعل أصل الدين شعور الإنسان بأنه تابع لغيره وليس مستقلا، ومنهم من يرد أصل الدين إلى ما يلقى في روع الإنسان بالفطرة من وجود لا يتناهى، ومنهم من يرى أن الدين ينبعث من نزوع إلى الزهادة في الدنيا؛ ويقول بعض علماء النفس: إن هذا الحدث من أحداث الحياة «البسيكولوجية» ليس بسيطا يمكن رده إلى سبب واحد بسيط من هذه الأسباب.
وأما علماء الاجتماع: فهم يرون أن الدين لا يخلو من معنى العاطفة النفسية، ولكنه لا يخلو أيضا من الاتصال بشئون الجماعة؛ بل ينتهي الأمر بالعلماء الاجتماعيين الباحثين في تاريخ الأديان وأصولها إلى اعتبار الصبغة الاجتماعية في الدين أقوى وأرسخ من كل صبغة سواها. (4) التعاريف المختلفة للدين ونقدها
وقد ذكر العالم الاجتماعي «دوركايم
Durkheim » في كتابه «الصور الأولى للحياة الدينية
Les Formes Elémentaires de la Vie Religieuse » تعريفات مختلفة للدين، ثم عرض لنقدها، وذكر بعد ذلك تعريفا يراه هو جامعا مانعا لا يرد عليه اعتراض.
فمن المعاني التي جرى الأمر على اعتبارها خاصة مميزة لكل ما هو ديني معنى يجعل الدين مرادفا لما وراء العقل، ويعنون بما وراء العقل كل الأشياء التي تسمو عن متناول إدراكنا؛ أي عالم الغيب الذي لا يدرك ولا يعقل
mystère ou inconnaissable ، فالدين هو نوع من الإدراك لما يفوت العلم وينقطع دونه العقل، وممن يرى ذلك الرأي «سبنسر
Spencer » و«ماكس مولر
Max Müller ».
ولا يرضى دوركايم عن هذا التعريف؛ فإن أمر الغيب المتعالي عن العقول هو من غير شك ذو أثر عظيم في بعض الأديان، لكن هذا الأثر يتفاوت في أدوار التاريخ الديني. فقد وجدت عصور تضاءلت فيها هذه الفكرة، وكان التوفيق بين العقائد الدينية وبين العلم والفلسفة غير عسير، كما حصل في أوروبا في القرن السابع عشر مثلا؛ وعلى كل حال: فإن من المحقق أن معنى الغيب الذي لا يعقل ليس فطريا، ولا مركوزا في طبع الإنسان، ولم يظهر في تاريخ الأديان إلا منذ عهد حديث، من أجل ذلك لا نجده في أديان الأمم الساذجة، بل لا نجده في بعض الأديان الراقية، فإذا أخذناه في تعريف الدين خرج من الحد أكثر أفراد المعرف؛ فلم يكن التعريف شاملا كاملا.
ولا يرضى دور كايم كذلك بأن يميز الدين بالخارق للطبيعة كما فعل «برونتيير
Brunetière » فإن تصور الخارق للطبيعة كما نفهمه؛ يستدعي تصور مقابله أي الطبيعي، فما يكون لنا أن نقول في أمر: إنه خارق للطبيعة حتى يكون لنا من قبل شعور بأن للأشياء نظاما طبيعيا، بمعنى أن شئون الكون مرتبطة فيما بينها بروابط ضرورية تسمى «نواميس»، وهذا الشعور هو وليد الأمس، على حين أن الدين أقدم نظام عرفه الإنسان، فلا يعقل إذن أن يكون الدين قد قام على الخارق للطبيعة، ولا أن يكون الخارق للطبيعة هو المميز للدين مما عداه.
وهناك معنى آخر كثر ما حاولوا أن يعرفوا الدين به وهو: الألوهية؛ فالدين في رأي بعضهم هو ضبط الحياة الإنسانية عن طريق الشعور برابطة تصل بين الروح الإنساني وروح غيبي يعترف البشر بسلطانه على العالم كله وعليهم مع شعورهم باتصالهم به.
ويرى دوركايم: أن هذا التعريف ليس بمقبول أيضا، فإنه إذا اعتبرت الألوهية بمعناها الضيق خرجت من التعريف أمور هي دينية بالبداهة، فأرواح الأموات والأرواح الأخر المتعددة الأنواع والمراتب التي يملأ بها الكون الخيال الديني في كثير من الأمم هي دائما موضع لمناسك، بل قد تكون أحيانا موضعا لاحتفالات تعبدية موسمية، وهي على ذلك ليست آلهة بالمعنى الحقيقي.
وقد حاول بعض العلماء أن يجعل هذا التعريف شاملا فوضع عبارة «موجودات روحانية» مكان لفظ «إله»، فالدين على هذا هو: الإيمان بموجودات روحانية، وينبغي أن نفهم من الموجودات الروحانية موجودات دراكة لها قدرة تعلو على قدرة البشر.
ولا يرضى دوركايم عن هذا التعريف كذلك، ويرى أنه مهما يبد لنا واضحا لما وقر في نفوسنا من أثر التربية الدينية؛ فإن هناك أمورا لا ينطبق عليها، مع أنها لا تخرج عن دائرة الدين، فهذا التعريف ناقص غير شامل؛ وذلك أنه توجد أديان عظيمة خلو من فكرة «الله» ومن فكرة الكائنات الروحانية كما يشهد بذلك دين البوذية القديم الصحيح. فالبوذية لا تؤمن بإله يخضع لسلطانه البشر، ومهما قيل في أمر ألوهية «بوذا»؛ فإن هذا التأليه متأخر عما هو في الحقيقة أصل الديانة البوذية.
أما التعريف الذي يختاره دور كايم فهو يفصله على الوجه الآتي: تنقسم الأمور الدينية بطبيعتها إلى قسمين أصليين: عقائد وعبادات؛ فالعقائد: هي شأن من شئون الفكر، وهي عبارة عن علم، أما العبادات: فهي عبارة عن صور خاصة للعمل، ويميز بين هذين النوعين ما يميز بين العلم والعمل.
ولا يمكن تعريف العبادات وتمييزها من سائر الأعمال الإنسانية وعلى الخصوص الأعمال الخلقية إلا بطبيعة موضوعها ومتعلقها. والواقع أن النواميس الخلقية مفروضة علينا كفرض العبادات، لكن موضوعها ومتعلقها من نوع مختلف. فلا بد إذن من تعريف متعلق العبادات حتى يمكن تعريف العبادات نفسها. ولما كانت العقائد هي التي تبين لنا هذا الموضوع أو المبدأ الذي ترجع إليه العبادة؛ فليس من الممكن تعريف العبادات حتى تعرف العقائد.
وجميع العقائد الدينية المعروفة - ساذجة كانت أم غير ساذجة - تحتوي على ذاتي مشترك بينها، هو أن الأشياء كلها ظاهرة أو باطنة على مرتبتين وعلى نوعين متقابلين: مقدس وغير مقدس، فالمميز للمعنى الديني هو تقسيم العالم إلى مقدس وغير مقدس، والأشياء المقدسة هي المحرمة التي يميزها عن غيرها ويفردها تعلق النهي بها، بخلاف الأشياء التي ليست مقدسة؛ فإنها غير محاطة بسياج من هذه النواهي. فالعقائد الدينية هي العلم بطبائع الأمور المقدسة وما بينها من روابط والعلم بعلاقاتها بالأمور غير المقدسة.
أما العبادات: فهي نظم للسلوك تقرر كيف ينبغي للإنسان أن يكون بإزاء الأشياء المقدسة.
وليست الأمور المقدسة مقصورة على الآلهة والأرواح؛ فقد يكون التقديس لصخرة أو شجرة أو بئر أو بيت أو غير ذلك.
على أن تعريف الدين بهذا التمييز بين المقدس وغير المقدس ليس وافيا في نظر دوركايم؛ لأنه يشمل أمرين مختلفين يحتاجان إلى تفرقة بينهما، وهما: السحر والدين. فإن الدين ينفر من السحر نفور السحر من الدين، والسحر نزاع إلى امتهان الأمور المقدسة، وهو في أفاعيله يعارض الأعمال الدينية، وإذا لم يكن الدين يحرم أفاعيل السحر فإنه ينظر إليها غالبا نظرة ازدراء وإنكار.
أما الذي يفرق بين الدين والسحر فهو أن العقائد الدينية على الحقيقة هي دائما مشتركة بين جماعة معينة تؤمن بها وتعمل ما يسايرها من العبادات، فليست هذه العقائد مقررة محققة بمجرد إيمان كل فرد من الجماعة بها، بل هي عقيدة الجماعة، وهي التي جعلتها جماعة. والجماعة التي يؤلف بين أفرادها إدراكهم للعالم المقدس واتحادهم في التعبير عن هذا الإدراك بصورة عملية هي ما يسمى «أهل الملة، أو الملة»
2
Eglise .
فمعنى الدين لا ينفصل عن معنى الطائفة، وذلك يشعر بأن الدين يجب أن يكون شأنا من شئون الجماعة.
وبناء على ما ذكر يكون التعريف الكامل المطرد المنعكس للدين هو ما يأتي:
الدين هو نظام من عقائد وأعمال متعلقة بشئون مقدسة، أي مميزة محرمة تؤلف من كل من يعتنقونها أمة ذات وحدة معنوية.
3
وقد عرض الأستاذ «لالاند
Lalande » في كتابه «معجم اصطلاحي ونقدي للفلسفة»
4
لمناقشة دوركايم، فقال: «يبدو لي أنه لا تناقض من جهة الشكل بين تعريف «برونتيير» للدين وتعريف «دوركايم»؛ فإن المقابلة التي يقررها «دوركايم» بين المقدس وغير المقدس
sacré et non sacré
تطابق ما يقرره «برونتيير» بين الطبيعي والخارق للطبيعة
naturel et surnaturel . والواقع: أن الذي يحقق ماهية الدين هو التمييز بين حالتين أو عالمين مختلفين اختلافا ذاتيا، أو هو بعبارة أدق: الإيمان بنوع من الموجودات أسمى من سائر الأنواع، ولعل هذا هو رأي «إكيين»
Euchen
إذ يقول: «إن الذي هو مقوم للدين وضروري له في جميع صوره هو أن يجعل في مقابلة العالم الذي يحف بنا موجودا آخر أو نوعا جديدا أرقى من سائر الأشياء، وأن يصنف الكون أصنافا من ممالك مختلفة وعوالم متباينة.» وقد يتحقق دين من غير إيمان بالله كما يشهد بذلك دين البوذية القديم الصحيح، أما من غير إثنينية في العالم ولا استشراف إلى نوع من الموجودات مختلف فلا يكون لفظ «الدين» إلا هراء من القول.»
وجملة القول أن الأستاذ «لالاند» يميز الدين بكونه يجعل في العالم إثنينية ويرتب العالم مراتب، فتعريفه للدين أعم من تعريفي «برونتيير» و«دوركايم».
ولعل الأستاذ «لالاند» لا يريد أن يقول: إن معنى الطبيعي والخارق للطبيعة هو معنى المقدس وغير المقدس؛ فقد شرح دوركايم الفرق بينهما بما لا يحتمل لبسا، بل قد يكون غرضه أن المذهبين متحدان في اعتبار الدين قائما على التفرقة بين أنواع الموجودات التي يشملها الكون لا على وحدتها وتشاكلها.
وقد حذف الأستاذ «لالاند» من تعريف الدين قيد الجمع بين طائفة من الناس، وهو القيد الذي زاده «دوركايم» ليخرج السحر، ويظهر من ذلك أنه ليس بحتم عند «لالاند» أن تكون الأمور الدينية شأنا من شئون الجماعة.
لكن يبقى أن الدين يكون حينئذ شاملا للسحر. وليس كل العلماء على رأي دوركايم في التفرقة بين الدين والسحر؛ فإن الأمم الساذجة قد يختلط دينها بسحرها، وقد يكون السحرة فيها هم الزعماء الدينيين. أما العداوة بين السحر والدين التي ذكرها «دوركايم» فلا تنشأ في الأمم حتى تجاوز دور السذاجة؛ على أن جعل الدين شأنا من شئون الجماعة الذي حسبه مخرجا للسحر ليس في الحقيقة مميزا للدين عن السحر؛ فإن السحر أيضا متصل بالجماعة وقائم على عقائدها، كما تدل عليه أبحاث العلماء في أمر السحر عند الشعوب الأسترالية. وفي ذلك يقول الأستاذان هوبير وموس: «إن الساحر الأسترالي هو عند نفسه - كما هو عند غيره - إنسان تصوره الجماعة وتسوقه إلى أداء ما صورته له.»
5
وتعريف الدين الذي اختاره الأستاذ «لالاند» هو أيضا يمكن أن يكون محلا للمناقشة؛ فإن اعتبار الموجودات كلها ليست من نوع واحد ولا في مرتبة واحدة، لا يخرج بعض مذاهب الفلسفة ولا بعض العلوم التي قد تعترف بأن في الكون أنواعا هي أسمى من أنواع في طبيعتها من غير أن يجعلها ذلك دينا، اللهم إلا إذا لوحظ في هذا التعريف معنى الإيمان لا الإدراك العلمي، فحينئذ يسلم من الاعتراض ويصبح أرجح تعريفات الدين كما هو أحدثها فيما نعلم. (5) حيرة العلماء في تعريف الدين ودلالاتها
على أن هذه الحيرة - حيرة العلماء في تحديد عناصر الدين - وهذا الخلاف بينهم على وضع تعريف يعرب عن حقيقته، كل أولئك يدل على أن العلم لم يكشف الحجب عن الدين وأسراره.
وربما كان من غرور العقل البشري أن يزعم لنفسه القدرة على هدم بناء متين متغلغل الأسس في الفطر الإنسانية من قبل أن يعرف مواد هذا البناء، أو يعرف كيف تم بناؤه.
الفصل الثاني
الدين في النظر الإسلامي
(1) كلمة «دين» العربية
أصل هذه المادة ومعانيها المختلفة في لسان العرب
في معاجم اللغة العربية معان متعددة للفظ «دين»، بلغ بها بعضهم عشرين معنى أو تزيد، لكن في هذه المعاني ما هو مولد بعضه من بعض، وفيها ما هو مجازي، وبعضها متداخل.
ومن معاني الدين اللغوية «الملة»، وهو معنى مولد كما نص عليه الراغب الأصفهاني في كتاب «المفردات في غريب القرآن»؛ إذ يقول: «والدين يقال للطاعة والجزاء، واستعير للشريعة، والدين كالملة، لكنه يقال اعتبارا بالطاعة والانقياد للشريعة.» فللدين على رأيه معنيان لغويان أصليان هما: الطاعة والجزاء، ومعنى الشريعة مستعار من المعنى الأول.
وفي تفسير النيسابوري عند قوله تعالى:
إن الدين عند الله الإسلام : «والدين في اللغة الجزاء، ثم الطاعة سميت دينا؛ لأنها سبب الجزاء.»
وفي كليات أبي البقاء: «والشريعة من حيث إنها يطاع بها تسمى دينا، ومن حيث إنها يجزى بها أيضا.»
ويرى الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل» أن المعاني الأصلية لكلمة «دين» هي الطاعة والانقياد والجزاء والحساب، ثم يجعل الدين بمعنى الملة والشريعة متفرعا من جملة تلك المعاني الثلاثة.
ويقول المستشرق «ماكدونالد»
Macdonald
في الفصل الذي كتبه عن لفظ «دين» في دائرة المعارف الإسلامية: توجد في الحقيقة ثلاث كلمات متباينة في ثنايا الخليط من المعاني الذي يحشده اللغويون للفظ «دين»: (1)
كلمة آرامية عبرية بمعنى حكم. (2)
كلمة عربية بمعنى العادة والديدن. (3)
وكلمة فارسية لا صلة لها بالكلمتين الأوليين تدل على معنى الملة.
ثم نقل عن «فولرس »
Vollers
أنه ينكر وجود هذا اللفظ عربيا أصيلا، ويقرر أن لفظ «دين» الفارسي كان مستعملا عند العرب قبل الإسلام، وأن كلمة «دين» بمعنى العادة أخذت منه.
وبعيد أن يكون لفظ «دين» بمعنى «ملة» لفظا غير عربي خصوصا مع الاعتراف بوجود اللفظ نفسه عربيا بمعنى آخر في رأي «ماكدونالد». والناظر في هذه المادة يجد من تفنن العرب في الاشتقاق منها وتعديد الصيغ وفي تشعب استعمالاتهم لها ما لم تجربه عادتهم في الكلمات المعربة.
وإذا كان استعمال «الدين» في معنى الملة استعمالا مولدا من معنى أصلي للمادة؛ فإنني لست أميل إلى رأي القائلين بأن هذا المعنى الأصيل هو الطاعة أو الجزاء أو هو جملة الطاعة والحساب والجزاء؛ ذلك بأن الطاعة تستلزم آمرا مطاعا وأمرا يطاع، فهي تستدعي أن يكون الدين ذا إله وشريعة، وكذلك الجزاء والحساب يستدعيان مجازيا محاسبا، بيد أن من أديان العرب في الجاهلية التي تسمى في لسانهم «دينا» من غير شك ما ينكر الإله القادر وينكر الحساب والجزاء، وقد أشار القرآن إلى ذلك؛ إذ يقول:
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون
1
والقرآن نفسه يسمى ما كان عليه العرب دينا؛ إذ يطلب إلى الرسول أن يقول للكافرين:
لكم دينكم ولي دين .
2
ويلاحظ أن أكثر معاجم اللغة العربية تجمع لفظ «دين» ولفظ «دين» في مقام واحد باعتبار أنهما من مادة واحدة، بل هما يردان مصدرين لفعل واحد، ولذلك يلوح لي أن صيغة «دين» أجدر بأن تكون أصلا لصيغة «دين». فإن «فعلا» في العربية أكثر استعمالا من «فعل» وأدنى إلى البساطة وسهولة الاستعمال، ويزيد هذا رجحانا في نظري أن كلمة «دين» تطلق في بعض مدلولاتها على كل شيء غير حاضر.
ففي لسان العرب: «والدين واحد الديون معروف، وكل شيء غير حاضر دين، والجمع أدين مثل أعين وديون»، أفليس من المعقول أن تكون كلمة «دين» بمعنى ملة مأخوذة من كلمة «دين» بمعنى الشيء غير الحاضر؟ فإن أساس الأديان كلها الإيمان بأمر وراء هذا الوجود المحسوس الحاضر.
وليس ذلك بمانع من أن كلمة «دين» مستعملة في لغة العرب لمعان مختلفة منها: الطاعة والحساب والجزاء، ومنها القضاء والحكم، ومنها الحال والعادة ... إلى غير ذلك. (2) الدين في لسان القرآن
هذا وقد ورد لفظ «دين» في أكثر من ثمانين موضعا من القرآن.
وفي كتاب «كليات أبي البقاء»: «وكل ما في القرآن من الدين فهو الحساب.»
ولسنا نجد لهذا القول مساغا، بل إن صاحب الكتاب نفسه ذكر بعد ذلك ما يخالفه.
أما المستشرق «ماكدونالد» فيقول: إن كل ما ورد في القرآن من لفظ «دين» يمكن تفسيره بأحد المعاني الثلاثة التي ذكرناها عنه آنفا، وهي: الحكم، والعادة، والملة.
والمفهوم من كلام الراغب الأصفهاني أن الدين في القرآن يفسر بالطاعة تارة، والجزاء تارة، ويرد بمعنى الملة أيضا.
ولعل أسلم الآراء هو ما يدل عليه كلام الراغب الأصفهاني؛ فإنك قد لا تجد كبير عناء في حمل الدين في الآيات القرآنية على معنى الجزاء أو الطاعة أو الملة.
استعمل القرآن لفظ الدين في المعاني المعروفة عند العرب على وفق استعمالاتهم. ومن تلك الاستعمالات الدلالة بلفظ «دين» على معنى الملة. وبديهي أن العرب كانوا يريدون من الدين بمعنى الملة معنى يشمل ما كان معروفا لهم من الأديان، وقد جاء القرآن والعرب في موقف تشعب ديني واضطراب. والقرآن هو أصدق مرجع في تصوير حالة العرب من هذه الناحية عند ظهور الدين الإسلامي؛ فإن القرآن أقدم ما نعرفه من الكتب العربية، وهو بما لقي من العناية بحفظه على مر العصور بين المسلمين أجدر المراجع بالثقة.
وقد ذكر القرآن في ثلاث آيات من آياته ما يدل على الأديان التي كان للعرب اتصال بها في عهده:
الآية الأولى:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
3
والآية الثانية:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
4
والآية الثالثة:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد .
5
ومذهب الصابئة على ما يحيط بتاريخه من غموض يكاد يتم الاتفاق على أنه يقر بالألوهية، ويرى أنا نحتاج في معرفة الله ومعرفة أوامره وأحكامه إلى متوسط، لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيا لا جسمانيا، ففزعوا إلى هياكل الأرواح وهي الكواكب، فهم عبدة الكواكب.
أما المجوس فهم ثنوية أثبتوا للعالم أصلين اثنين مدبرين يقتسمان الخير والشر، يسمون أحدهما «النور» والثاني «الظلمة». والمجوس الأصلية زعموا أن الأصلين لا يجوز أن يكونا قديمين أزليين، بل النور أزلي والظلمة محدثة، ويعتقد المجوس أن الدين يجب أن يكون بواسطة نبي وأن يعتمد على كتاب.
وأما المشركون فهم طوائف مختلفة؛ فصنف منهم أنكر الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني، وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد في قوله:
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ،
6
وفي قوله:
وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين
7
وصنف منهم أقر بالخالق، وأثبت حدوث العالم، وأنكر البعث والإعادة، وهم الذين أخبر عنهم القرآن في قوله:
وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم .
8
وكان من العرب من أقر بالخالق، وأثبت حدوث العالم وابتداء الخلق، وأقر بنوع من الإعادة، وأنكر الرسل، وعبدوا الأصنام، وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الآخرة، وحجوا إليها، ونحروا لها الهدايا، وقربوا القرابين، وهؤلاء هم الدهماء من العرب، وهم الذين حكى الله قولهم في آية:
ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار .
9
ومعنى الدين الذي يتسع لهذه المذاهب كلها، والذي يكون محتويا على المعنى المشترك بينها من غير أن يشمل ما لا يسمى دينا، هو المعنى القائم على أن الدين هو الإيمان بأن الموجودات كلها ليست من نوع واحد ولا في مرتبة واحدة، بل بعضها أسمى من سائر الأنواع، أو هو الإيمان بذلك بشرط أن يكون ملة تجتمع على الأخذ بها أمة من الناس.
هذا هو المعنى العام الذي ينبغي أن يفهم من لفظ «دين» في لغة العرب، كما هو المعنى العام لما يقابل لفظ «دين» في اللغات الأعجمية، أي إن هذا هو الحد التام لماهية «الدين» الذي لا يتحقق بدونه أي حقيقة دينية في أي جيل من الناس. (3) المعنى الشرعي لكلمة «دين»
ولئن كان القرآن قد استعمل لفظ «دين» بهذا المعنى الشامل كما يدل عليه تسمية نحل المشركين أديانا في قوله:
لكم دينكم ولي دين ؛ فإن القرآن قرر في أمر الدين أصولا جعلت للدين معنى شرعيا خاصا.
فالدين لا يكون إلا وحيا من الله إلى أنبيائه الذين يختارهم من عباده ويرسلهم أئمة يهدون بأمر الله كما يؤخذ من كثير من آيات الكتاب:
كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب .
10
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .
11
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما .
12
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب .
13
وهذا الدين الذي يوحيه الله إلى أنبيائه هو واحد لا يختلف في الأولين والآخرين، يدل على ذلك الآية الأخيرة:
شرع لكم من الدين ... إلخ. فقد قال مجاهد في معنى هذه الآية: «أوصيناك يا محمد وإياهم دينا واحدا»، وقال الرازي في تفسيرها: «والمراد: شرع لكم من الدين دينا تطابقت الأنبياء على صحته.» ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى:
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ،
14
يعني ملتكم ملة واحدة أي متحدة في العقائد وأصول الشرائع، أو جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة.
وقال - تعالى:
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ،
15
قال الطبري في تفسير هذه الآية: «ثم ذكر نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم
وأخبره أنه أنزل إليه الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه والحكم بما أنزل إليه فيه، دون ما في سائر الكتب غيره، وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعة غير شريعة الأنبياء والأمم قبله الذين قص عليه قصصهم، وإن كان دينه ودينهم في توحيد الله والإقرار بما جاءهم به من عنده والانتهاء إلى أمره ونهيه واحدا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكل واحد منهم ولأمته فيما أحل لهم وحرم عليهم»، وروى الطبري عن قتادة قوله: «
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، يقول سبيلا وسنة، والسنن مختلفة؛ للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل»، وروى الطبري عن قتادة أيضا: «والدين واحد والشريعة مختلفة.»
وفي القرآن الكريم أيضا :
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون * أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين .
16
قال الزمخشري: «فاختص هداهم بالاقتداء، ولا تقتد إلا بهم، وهذا معنى تقديم المفعول، والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع؛ فإنها مختلفة، وهي هدى ما لم تنسخ، فإن نسخت لم تبق هدى، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبدا.»
وقد بين القرآن هذا الدين الواحد الحق الذي لا يتغير بتغير الأنبياء في الآية الثالثة عشرة من سورة الشورى التي تقدم ذكرها:
شرع لكم من الدين ... إلخ والتي يقول البيضاوي في تفسيرها: «أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء - عليهم السلام - من أرباب الشرع.» وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله:
أن أقيموا الدين ، وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله ...
ولا تتفرقوا فيه : ولا تختلفوا في هذا الأصل، أما فروع الشرع فتختلف كما بينه في آيات أخر، منها:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ،
17
ومنها:
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا .
18
هذا الدين الواحد هو المعبر عنه في آيات من القرآن بالإيمان وعن أهله بالمؤمنين والذين آمنوا.
قال الشيخ محمد عبده في تفسير جزء «عم» عند تفسير آية:
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون * فما يكذبك بعد بالدين :
19
إلا الذين آمنوا
هم الذين صدقوا بأصل الخير والشر كما قال:
فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى ،
20
واعتقدوا اعتقادا صحيحا بالفرق بين الفضيلة والرذيلة، وبأن لأنفسهم وللعالم حاكما يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب، وأن لهم جزاء على أعمالهم: الخير بالخير، والشر بالشر، ثم كان تصديقهم هذا بالغا من أنفسهم حد أن يملك إرادتهم، فلا يعملون إلا ما وافق اعتقاداتهم، فهم يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي عددت بالتفصيل في القرآن، وجماعها: أن تكون نافعا لنفسك ولأهلك ولقومك وللناس أجمعين،
فما يكذبك بعد بالدين
الدين ها هنا هو خلوص السريرة للحق، وقيام النفس بصالح العمل، وهو ما كان يدعو إليه
صلى الله عليه وسلم
وسائر إخوانه الأنبياء.
هذا هو الدين في لسان القرآن واصطلاحه الشرعي، فلنأخذ الآن في بيان الدين عند فلاسفة الإسلام.
الدين عند الفلاسفة الإسلاميين والفرق بين الدين والفلسفة
يقول ابن حزم في كتابه «الفصل في الملل والنحل»: «الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها ليس هو شيئا غير إصلاح النفس، بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد، وحسن سياستها للمنزل والرعية، وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء بالفلسفة ولا بين أحد من العلماء بالشريعة.»
ودعوى ابن حزم: أنه لا خلاف بين أحد من الفلاسفة ولا بين أحد من العلماء بالشريعة، على أن ما ذكره هو غرض الشريعة والفلسفة جميعا ليست دعوى مسلمة؛ فإن معنى كلام ابن حزم أن غرض الفلسفة والشريعة غرض عملي، وليس ذلك بمذهب الفلاسفة ولا هو بمذهب الدينيين.
قال ابن رشد في كتاب «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»: «وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق والعمل الحق، والعلم الحق هو معرفة الله تعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء، والمعرفة بهذه الأفعال هو الذي يسمى العلم العملي.»
وقال الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل»: «قالت الفلاسفة: ولما كانت السعادة هي المطلوبة لذاتها، وإنما يكدح الإنسان لنيلها والوصول إليها، وهي لا تنال إلا بالحكمة، فالحكمة تطلب إما ليعمل بها وإما لتعلم فقط، فانقسمت الحكمة إلى قسمين: علمي وعملي ... فالقسم العملي هو عمل الخير، والقسم العلمي هو علم الحق.»
وبهذا تتشابه غاية الدين وغاية الفلسفة؛ فكلاهما يرمي إلى تحقيق السعادة من طريق الاعتقاد الحق والعمل الخير.
بل موضوعات الدين وموضوعات الفلسفة واحدة؛ ذلك رأى الفارابي في كتابه «تحصيل السعادة»؛ إذ يقول: «فالملة محاكية للفلسفة عندهم، وهما تشتملان على موضوعات بأعيانها، وكلتاهما تعطيان المبادئ القصوى للموجودات، وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلها كون الإنسان، وهي السعادة القصوى والغاية القصوى في كل واحد من الموجودات الأخر، وكل ما تعطي الفلسفة فيه البراهين اليقينية، فإن الملة تعطي فيه الإقناعات، والفلسفة تتقدم بالزمان الملة.»
والدين والحكمة عند هؤلاء الفلاسفة يفيض كلاهما عن واجب الوجود على عقول البشر بواسطة العقل الفعال.
فلا فرق إذن بين الحكمة والدين من جهة غايتهما ولا من جهة موضوعاتهما ولا من جهة مصدرهما وطريق وصولهما إلى الإنسان.
والفرق بين الدين والفلسفة عند الفارابي هو من وجه أن طرق الفلسفة يقينية، أما طريق الدين فإقناعي، ومن جهة أخرى تعطي الفلسفة حقائق الأشياء كما هي، ولا يعطي الدين إلا تمثيلا لها وتخييلا، ولا يفرق الفارابي في ذلك بين ما هو علمي وما هو عملي.
وقد ذكر الفارابي ذلك في مواضع مختلفة من كتبه، ومن ذلك قوله في كتاب «تحصيل السعادة»: «وتفهيم الشيء على ضربين: أحدهما أن تعقل ذاته، والثاني أن يتخيل بمثاله الذي يحاكيه، وإيقاع التصديق يكون بأحد طريقين: إما بطريق البرهان اليقيني، وإما بطريق الإقناع ، ومتى حصل علم الموجودات أو تعلمت فإن عقلت معانيها أنفسها أو وقع التصديق بها على البراهين اليقينية كان العلم المشتمل على تلك المعلومات «فلسفة»، ومتى علمت بأن تخيلت بمثالاتها التي تحاكيها.» وحصل التصديق بما خيل منها عن الطرق الإقناعية كان المشتمل على تلك المعلومات بتسمية القدماء «ملة».
ويرى ابن سينا: أن بين الدين والفلسفة فرقا آخر، هو وجهة الدين عملية أصالة، ووجهة الفلسفة بالأصالة نظرية، وهو يقول في رسالة الطبيعيات: «مبدأ الحكمة العملية مستفاد من جهة الشريعة الإلهية، وكمالات حدودها تتبين بها، وتتصرف فيها بعد ذلك القوة النظرية من البشر بمعرفة القوانين واستعمالها في الجزئيات، ومبادئ الحكمة النظرية مستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه ومنصرف على تحصيلها بالكمال بالقوة العقلية على سبيل الحجة.»
ويقول الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل» في معنى قول ابن سينا ما يأتي: «والأنبياء أيدوا بأمداد روحانية لتقرير القسم العملي وبطرف ما من القسم العلمي، والحكماء تعرضوا لأمداد عقلية تقريرا للقسم العلمي وبطرف ما من القسم العملي، فغاية الحكيم هو أن يتجلى لعقله كل الكون، ويتشبه بالإله الحق تعالى بغاية الإمكان، وغاية الدين أن يتجلى له نظام الكون فيقدر على ذلك مصالح العامة حتى يبقى نظام العالم وينتظم مصالح العباد، وذلك لا يتأتى إلا بترغيب وترهيب وتشكيل وتخييل، فكل ما وردت به أصحاب الشرائع والملل مقدر على ما ذكرناه عند الفلاسفة، إلا من أخذ علمه من مشكاة النبوة، فإنه ربما بلغ إلى حد التعظيم لهم وحسن الاعتقاد في كمال درجتهم.»
والتشكيل والتخييل في كلام الشهرستاني خاص بالأمور العلمية، فالفلاسفة - كما يذكره ابن تيمية في كتابه «منهاج السنة» - يقولون: «إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر وعن الجنة والنار، بل وعن الملائكة بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه، لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون أن الله تعالى جسم عظيم، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيما محسوسا وعقابا محسوسا، وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر؛ لأن مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به ويتخيلون أن الأمر هكذا، وإن كان هذا كذبا فهو كذب لمصلحة الجمهور؛ إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذا الطريق، وهؤلاء يقولون: الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها، وقصدوا أن يفهم الجمهور منها هذه الظواهر، وإن كانت الظواهر في نفس الأمر كذبا وباطلا ومخالفة للحق، فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب والباطل للمصلحة، ثم من هؤلاء من يقول: النبي كان يعلم الحق، ولكن أظهر خلافه للمصلحة، ومنهم من يقول: ما كان يعلم الحق كما يعلم نظار الفلاسفة وأمثالهم، وهؤلاء يفضلون الفيلسوف الكامل على النبي ... وأما الذين يقولون إن النبي كان يعلم ذلك، فقد يقولون: إن النبي أفضل من الفيلسوف؛ لأنه علم ما علمه الفيلسوف وزيادة، وأمكنه أن يخاطب الجمهور بطريقة يعجز عن مثلها الفيلسوف.»
وقول ابن تيمية تقرير واضح لآراء الفلاسفة وإن كان في أسلوبه وألفاظه ما لم تجر به عادة الحكماء.
الوحي
الفصل الأول
معاني كلمة: «الوحي»
(1) المعاني اللغوية لكلمة «الوحي»
لم يشر أحد علمناه من اللغويين ومن ألفوا في الدخيل من كلام العرب إلى أن لهذا الحرف أصلا غير عربي، ويؤيد ذلك أن من المعاني التي دل العرب عليها ببعض صيغ هذه المادة شئونا طبيعية تسبق الأمم في بداوتها إلى التعبير عنها من غير انتظار للدخيل، فقد قال اللغويون: إن الوحي كالوحي الصوت عامة، وقيل: الوحاة صوت الطائر، ووحاة الرعد صوته الممدود الخفي، والوحي النار ... إلخ. وإذا كان في اللغة العربية ألفاظ أصيلة لم تستمد من لسان أجنبي - وليس ذلك موضعا لنزاع - فأول ما ينبغي أن يكون من هذه الألفاظ ما يعبر به عن مثل النار والصوت وصوت الرعد أو صوت الطيور.
والوحي: مصدر «وحى إليه يحي» من باب «وعد»، وأوحى إليه بالألف مثله، ومصدره: الإيحاء، وهو قليل الاستعمال، وبعض العرب يقول: وحيت إليه ووحيت له وأوحيت إليه وأوحيت له، ولغة القرآن الفاشية أوحى بالألف من التعدية بإلى، وأما في غير القرآن العظيم فوحيت إلى فلان مشهورة، يقال: وحيت إليه بالشيء وحيا وأوحيت، وهو أن تكلمه بكلام يفهمه عنك ويخفى على غيره، بأن يكون على سبيل الرمز والتعريض، أو يكون بصوت مجرد عن التركيب، أو يكون إسرارا لا يسمعه غيره، ووحيت إليه بخبر كذا أي: أشرت وصوت به رويدا، ويقال: وحى إليه وأوحى: أومأ ببعض الجوارح أو أشار بسرعة، ومنه: وحى الحاجب واللحظ بمعنى سرعة إشارتهما، ويقال: وحيت الكتاب وحيا فأنا واح، والكتاب موحي، وأوحى لغة فيه أيضا، والوحي: الكتابة والمكتوب، وأوحى الرجل: إذا بعث برسول ثقة إلى عبد من عبيده ثقة، وأوحى إليه: بعثه، وأوحى إليه: ألهمه، ويقال: وحت نفسه: وقع فيها خوف، وأوحى الإنسان: إذا صار ملكا بعد فقر، ووحي وأوحى: إذا ظلم في سلطانه، والنائحة توحي الميت: تنوح عليه، والوحي بالقصر والمد: السرعة، والوحي: النار، ويقال للملك: وحى من هذا، فكأنه مثل النار ينفع ويضر، والوحي: السيد من الرجال، والوحي: الصوت يكون في الناس وغيرهم كالوحي، ووحاة الرعد: صوته الممدود الخفي، وقيل الوحاة: صوت الطائر.
وذكر اللغويون لكلمة الوحي نفسها معاني كثيرة، هي: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، والمكتوب، والأمر، وكل ما ألقيته إلى غيرك، والتسخير، والرؤيا الصادقة، والصوت يكون في الناس وغيرهم، ثم قالوا: إن الوحي قصر على الإلهام وغلب استعماله فيما يلقى من عند الله تعالى إلى الأنبياء كما في «المصباح المنير»، أو إلى الأنبياء والأولياء كما في «مفردات الراغب الأصفهاني».
وليس لنا من سبيل إلى ترتيب هذه المعاني وتعرف ما هو سابق منها وما هو لاحق، ما هو أصل منها وما هو فرع، بل لا سبيل لنا إلى تمييز ما استعملته العرب في جاهليتها مما قد يكون ولد في الإسلام أو أنشئ إنشاء.
على أن المفهوم من كلام اللغويين إذ يقولون: إن الوحي غلب استعماله فيما يلقى إلى الأنبياء من عند الله تعالى - وهم يريدون الغلبة في لسان الدين الإسلامي - إن الإسلام قصر الوحي على معنى من معانيه كانت العرب تعرفه في استعمالاتها وكانت تفهمه على وجه من الوجوه.
أما تفاصيل معنى الوحي فقد أحاطتها العهود الإسلامية بنظريات لم يكن ليتوجه إلى مثلها العقل العربي في بداوته، كما سيأتي بيانه.
وقد عرض كثير من اللغويين لبيان المعنى الأصلي لمادة الوحي الذي اشتق منه المعنى الذي غلب في الاستعمال، وهذا دليل على أنهم يجعلون هذا المعنى فرعيا وإن لم يكن من مستحدثات الدين الإسلامي.
ويمكننا أن نجمل هذا البحث في آراء أربعة:
أولها:
أن أصل الوحي في اللغة كلها إسرار وإعلام في خفاء، فهذا أصل الحرف، ولذلك صار الإلهام يسمى وحيا، وقد صرح بذلك «لسان العرب».
وثانيها:
أن اشتقاق الوحي بمعنى الإلهام من الوحي بمعنى السرعة؛ لأن الوحي يجيء بسرعة ويتلقى بسرعة، وهذا ما يشير إليه الراغب الأصفهاني في كتاب «المفردات في غريب القرآن»، وأبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي في كتاب «ألف باء»، وابن خلدون في «المقدمة»، واختاره القاضي عياض في «الشفاء».
وثالثها:
أن أصل المادة السرعة والخفاء معا، فالوحي الإعلام السريع الخفي، وإليه ذهب ابن قيم الجوزية في كتاب «مدارج السالكين» وأبو البقاء في «الكليات».
ورابعها:
أن أصل هذه المادة هو إلقاء الشيء إلى الغير، فأصل الإيحاء إلقاء الموحي إلى الموحى إليه، وهذا رأي ابن جرير الطبري في تفسيره لقوله - تعالى:
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك . (2) الوحي في القرآن
ورد ذكر هذه المادة في سبعين آية من القرآن، منها أربع وستون آية مكية، وست آيات مدنيات، وأكثر ما ورد في الآيات القرآنية إنما هو الفعل ماضيا ومضارعا.
أما كلمة «الوحي» فجاءت في القرآن ست مرات في سور كلها مكية.
فعل الوحي في القرآن
وفعل الوحي في القرآن مسند غالبا إلى الله، وهو في كثير من الآيات مبني للمجهول، وقد جاء في آيات إسناد الوحي إلى غير الله؛ فأسند إلى شياطين الإنس والجن في الآية 112 من السورة 6 (الأنعام، مكية)، وفي الآية 121 من هذه السورة نسبة الوحي إلى الشياطين، وفي الآية 11 من السورة 19 (مريم، مكية) نسبة الوحي إلى زكريا، وفي الآية 51 من السورة 42 (الشورى، مكية):
أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ؛ أي الرسول، وفي الآية العاشرة من السورة 53 (النجم، مكية):
فأوحى إلى عبده ما أوحى ، ومن وجوه تفسير هذه الآية فأوحى أي جبريل.
أما الموحى إليه فهو في أكثر الأمر النبي
صلى الله عليه وسلم
أو غيره من الأنبياء - عليهم السلام، وورد الوحي إلى الحواريين في الآية 111 من السورة الخامسة (المائدة، مدنية)، وفي الآية 93 من السورة 6 (الأنعام، مكية) الموحى إليه ليس نبيا على الحقيقة، وفي الآية 112 من السورة 6 (الأنعام، مكية) الموحى إليه شياطين الإنس والجن، وفي الآية 121 من السورة نفسها الموحى إليه هم أولياء الشياطين، وفي الآية 12 من السورة 8 (الأنفال، مدنية) الموحى إليه هم الملائكة، وفي الآية 68 من السورة 16 (النحل، مكية) الموحى إليه النحل، وفي الآية 38 من السورة 20 (طه، مكية) الموحى إليه أم موسى، وفي الآية 7 من السورة 28 (القصص، مكية) الموحى إليه أم موسى أيضا، وفي الآية 12 من السورة 41 (فصلت، مكية):
وأوحى في كل سماء أمرها . وفي الآية الخامسة من السورة 99 (الزلزال، مدنية):
بأن ربك أوحى لها
أي الأرض.
وقد فسروا الإيحاء في هذه الآية الأخيرة بالأمر أو الإعلام كما في الطبري، أو التسخير كما ذكره الراغب في المفردات.
أما الآية 12 من سورة فصلت فقد فسر الطبري قوله تعالى فيها:
وأوحى في كل سماء أمرها
بأن المراد: ألقى في كل سماء من السماوات السبع ما أراد من الخلق، وفي تفسير البيضاوي:
وأوحى في كل سماء أمرها : شأنها وما يتأتى منها، وقيل: أوحى إلى أهلها بأوامره.
أما الوحي إلى أم موسى فقد قال المفسرون إن معنى «أوحينا إليها»: قذفنا في نفسها، وليس وحي نبوة، وفي «الكشاف»: الوحي إلى أم موسى إما أن يكون على لسان نبي في وقتها، كقوله - تعالى:
وإذ أوحيت إلى الحواريين ، وإما أن يكون معناه: بعثت إليها ملكا لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم، وإما أن يكون معناه أنه أراها ذلك في المنام فتتنبه عليه، وإما أن يكون معناه أنه ألهمها، كقوله - تعالى:
وأوحى ربك إلى النحل ، فمعنى الآية إذن: أوحينا إليها أمرا لا سبيل إلى التوصل إليه ولا العلم به إلا بالوحي، وفيه مصلحة دينية، فوجب أن يوحى .
وفسروا الوحي إلى النحل بالإلهام والقذف في النفس، وفسره الراغب الأصفهاني بالتسخير.
ولم يعن المفسرون بتبيين المراد من الإيحاء إلى الملائكة في آية الأنفال، وقال الراغب الأصفهاني في «المفردات»: «وقوله:
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم
فذلك وحي إليهم بوساطة اللوح والقلم فيما قيل.»
ووحي الشياطين من الإنس والجن بعضهم إلى بعض (آية 112 من سورة الأنعام) كوحي الشياطين إلى أوليائهم، هو الوسوسة والإسرار بالمزين من الأقوال الباطلة.
وأما الآية 93 من السورة 6 (الأنعام):
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ؛ فقد قال الطبري في تفسيرها: «يعني - جل ذكره - بقوله:
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ، يعني ممن اختلق على الله كذبا فادعى عليه أنه بعثه نبيا وأرسله نذيرا، وهو في دعواه مبطل وفي قيله كاذب، وهذا تسفيه من الله لمشركي العرب وتجهيل منه لهم في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح والحنفي مسيلمة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
بدعوى أحدهما النبوة ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ونفي عن نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم
اختلاق الكذب عليه ودعوى الباطل.»
أما آية
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي
فيقول الطبري في تفسيرها: إن ألفاظ أهل التأويل اختلفت في تأويل قوله تعالى
وإذ أوحيت ، وإن كانت متفقة المعاني؛ فقال بعضهم: وإذ أوحيت إلى الحواريين: قذفت في قلوبهم، وقال آخرون: معنى ذلك: ألهمهم»، وفي البيضاوي: «وإذ أوحيت إلى الحواريين؛ أي: أمرتهم على ألسنة رسلي.»
هذا فيما يتعلق بالآيات التي ورد فيها فعل الوحي موجها إلى غير الأنبياء.
وأما الآيات التي أسند فيها فعل الوحي إلى غير الله تعالى فقد سبق القول في اثنتين منها، وهما آيتا الأنعام.
أما الآية 11 من السورة 19 (مريم، مكية) وهي قوله تعالى:
فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا
فقد قال الطبري في تفسيرها : «وقوله
فأوحى إليهم
يقول: أشار إليهم، وقد تكون تلك الإشارة باليد وبالكتاب وبغير ذلك مما يفهم به عنه ما يريد.»
وما ورد في الآية 51 من سورة الشورى من قوله:
أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء
فسره الطبري بقوله: «أو يرسل الله من ملائكته رسولا - إما جبريل وإما غيره - فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه ما يشاء، يعني ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهي وغير ذلك من الرسالة والوحي.»
أما قوله تعالى في سورة النجم:
فأوحى إلى عبده ما أوحى ؛ فقال الطبري: اختلف أهل التأويل في ذلك: فقال بعضهم: معناه: فأوحى الله إلى عبده محمد وحيه، وقال آخرون: بل معنى ذلك: فأوحى جبريل إلى عبده محمد
صلى الله عليه وسلم
ما أوحى إليه ربه، وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فأوحى جبريل إلى عبده محمد
صلى الله عليه وسلم
ما أوحى إليه ربه.
وفيما عدا الآيات السابقة يذكر فعل الوحي في القرآن مسندا إلى الله - تعالى - أو مبنيا للمجهول، وفي حالة بنائه للمجهول يكون الفاعل هو الله تعالى أيضا كما يفهم ذلك من سياق الكلام.
كلمة «الوحي» في القرآن
وأما لفظ «الوحي»؛ فقد ورد في القرآن ست مرات هو فيها كلها من الله تعالى والموحى إليه فيها جميعها من الأنبياء، وهذا هو إيحاء الله إلى أنبيائه ورسله أي إلقاؤه إليهم ما يريد أن يعلموه من المعارف الدينية.
وعبر القرآن عن هذا المعنى بالتنزيل، فجعل القرآن وحيا وجعله تنزيلا كما قال:
وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها ،
1
وقال:
إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ،
2
وقال:
نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان .
3
وعبر عنه أيضا بالكلام في قوله:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ؛
4
حيث جعل الوحي نوعا من كلامه وقسما من أقسامه؛ ففرق بين تكليم الوحي والتكليم بإرسال الرسول والتكليم من وراء حجاب.
لكن في السورة الرابعة (سورة النساء، مدنية) ما يدل على أن التكليم غير الوحي وقسيم له، وذلك إذ يقول - عز وجل:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما .
5
فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده، ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلمه، وهذا يدل على أن التكليم الذي حصل له أخص من مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية، ثم أكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز، قال الفراء: «العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلاما، بأي طريق وصل، ولكن لا تحققه بالمصدر، فإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام.»
ويذهب ابن قيم الجوزية في كتابه «مدارج السالكين» إلى أنه يمكن جعل الوحي قسما من أقسام التكليم وجعله قسيما للتكليم باعتبارين؛ فإنه قسيم التكليم الخاص الذي يكون من الله لعبده بلا واسطة بل منه إليه، وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة.
وعلى هذا فالوحي قسم من كلام الله العام الذي جاءت به آية الشورى، وهي الآية التي جعلت كلام الله لعباده على ثلاثة أنحاء لا يجاوزها.
وقد ذكر المفسرون في تأويل هذه الآية أنه ما صح لأحد من بني آدم أن يكلمه ربه إلا على أحد ثلاثة أوجه؛ إما على الوحي، وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام، وإما على أن يسمعه كلامه ولا يراه من غير واسطة مبلغ، كما كلم نبيه موسى - عليه السلام - وإما على أن يرسل الله من ملائكته رسولا - جبريل أو غيره - فيبلغ ذلك الملك إلى المرسل إليه البشري ما يشاء الله من أمر ونهي وغير ذلك، وقيل: إن معنى قوله «وحيا» أن يوحي إلى الرسل عن طريق الملائكة، ومعنى قوله: «أو يرسل رسولا » أي نبيا كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم، وكثير من المؤلفين - كابن قيم الجوزية في كتاب «مدارج السالكين» وابن حزم في الفصل - يميل إلى جعل الآية مفيدة لتسمية القسم الأول والثالث وحيا، وتسمية الثاني كلاما بالإطلاق؛ وذلك لأن الثاني لا يسميه القرآن وحيا، وإنما «هو تكليم في اليقظة من وراء حجاب، دون وسيطة الملك، لكن بكلام مسموع بالآذان، معلوم بالقلب، زائد على الوحي الذي هو معلوم بالقلب فقط أو مسموع من الملك عن الله تعالى»، ويؤيد ذلك أن الآية وصفت القسم الأول بأنه وحي، وذكرت في الثالث فعل الوحي، ووصفت الثاني بأنه تكليم من وراء حجاب، ولعل كلام الطبري في تفسيره ينزع هذا المنزع.
أما الفخر الرازي فيرى: أن كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة وحي، إلا أنه تعالى خصص القسم الأول باسم الوحي؛ لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام فهو يقع دفعة، فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى، وكون الأول وحيا ظاهر، وكذلك الثالث، أما الثاني فيستدل عليه بدليل أن الله تعالى أسمع موسى كلامه من غير واسطة مع أنه سماه وحيا، قال - تعالى:
فاستمع لما يوحى .
6
ونحن إذا استقصينا مادة الوحي في القرآن وجدنا الاسم المصدري يستعمل في الدلالة على القسم الأول غالبا، ويستعمل أحيانا في تنزيل القرآن على النبي كما في قوله - تعالى:
ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ،
7
وتنزيل القرآن من قبيل النوع الثالث؛ إذ هو كلام من الله بواسطة جبريل بنص القرآن نفسه في أكثر من موضع، أما فعل الوحي فقد استعمل في الأقسام الثلاثة، فيكون القرآن قد قصر اسم الوحي على ما يكون إلهاما وقذفا في النفس أو ما يكون بواسطة الملك، على حين استعمل الفعل في الدلالة على هذين القسمين وعلى كلام الله لأنبيائه بلا واسطة من وراء حجاب.
وليس في القرآن تفصيل لمعاني هذه الأقسام الثلاثة.
غير أن المفهوم من جملة الآيات أن القسم الأول غير خاص بالأنبياء؛ فقد أوحى الله إلى الحواريين وأوحى إلى أم موسى ، وذلك بناء على أن الوحي فيما ذكر مفسر بالإلهام والإلقاء في القلب. وبعض المفسرين يجعل الوحي في ذلك إعلاما بواسطة المرسلين في زمنهم كما سبق، ليخص الوحي بمعنى الإلهام بالأنبياء، وعلى كل حال فهذا المعنى روحي لا يقبل أن تتجه الأفكار فيه إلى التأويل على نحو مادي.
وأما القسم الثاني، وهو الكلام من وراء حجاب، فقد كان منذ فجر الإسلام مجالا لتنازع الآراء وتصادم المذاهب، حتى ليقول الرازي في تفسيره: إن القائلين بأن الله في مكان يستدلون بقوله:
أو من وراء حجاب .
وأما القسم الثالث، وهو إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري فيوحي إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه؛ فإن التوفيق بين نصوص القرآن فيه لم يكن موضع وفاق دائما، وهذا النوع من الوحي هو الذي جاء القرآن من سبيله، وقد عبر عنه بنزول الملائكة، وذلك في ظاهر اللفظ حركة من الأعلى إلى الأسفل تعطي صورة مادية للملك ونزوله، وفي الآية 25 من السورة 25 (الفرقان، مكية):
ونزل الملائكة تنزيلا ، ويتسق مع هذه الصورة ما ورد في القرآن من استواء الله على العرش،
8
ومن جعل الملائكة حافين من حول العرش،
9
ومن رؤية النبي لجبريل،
10
ويتسق معه كذلك قوله - عز وجل:
إليه يصعد الكلم الطيب ،
11
وقوله:
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ،
12
وقوله:
يخافون ربهم من فوقهم ،
13
وقوله:
تعرج الملائكة والروح إليه .
14
لكن بعض الآيات يفيد أن الملك النازل بالوحي روح، وأنه يتصل بقلب النبي اتصالا روحيا، كقوله - تعالى:
نزله روح القدس ،
15
وقوله:
نزل به الروح الأمين * على قلبك ،
16
وقوله:
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك .
17
وهكذا كان الرأي في هذا النوع من الوحي مختلفا بين من يراه نزول الملك من السماء إلى الأرض لإبلاغ النبي دين الله وشرعه، وبين من يراه تلقفا روحانيا عن الله العلي بواسطة الملك الروحاني. (3) الوحي في السنة
أكثر ما ورد في كتب السنة من أمر الوحي - كالذي ورد في كتب الشمائل والسير - إنما هو تفاصيل طويلة الذيول في بدء الوحي إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وفي كيفية نزول الوحي عليه وبيان العوارض التي كانت تغشاه عندما يأتيه الملك من قبل الله، وبالجملة فهو تحليل موسع لكل ما يتعلق بشأن محمد مع الملأ الأعلى.
والروح السائد فيما تضمنته هذه الكتب ينزع غالبا إلى تصوير الملك والوحي بصور مادية، فأحاديث بدء الوحي تمثل جبريل جسما، حتى إنه يهمز الأرض برجله فينبع عين ماء يتوضأ منه جبريل ويتوضأ منه النبي كما في تاريخ الخميس والمواهب اللدنية. وحديث المعراج كما في البخاري صورة مجسمة للسماء وكل ما في السماء، وفيه تكليم الله لنبيه كفاحا من غير حجاب، وهذا على مذهب من يقول إنه
صلى الله عليه وسلم
رأى ربه تبارك وتعالى، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف، وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة في إنكار رؤية النبي لله مواجهة، كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعا للصحابة.
18
وقد فصلت في كتب الحديث والسير مراتب الوحي التي كانت للنبي - عليه السلام - تفصيلا بلغ حد السرف أحيانا، فقد نقل صاحب المواهب اللدنية أن الحليمي ذكر أن الوحي كان يأتي النبي على ستة وأربعين نوعا، ولعل المعتدلين هم الذين أخذوا من الأحاديث سبع مراتب للوحي نعتمد في نقلها على ابن قيم الجوزية في «زاد المعاد» والقسطلاني في «المواهب اللدنية» والسهيلي في «الروض الأنف»: (1)
الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه
صلى الله عليه وسلم ؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والمدة التي كان يوحى إليه في المنام فيها ستة أشهر إلى أن استعلن له جبريل، وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحذير من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام»، والذي هو من أسباب الهداية هو الرؤيا التي تكون من الله خاصة، ورؤيا الأنبياء وحي؛ فإنها معصومة من الشيطان، وهذا باتفاق الأئمة، ولهذا أقدم إبراهيم على ذبح إسماعيل - عليهما السلام - بالرؤيا.
19 (2)
ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال
صلى الله عليه وسلم : «إن روح القدس
20
نفث في روعي
21
أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله؛ فإن ما عند الله لا يطلب إلا بطاعته.» (3)
كان يتمثل له الملك رجلا، فيراه عيانا، ويخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، فقد كان يأتيه أحيانا في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وكان جميلا وسيما، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا. (4)
أنه كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيلتبس به الملك، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليها حتى كادت ترضها.
وعبر عن هذه المرتبة ابن قيم الجوزية في «مدارج السالكين» بما نصه: «وقد يدخل فيه الملك ويوحي إليه ما يوحيه ثم ينفصم عنه أي يقلع.» (5)
أن يرى الملك في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه. (6)
ما أوحى الله إليه به وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلوات وغيرها بواسطة جبريل. (7)
تكليم الله له من وراء حجاب بلا واسطة ملك كما كلم موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى بنص القرآن، وهي ثابتة للنبي في حديث الإسراء.
وزاد بعضهم مرتبة ثامنة؛ وهي تكليم الله له من غير حجاب، وهذا رأي من يقول إن النبي رأى ربه، وهي مسألة خلافية كما تقدم.
وذكر السهيلي مرتبة أخرى؛ هي نزول إسرافيل عليه بكلمات من الوحي قبل جبرائيل، فقد وكل به إسرافيل، فكان يتراءى له ثلاث سنين، ويأتيه بالكلمة من الوحي، ثم وكل به جبريل فجاءه بالقرآن.
وذكر السهيلي كذلك حالة أخرى؛ وهي تكليم الله له بلا واسطة في المنام.
هذه هي جملة الصور التي تمثلها لنا السنة من الوحي إلى النبي محمد - عليه الصلاة والسلام.
وذلك مع الذي أسلفناه من القول في الوحي في القرآن يشرح لنا معنى الوحي على ما يؤخذ من النصوص الدينية الإسلامية.
الفصل الثاني
أهم النظريات في تفسير الوحي
(1) مذاهب المتكلمين في الوحي
مذاهب المتكلمين من أهل السنة خصوصا تنزع في تفسير الوحي نزوعا جسمانيا يناسب ما ورد في أكثر السنن، وما تدل عليه ظواهر الآيات في غير موضع من القرآن الكريم.
ويتناول المتكلمون مباحث الوحي غالبا من ناحيتين:
الأولى: وحي القرآن الكريم إلى محمد
صلى الله عليه وسلم
بواسطة جبريل.
الناحية الثانية: الوحي الحاصل بسماع كلام الله من غير واسطة.
الناحية الأولى: وحي القرآن إلى محمد
الملائكة عند المتكلمين أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة خلافا للفلاسفة وأوائل المعتزلة.
والقرآن منزل على النبي - عليه الصلاة والسلام - بواسطة جبريل، وفي كيفية إنزال القرآن ثلاثة أقوال:
أولها:
أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو عشرين سنة حسب اختلاف المؤرخين.
وثانيها:
أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين ليلة من ليالي القدر، ينزل في كل ليلة منها ما يقدر الله إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك هذا القدر منجما في جميع السنة.
الثالث:
أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات.
وهناك قول رابع غير مشهور، وهو أن القرآن نزل جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على النبي عشرين سنة.
واختلفوا في معنى الإنزال؛ فمنهم من قال: إن معناه إظهار القراءة، ومنهم من قال: إن الله ألهم كلامه جبريل وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض، ومنهم من قال يتلقفه الملك من الله تلقفا روحانيا، أي يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه، ومنهم من جعل اختلاف العلماء في معنى الإنزال مترتبا على اختلافهم في معنى القرآن؛ فالذين يقولون: إن القرآن معنى قائم بذاته تعالى يقررون أن إنزاله هو إيجاد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى وإثباته في اللوح المحفوظ، والذين يقولون إن القرآن هو اللفظ يقررون أن إنزاله هو مجرد إثباته في اللوح.
وأشهر ما قيل في المنزل على النبي
صلى الله عليه وسلم
ثلاثة أقوال: أحدها: إنه اللفظ والمعنى، وثانيها: أن جبريل نزل بالمعاني خاصة، وأنه
صلى الله عليه وسلم
علمها وعبر عنها بلغة العرب وقد تمسك أصحاب هذا المذهب بظاهر قوله - تعالى:
نزل به الروح الأمين * على قلبك ؛ وثالثها: أن جبريل ألقي عليه المعنى، وأنه عبر عن هذا المعنى بلغة العرب؛ لأن أهل السماء يقرأونه بالعربية، ثم نزل به في هذه الصورة على الرسول.
ومنهم من قال: كلام الله المنزل قسمان: قسم قال الله تعالى بشأنه لجبريل - عليه السلام - قل له كذا وكذا؛ فيجوز تغييره بعبارة نفسه، وقسم قال له بشأنه اقرأ عليه كذا كذا فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا. ويرى أصحاب هذا المذهب أن القرآن هو القسم الثاني، وأن القسم الأول هو السنة، لما ورد أن جبريل نزل بالسنة كما نزل بالقرآن، ولهذا لم يجز تغيير نظم القرآن وجاز تغيير لفظ السنة.
ويقول المتكلمون: إن في التنزيل طريقين: إحداهما انخلاع النبي
صلى الله عليه وسلم
من صورة البشرية إلى صورة الملكية ثم أخذه من الملك، وثانيتهما تمثل الملك بصورة البشرية حتى يأخذ الرسول منه، ويقررون أن الحالة الأولى - وهي الترقي من البشرية إلى الملكية - ميسورة للرسول، ويؤيدون ذلك بما ورد من نزول جبريل في زمن صبا النبي ليطهر قلبه عن المادة التي تمنعه من الترقي، قال أنس: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقة، وقال هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طشت من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه وأعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (يعني ظئره) فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.»
ويقررون كذلك: أنه لا يشترط في الرسول شرط من الأعراض والأحوال المكتسبة بالرياضات والمجاهدات في الخلوات والانقطاعات، ولا استعداد ذاتي من صفاء الجوهر وذكاء الفطرة، بل الله يختص برحمته من يشاء من عباده. فالنبوة رحمة وموهبة متعلقة بمشيئة الله تعالى فقط، وإلى هذا يشير صاحب «الجوهرة» في قوله:
ولم تكن نبوة مكتسبة
ولو رقى في الخير أعلى عقبة
بل ذاك فضل الله يؤتيه لمن
يشاء جل الله واهب المنن
الناحية الثانية: الوحي الحاصل بسماع كلام الله من غير واسطة
ينقسم القائلون بأن كلام الله هو هذه الحروف المسموعة والأصوات المؤلفة إلى فريقين: أحدهما: الحنابلة الذين قالوا بقدم هذه الحروف، وهؤلاء يرون أن الرسول أو الملك يسمع هذه الحروف والأصوات القديمة من الله بغير واسطة. والفريق الثاني يقول بحدوث هذه الحروف والأصوات، ومن هؤلاء من يقول بأن هذه الحروف والأصوات الحادثة قائمة بذاته الله تعالى فالرسول يسمع الحروف والأصوات الحادثة القائمة بالذات القديمة من غير وساطة، وأولئك هم الكرامية، ومن هذا الفريق الثاني المعتزلة، وهم يقولون: إن هذه الحروف والأصوات ليست قائمة بذاته - تعالى - بل يخلقها في جسم آخر، وفسروا قوله - تعالى:
أو من وراء حجاب
بأن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه؛ لأنه في ذاته غير مرئي، كما يكلم المحتجب بعض خواصه وهو من وراء حجاب؛ فيسمع صوته ولا يرى شخصه، وذلك كما كلم موسى ويكلم الملائكة. ويقول المعتزلة: إن هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يرى؛ لأنه تعالى حصر أقسام وحيه في هذه الثلاثة، ولو صحت رؤية الله تعالى لصح من الله أن يتكلم مع العبد حينما يراه العبد، ويكون ذلك قسما رابعا، ورد عليهم القائلون بأن الله يرى يوم القيامة بزيادة قيد في الآية - أي في الدنيا - للتوفيق بين الآيات.
وأما الأشعرية الذين زعموا أن كلام الله صفة قديمة تدل عليها هذه العبارات والألفاظ فقد اتفقوا على أن قوله:
من وراء حجاب
هو أن الملك أو الرسول يسمع ذلك الكلام المنزه عن الحروف والصوت من وراء حجاب، قالوا: ولما لم يبعد أن ترى ذات الله - مع أنه ليس بجسم ولا في حيز - فأي بعد في أن يسمع كلام الله، مع أنه لا يكون حرفا ولا صوتا؟!
وزعم أبو منصور الماتريدي السمرقندي أن تلك الصفة القائمة بذات الله يمتنع كونها مسموعة؛ وإنما المسموع حروف وأصوات يخلقها الله تعالى في شجرة مثلا، وهذا القول قريب من قول المعتزلة. (2) مذهب الفلسفة الإسلامية في الوحي
يقول ابن سينا في رسالته في النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم: «فمن العادة في الشريعة تسمية القوى اللطيفة غير المحسوسة ملائكة.»
ويقول في حد الملك في رسالته الحدود: «هو جوهر بسيط ذو حياة ونطق عقلي غير مائت، وهو واسطة بين الباري - عز وجل - والأجسام الأرضية.»
وفي رسالة إثبات النبوات: «ثم بينوا أن الأفلاك لا تفنى ولا تتغير أبد الدهر، وقد ذاع في الشرع أن الملائكة أحياء قطعا لا يموتون كالإنسان الذي يموت؛ فإذا قيل: إن الأفلاك أحياء ناطقة لا تموت، والحي الناطق الغير الميت يسمى ملكا، فالأفلاك تسمى ملائكة.»
والذي يعنينا فيما نحن بصدده هو الملك بالمعنى الأخير؛ أي النفوس السماوية والعقول التي هي جواهر روحانية غير متميزة ولا قائمة بمتحيز، أما النفوس فمجردة في ذواتها متعلقة بأجرام الأفلاك تعلق تصريف من غير أن تقوم بها، وتسمى ملائكة سماوية، وأما العقول فمجردة ذاتا وفعلا وتسمى بالملأ الأعلى.
ولئن اختلفت الفلاسفة في أن الملائكة ماهيات مخالفة بالنوع للأرواح البشرية، فإنهم لم يختلفوا في أن النفوس الإنسانية مجردة في ذاتها عن المادة غير حالة فيها بل هي لامكانية، ولها نسبة في التجرد إلى المجردات العالية، وخاصة إلى النفوس السماوية المنتقشة بصور ما يحدث في هذا العالم؛ لكونها مبادئ لما يحدث في هذا العالم؛ وما الوحي عند الفلاسفة الإسلاميين إلا اتصال النفوس الناطقة البشرية بعقول الأفلاك ونفوسها؛ ذلك بأن النفس الإنسانية لها استعداد لقبول المعقولات بالفعل، وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فلا بد له من سبب يخرجه إلى الفعل، وذلك السبب يجب أن يكون موجودا بالفعل، فلا يجوز أن يكون جسما؛ لأن الجسم مركب من مادة وصورة، والمادة أمر بالقوة، فلا بد إذن أن يكون السبب جوهرا مجردا عن المادة، وهو العقل الفعال المجرد عن المادة وعن كل قوة، فهو الفعل من كل وجه.
وقد فصل ابن سينا القول في تمكن النفوس الناطقة من الاتصال بعقول الأفلاك ونفوسها في كتاب «الإشارات» على الوجه الآتي: (1)
إن القوى النفسانية متجاذبة متنازعة، فالنفس حال اشتغالها بتدبير القوة العقلية لا يمكنها الالتفات إلى القوة الشهوانية وبالعكس، والنفس إذا ما استخدمت الحواس الباطنة ضعفت الحواس الظاهرة، فإن الإنسان حالما يكون مستغرقا في تخيل أو فكر ربما حضر عنده المبصر القوي والمسموع القوي، ثم إنه مع سلامة الحس لا يشعر بشيء من ذلك. (2)
الحس المشترك هو القوة التي تحصل فيها صور الأمور التي تحس بالحواس الخمس، وللصور المرتسمة في الحس المشترك أربع درجات:
إحداها:
أن تصير مشاهدة في ابتداء ارتسامها من المحسوسات الخارجة.
ثانيتها:
بقاء الإحساس بهذه الصور مع بقاء المحسوسات في الخارج.
ثالثتها:
بقاء الإحساس بها بعد زوال المحسوس الخارجي.
ورابعتها:
حصول الإحساس بها وإن لم يوجد المحسوس في الخارج ألبتة.
والدليل على تحقق هذه الدرجة الرابعة أن المرضى والممرورين يشاهدون صورا محسوسة لا يراها غيرهم، فتلك الصور إما أن تكون معدومة أو موجودة، ولا جائز أن تكون معدومة؛ لأن العدم نفي محض لا يكون مشاهدا، فهي إذن موجودة، وليست موجودة في الخارج، وإلا لرآها كل سليم الحس، فهي موجودة في غير الخارج، ولا يمكن أن تكون موجودة في النفس الناطقة التي لا تدرك الجزئيات ولا ترتسم فيها صور المحسوسات، فهي إذن مرتسمة في قوة جسمانية ليست هي البصر؛ لأن هذا الشاهد ربما كان أعمى وربما شاهد ذلك بالليل، ولأن البصر لا يدرك إلا الموجود في الخارج، فثبت أن الحس المشترك قد يشاهد صورا لا وجود لها في الخارج، فكما ترتسم صور محسوسة بالحواس الظاهرة في الحس المشترك ثم تنتقل إلى خزانة الخيال، كذلك لا بأس أن تنتقل الصور الموجودة في خزانة الخيال أو الصور التي تركبها المتخيلة إلى الحس المشترك؛ لأن الحال فيها قريب من الحال بين المرايا المتقابلة. (3)
وإنما يمنع الصور المتخيلة أن تكون جميعها محسوسة في كل الأوقات والأحوال مانعان:
أحدهما:
حسي خارج عائد إلى القابل، وهو الحس المشترك؛ فإنه إذا كان مشغولا بالصور الواردة عليه من الحواس الظاهرة صرفه ذلك عن غيره ولواه عن مخزونات الخيال.
والثاني:
عقلي أو وهمي باطن، وهو عائد إلى الفاعل؛ فإن العقل أو الوهم إذا استخدم القوة المفكرة وصارت مشغولة بخدمة أحدهما لم تتمكن من تركيب الصور وتحليلها وتشبيحها، ومتى لم توجد تلك الصور استحال انجذابها إلى الحس المشترك.
فإذا وجد المانعان معا لم يحصل إحساس بالصور المتخيلة، أما إذا زال أحدهما وبقي الآخر فربما استولى المتخيل على الحس المشترك فلاحت فيه الصور محسوسة مشاهدة. (4)
وعند النوم يزول هذان المانعان عن القابل والفاعل، أما الفاعل فإن النفس مشغولة بتدبير البدن وإعانة القوة الهاضمة، فلا تفرغ لتدبير القوة المتخيلة، فتكون هذه مشغولة بنفسها متمكنة من التشبيح والتلويح كيف شاءت من غير مانع؛ وأما القابل فلأن الحس المشترك خال عن النقوش الواردة عليه من الحس الظاهر؛ إذ الحس الظاهر يركد بالنوم.
ومتى حصل الفاعل والقابل بالتمام والكمال حصل الفعل لا محالة، فلا جرم ظهرت هذه الصور في المنام وصارت كالأمور المشاهدة. (5)
أما في حالة المرض فإن النفس تنجذب كل الانجذاب إلى جهة المرض فيشغلها أمر التدبير لإصلاح البدن عن تدبير المتخيلة، فضعف أحد الضابطين للمتخيلة، فقويت على التشبيح، فلاحت تلك الأشباح في الحس المشترك. (6)
النفس إذا كانت قوية قويت على حفظ عين ما أدركته ولم تنتقل منه إلى ما يحاكيه، وإذا كانت ضعيفة ضعفت عن حال المدركات، فربما انتقلت من الشيء إلى ما يحاكيه ويشاركه من بعض الوجوه، ثم من ذلك المحاكي إلى ما يحاكيه مرة أخرى؛ فلا تزال تنتقل من الشيء إلى ما يحاكيه إلى أن تصل إلى أمر لا يناسب المدرك الأول بوجه، وهذا إنما يكون لاستيلاء القوة المتخيلة وضعف النفس عن إصلاحها، والنفس إذا قويت جدا لم يكن اشتغالها بتدبير البدن عائقا لها عن اتصالها بالعالم العقلي، ولم يكن التفاتها إلى أحد الجانبين شاغلا لها عن الالتفات إلى الآخر. (7)
وكما أن النفس تتصل عند النوم بالعقول التي فيها نقش الموجودات كلها فينطبع في النفس ما في تلك العقول من صور الأشياء لا سيما ما يناسب غرض الرائي كانطباع صورة في مرآة، ثم تركب المتخيلة صورا مناسبة لها، ثم تنحدر تلك الصور إلى الحس المشترك، كذلك قد تحصل مثل هذه الحالة في اليقظة إذا كانت النفس قوية وافية بالجانبين، فتتصل النفس بالعقول وتدرك من هناك أمورا، ثم تركب المتخيلة صورا مناسبة لتلك التعقلات، ثم تنحدر تلك الصور إلى لوح الحس المشترك، فتصير محسوسة، فتحصل حينئذ صور وسماع كلام وإن لم يكن لشيء من ذلك وجود في الخارج. (8)
وإذا اتصلت النفس بالعقول المفارقة في يقظة أو نوم كان الأثر الحاصل فيها على أقسام:
أحدها:
أن يكون ضعيفا جدا فلا يحرك الخيال والذكر ولا يبقى أثر فيهما ألبتة.
وثانيها:
أن يكون أقوى من ذلك، إلا أن الخيال يمعن في الانتقال من المعنى إلى ما له تعلق به على وجه الشبه أو التضاد.
وثالثها:
أن يكون قويا جدا، فترتسم الصورة في الخيال ارتساما جليا تاما.
فإن كانت الصورة جزئية، ووقعت من النفس في المصورة، وحفظتها الحافظة على وجهها، من غير تصرف المتخيلة، مضبوطة في الذكر في حال اليقظة أو النوم ضبطا مستقرا؛ كان ذلك إلهاما أو وحيا صراحا أو حلما لا يحتاج إلى تعبير.
وما كان قد بطل هو وبقيت محاكياته احتاج الوحي إلى تأويل والحلم إلى تعبير.
فالوحي عند الفلاسفة هو اتصال النفس الإنسانية الناطقة بالنفوس الفلكية اتصالا معنويا يجعلها تشرف على ما فيها من صور الحوادث فترتسم في النفس البشرية من تلك الصور ما يستعد لارتسامه فيها كمرآة يحاذي بها مرآة أخرى فيها نقوش فينعكس منها إلى الأولى ما يقابلها .
وليس عندهم فرق بين الوحي والإلهام إلا أن الأول يكون للنبي ويكون الثاني للعارف أو الولي، وللنبوة استعداد ذاتي، ففي القوى النفسانية لمن له النبوة خصائص ثلاث: (1)
أن تصفو نفسه صفاء شديدا، وتقوى قوة لا تشغلها الحواس عن النظر إلى عالم العقل، فتستعد استعدادا خاصا للاتصال بالعقول المفارقة بأدنى توجه، ويفيض عليها من علم الغيب ما لا يدرك بالفكر والقياس. (2)
أن يكون في جوهر نفسه قوة تؤثر في هيولي العالم بإزالة صورة وإيجاد صورة؛ وذلك أن الهيولي منقادة لتأثير النفوس المفارقة، مطيعة لقواها السارية في العالم، وقد تبلغ نفس إنسانية في الشرف حدا يناسب تلك النفوس فتفعل فعلها وتقوى على ما قويت عليه. (3)
أن يرى الملائكة مصورة بصورة محسوسة ويسمع كلامهم وحيا من الله، وذلك بقوة نفسه واتصالها بعالم الغيب في اليقظة وقوة المتخيلة ومحاكاتها ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة، فتكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف صورة عجيبة في غاية الحسن، وهو الملك الذي يراه النبي، وتكون المعارف التي تتصل بالنفس من اتصالها بالجواهر الشريفة تتمثل بالكلام الحسن المنظوم الواقع في الحس المشترك فيكون مسموعا.
يكون كل ذلك باستعداد ذاتي في نفس النبي ويحصل للولي بالرياضة والمجاهدة. (3) رأي التصوف في الوحي
النبوة - كما يقول الغزالي في «المنقذ من الضلال» - عبارة عن طور تحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل، كما أن العقل طور من أطوار الآدمي تحصل فيه عين يبصر بها أنواعا من المعقولات الحواس معزولة عنها، والعلم الذي يحصل لا بطريق الاكتساب والتعلم وحيلة الدليل ينقسم: إلى ما لا يدري العبد أنه: كيف حصل له؟ ومن أين حصل؟ وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب. والأول يسمى إلهاما ونفثا في الروع، والثاني يسمى وحيا وتختص به الأنبياء، والأول تختص به الأولياء والأصفياء.
فلا فرق بين الوحي والإلهام في شيء إلا في مشاهدة الملك المفيد للعلم، فإن العلم إنما يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة.
وميل أهل التصوف متجه إلى هذه العلوم الإلهامية دون التعليمية، وقد قالوا: إن الطريق إلى ذلك تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال على الله بهمة خالصة، وبذلك يصير العبد متعرضا لنفحات رحمة الله؛ فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق.
وبعد هذا قال الغزالي في كتاب «إحياء علوم الدين»: «إن حقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ، بل في قلوب الملائكة المقربين؛ فكما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة، فكذلك فاطر السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة، ومهما ارتفع الحجاب بين القلب وبين اللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجر إليه العلم منه، فإذن للقلب بابان: باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة، وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة، والفرق بين علوم الأولياء والأنبياء وبين علوم العلماء والحكماء هذا: وهو أن علومهم (يقصد الأولياء والأنبياء) تأتي من داخل القلب المنفتح إلى عالم الملكوت، وعلم الحكمة يأتي من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك، وهناك فرق آخر: هو أن العلماء يعملون في اكتساب نفس العلوم واجتلابها إلى القلب، وأولياء الصوفية يعملون في جلاء القلوب وتطهيرها وتصفيتها وتصقيلها فقط لتترشح للفيض من جانب الملأ الأعلى.»
أما الملأ الأعلى، فيقول الدهلوي في كتاب «حجة الله البالغة»، بيانا له:
اعلم أنه قد استفاض من الشرع أن لله تعالى عبادا هم أفاضل الملائكة ومقربو الحضرة، لا يزالون يدعون لمن أصلح نفسه وهذبها وسعى في إصلاح الناس، فيكون دعاؤهم سببا لنزول البركات عليه، ويلعنون من عصى الله وسعى في الفساد؛ فيكون لعنهم سببا في وجود حسرة وندامة في نفس العامل وإلهامات من صدور الملأ السافل أن يبغضوه ويسيئوا إليه إما في الدنيا أو بعد الموت، ويكونون سفراء بين الله وبين عباده، وإنهم يلهمون في قلوب بني آدم خيرا ؛ أي يكونون أسبابا لحدوث خواطر الخير فيهم بوجه من وجوه السببية. وإن لهم اجتماعات كيف شاء الله وحيث شاء الله، ويعبر عنهم باعتبار ذلك بالرفيق الأعلى والندي الأعلى والملأ الأعلى، وإن لأرواح الأفاضل من الآدميين دخولا فيهم ولحوقا بهم.
والملائكة على ثلاثة أقسام: قسم علم الحق أن نظام الخير يتوقف عليهم، فخلق أجساما نورية فنفخ فيها نفوسا كريمة.
وقسم اتفق حدوث مزاج في البخارات اللطيفة من العناصر استوجبت فيضان نفوس شاهقة شديدة الرفض للألواث البهيمية.
وقسم هم نفوس إنسانية قريبة المأخذ من الملأ الأعلى ما زالت تعمل أعمالا منجية تفيد اللحوق بهم، حتى طرحت عنها جلابيب أبدانها فانسلكت في سلكهم وعدت منهم.
وأفاضل الملأ الأعلى - الذين هم القسم الأول - تجتمع أنوارهم وتتداخل فيما بينها عند الروح الذي وصفه النبي
صلى الله عليه وسلم
بكثرة الوجوه والألسنة، فتصير هنالك كشيء واحد وتسمى حظيرة القدس.
وربما حصل في حظيرة القدس إجماع على إقامة حيلة لنجاة بني آدم بتكميل أزكى خلق الله يومئذ وإمضاء أمره في الناس، فيوجب ذلك تمثل علوم فيها صلاح البشر وهداهم في قلبه وحيا ورؤيا وهتفا وأن تتراءى له وتكلمه شفاها.
وهذا أصل من أصول النبوة، ويسمى إجماعهم المستمر بتأييد روح القدس، ويثمر هناك بركات لم تعهد في العادة فتسمى المعجزات.
أما القسم الثاني قسم النفوس التي استوجب فيضانها حدوث مزاج معتدل في بخارات لطيفة فإنهم دون الأولين.
وكمال هذه النفوس أن تكون فارغة لانتظار ما يترشح من فوقها، فإذا ترشح شيء بحسب استعداد القابل وتأثير الفاعل انبعثوا إلى ذلك الشيء، كما تنبعث الطيور والبهائم بالدعاوى الطبيعية، فأثروا في قلوب البشر وغيرهم حتى تنقلب إرادتها وأحاديث نفوسها إلى ما يناسب الأمر المراد، وقد تؤثر في بعض الأشياء الطبيعية بمضاعفة حركاتها وتحولاتها، كما يدحرج حجر فأثر فيه ملك، فمشى في الأرض أكثر مما يتصور في العادة، وربما ألقى الصياد شبكة فجاءت أفواج من الملائكة تلهم في قلب هذه السمكة أن تقتحم وهذه أن تهرب، وربما تقابلت فئتان، فجاءت الملائكة تزين في قلوب هذه الشجاعة والثبات، وتلهم حيل الغلبة، وتؤيد في الرمي وأشباهه، وفي قلوب تلك أضداد هذه الخصال ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
وبين الوحي عند الصوفية والوحي عند الفلاسفة تشابه غير خفي.
فالوحي عند هؤلاء وأولئك إشراف من النفس الإنسانية على حقائق الكون المثبتة في عالم فوق عالمنا، لكن بين المذهبين مع هذا التشابه فروقا.
فالعالم العالي عند الفلاسفة عقول مجردة ونفوس هي عقول الأفلاك ونفوسها وصور الأشياء منقوشة فيها بحكم أنها مصادر لها وأسباب لوجودها وبحكم أنها مجردة بطبعها دراكة. واتصال النفوس البشرية بهذه النفوس الملكية هو اتصال روحي يطبعها بما أشرفت عليه من المعارف كمرآة تحاذى بها مرآة أخرى.
أما العالم العالي عند الصوفية الذي يفيض منه الوحي والإلهام فهو أمران: لوح محفوظ؛ كتب الله فيه على الوجه الذي أراده ما كان وما يكون، وملائكة هم أجسام من نور ذوو نفوس كريمة لها على باقي اللوح اطلاع، وهي أيضا ألواح خطت فيها صنوف من العلم الإلهي، وما الوحي إلا أن يتلقى النبي من الملك شرائع إلهية، مع شهود الملك وسماع خطابه؛ إذ لا يجمع بين شهود الملك وسماع خطابه إلا الأنبياء، وأما الولي فإن سمع صوتا فإنه لا يرى صاحبه، وإن رأى الملك فإنه لا يسمع له كلاما، كما في كتاب الكبريت الأحمر.
والناظر فيما بين مذهب الفلاسفة والصوفية من تخالف يحس بأن منشأه أن الأولين أخذوا يفسرون النصوص الدينية بما يوافق ما استقر عندهم من نظام الكون وترتيب العوالم سفليها وعلويها، فهم يجعلون الملائكة التي وردت في لسان الشرع عبارة عن العقول المجردة والنفوس الفلكية التي أثبتتها فلسفتهم، ويؤولون النصوص تأويلا يتفق مع أغراضهم.
والصوفية يعتمدون أولا على النصوص الدينية، ويحاولون مبلغ جهدهم أن يشرحوا مبهمها، ويوفقوا بين ظواهر التضارب بينها، مضطرين إلى الركون إلى منازع الفلسفة، وإلى ما يسمونه ذوقا تقصر عنه العبارة ويدركه العارفون، فهم أقل إمعانا في التأويل وهم أقل وضوحا. (4) مذهب ابن خلدون في الوحي
يقول ابن خلدون في «المقدمة »: إن الذي يذكره في تفسير حقيقة النبوة جار على ما شرحه كثير من المحققين.
ولا شك أن الذي أدلى به في أمر النبوة والوحي متأثر بمذاهب الفلاسفة والصوفية، ولكن فيه من الطرافة وجدة التوجيه ما يجعله مذهبا جديدا.
العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة عجيبة من الترتيب وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض. فعالم العناصر متدرج من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلا بعضها ببعض، وكل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعدا وهابطا، ويستحيل بعض الأوقات، والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض.
وعالم التكوين يبتدئ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. فآخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، وآخر أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان. ومعنى الاتصال في هذه الكائنات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب أن يصير أول الأفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهت في التدريج إلى الإنسان صاحب الفكر والروية.
ثم إنا نجد في العوالم - على اختلافها - آثارا متنوعة تشهد كلها بأن لها مؤثرا مباينا للأجسام؛ فهو روحاني ويتصل بالكائنات؛ لوجوب اتصاله بهذه العوالم في وجودها، وذلك هو النفس المدركة المحركة، ولا بد فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة ويتصل بها أيضا ويكون بذاته إدراكا صرفا وتعقلا محضا، وهو عالم الملائكة.
فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات في لمحة من اللمحات، وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل، وهؤلاء هم الأنبياء، فطروا على الانسلاخ من البشرية جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى، ليصيروا في لمحة من اللمحات ملائكة بالفعل، ويحصل لهم شهود الملأ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة، فإذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك الملأ الأعلى ما يتلقونه عاجوا به على المدارك البشرية منزلا في قواها لحكمة التبليغ للعباد، فتارة يسمع النبي دويا كأنه رمز من الكلام، وتارة يتمثل له الملك رجلا فيكلمه ويعي ما يقوله، والتلقي من الملك والرجوع إلى المدارك البشرية وفهمه ما ألقى عليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر؛ لأنه ليس في زمان؛ بل كلها تقع جميعا، فيظهر كأنها سريعة، ولذلك سميت وحيا؛ لأن الوحي في اللغة: الإسراع.
وترتيب العوالم كلها على درجات منتظمة الحلقات، متصلة ذواتها وقواها بعضها ببعض بحيث يكون آخر كل أفق منها مستعدا استعدادا قريبا لأن يصير أولا للأفق الذي بعده، هو نظر طريف من أنظار ابن خلدون. وتفسير الوحي بأنه مفارقة البشرية إلى أفق الملائكة والملأ الأعلى، وتلقي الكلام الإلهي النفسي كما تتلقاه الملائكة، ثم الرجوع إلى المدارك البشرية التي تمثل ذلك الطور الروحاني بصور وأصوات، وتعليل الشدة التي يعانيها النبي عند التنزيل وما يحدث له من الغيبة والغطيط بأن مفارقة البشرية والانسلاخ عنها إلى أفق آخر شيء عسير خصوصا في بادئ الأمر - كل ذلك منزع من منازع ابن خلدون الجديدة.
ويقول ابن خلدون: إن نزول القرآن في مكة منجما على سور وآيات أقصر مما نزل بالمدينة سببه أن الاعتياد شيئا فشيئا على ما في الوحي من جهد يورثه بعض السهولة، فبدئ بالقصير حين كانت مشقة الوحي أشد.
ومذهب ابن خلدون يرجع بعد هذا إلى رأي الفلاسفة وشيء من مذهب الصوفية. (5) الوحي عند المسلمين في العصور الحديثة
يلاحظ أن الرأي السائد بين المسلمين في أمر الوحي يميل في عصور الركود النظري إلى مذاهب المتكلمين، ويتأثر برأي الفلاسفة في عصور النهوض.
وقد كان رأي المتكلمين في أبعد صوره عن الروحانيات هو الذائع في البلاد الإسلامية في العصور القريبة لا يكادون يتدارسون غيره، حتى جاء الشيخ محمد عبده يقرر أن الوحي عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة. والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت، ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على شعور منها، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور، ومن النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به لأن تتصل بالأفق الأعلى وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا وتشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إلى تعقله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان، ووجود بعض الأرواح العالية وظهورها لأهل تلك المرتبة السامية مما لا استحالة فيه عقلا، وتمثل الصوت وأشباح لتلك الأرواح في حس من اختصه الله بتلك المنزلة ليس بالأمر الغريب.
وهذا هو مذهب الفلاسفة بعينه وإن طرزت حواشيه بصور من مذاهب المتكلمين.
الإسلام
الفصل الأول
النظريات المختلفة في العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكلمة
«إسلام»
(1)
الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله النبي العربي المولود بمكة سنة 571م، المتوفى بالمدينة سنة 632م؛ معروف باسم «الإسلام» منذ عهده الأول، وقد يسمى «السلم» (بكسر السين) و«السلم» (بفتحها) على ما ذكره «لسان العرب». وهذه الأسماء الثلاثة هي ألفاظ عربية المادة والصيغة، فلها عند العرب معان هي حقائق لغوية، ولما استعملت النصوص المقدسة الإسلامية هذه الألفاظ في الدلالة على الدين الإسلامي كان ذلك بالضرورة تصرفا في المعنى اللغوي الأصلي.
وقد جرى عرف العلماء على تسمية الألفاظ المستعملة في معان وضعها لها الشرع «بالأسماء الشرعية» كالصلاة، والزكاة، والحج، وكالإيمان والكفر، وربما خص ما يتعلق بالعقائد، مثل الإيمان والكفر، بالأسماء الدينية، ويذكرون في كتب أصول الفقه خلافا في الأسماء الشرعية نفيا وإثباتا في الوقوع، على معنى أن ما استعمله الشارع من أسماء أهل اللغة كالصوم والإيمان هل خرج به عن وضعهم إلى وضع مستحدث أو لم يخرج به عن وضعهم وإنما استعمله استعمالا مجازيا جاريا على أساليبهم؟
قال بالأول القاضي أبو بكر الباقلاني (المتوفى سنة 404ه / 1103م)، وقال بالثاني المعتزلة والخوارج والفقهاء. ويستفاد من البحث الذي فصله الآمدي بهذا الصدد أن علماء الإسلام يعتبرون المعاني الشرعية متفرعة عن المعاني اللغوية وثيقة الصلة بها.
1 (2)
وقد عني المفسرون والمتكلمون واللغويون وغيرهم من الباحثين برد المعنى الشرعي للفظ «إسلام» إلى أصله اللغوي.
وجمع الفخر الرازي (المتوفى سنة 606ه / 1209م) في تفسيره لقوله - تعالى:
إن الدين عند الله الإسلام
جملة المذاهب في ذلك؛ فقال: «وأما الإسلام ففي معناه في أصل اللغة ثلاثة أوجه، الأول: أنه عبارة عن الدخول في السلم؛ أي في الانقياد والمتابعة، قال - تعالى:
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا
2 ... أي لمن صار منقادا لكم ومتابعا لكم، والثاني: من أسلم؛ أي دخل في السلم، كقولهم: أسنى وأقحط، وأصل السلم السلامة، والثالث: قال ابن الأنباري (المتوفى سنة 328ه / 938م): المسلم معناه المخلص لله عبادته من قولهم سلم الشيء لفلان خلص له، فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى.»
3 (3)
أما المحدثون: فجمهرة المستشرقين منهم ترى أن اسم «إسلام» يرجع إلى معنى من الطاعة والخضوع غير إرادي؛ أي التسخير لإرادة قاهرة، يقول جولد صيهر
Goldziher : «إسلام بمعنى خضوع؛ أي خضوع المؤمن لله، وهذه الكلمة، التي هي أوفى من كل كلمة غيرها في تعيين المنزلة التي جعلها محمد للمؤمن في علاقته بمعبوده، عليها طابع ظاهر من الشعور بالتبعية والقدوة لا تحيط بها حدود، ويجب على الإنسان أن يستسلم لها متبرئا من كل حول له وقوة».
4
ويشير إلى مثل ذلك القول أرنولد
Arnold
في الفصل الذي كتبه عن «إسلام» في دائرة المعارف الإسلامية
Encyclopédie de l’Islam ، ولا يختلف ما ذكره بابنجر
Babinger
في الفصل الذي كتبه عن الإسلام في كتاب «أديان العالم»
Religions du Monde
عن كلام جولد صيهر في شيء.
وقد تنبه سيد أمير علي إلى أن أمثال هؤلاء المستشرقين اعتبروا معنى الانقياد الذي فسر به لفظ إسلام انقيادا مطلقا لإرادة لا حدود لسلطانها، ولا كسب لأحد معها، فجاء يبين في كتابيه «روح الإسلام
Sprit of Islam » و«الإسلام
Islam » أن ليس في استعمال كلمة إسلام لغة أو شرعا ما يدل على معنى الانقياد المطلق والخضوع المتضمن لمعنى الجبر كما يفرضه عادة أكثر الباحثين من علماء الغرب. على أن سيد أمير علي يقرر أن المعنى الشرعي للإسلام هو الكد في تحري الرشد والتماس الفلاح بتزكية النفس، كما يؤخذ من الآيات:
وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ،
5
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها .
6
وذلك يستلزم معنى الطاعة الإرادية ظاهرا وباطنا، والرشد هو الهدى والفلاح، وهو الذي يهدي إليه القرآن من تصديق خبر الله وامتثال أمره، كما يقول ابن قيم الجوزية.
7
وبهذا البيان يتضح ما في كلام «إدوارد سل
Edward Sell » من التعسف في تأويل رأي سيد أمير علي.
8
يرى إدوارد سل: أن اعتبار المؤلفين الأوروبيين أن لفظ «إسلام» يعبر عن الإذعان التام لإرادة الله في كل شئون العقائد والأحكام توسع في فهم معنى اللفظ؛ إذ هو إنما يدل على معنى أخص من الإذعان المطلق، فهو إنما يدل على الإذعان العملي، ويستشهد بقول سيد أمير علي أن الإسلام هو تحري الرشد.
ثم يحاول إدوارد سل أن يجعل جملة ما ورد في القرآن من لفظ «إسلام» ومشتقاته مؤديا معنى الانقياد الظاهر والطاعة بالجوارح، ويزعم أن المفسرين يبدو أنهم مجمعون على استعمال اللفظ في معنى آلي، ويقول: إن هذا يتفق وعدم ورود كلمة «إسلام» في السور الأولى؛ إذا هي لم ترد إلا ثماني مرات منها ست في السور المدنية واثنتان في السور المكية الأخيرة، ويرجع ذلك إلى أن أركان اليد العملية لم تصر جزءا منه على وجه قاطع حتى كون محمد دينه في المدينة، ويخلص من ذلك إلى: أن لفظ «إسلام» عندما ينظر إليه من وجهة النظر المحمدية يفقد كثيرا من جماله الروحي الذي تجمع حول فكرة الخضوع التام لإرادة الله، ويصبح مؤيدا للمبدأ اليهودي القائل بأن المهم ليس هو روح الشريعة، بل المهم هو مراعاة الأداء الصوري لواجبات ظاهرة خاصة.
ودعوى إدوارد سل: أن كلام سيد أمير علي يفيد قصر الإسلام على خضوع الجوارح دون خضوع القلب لا يمكن أن يؤخذ من عبارات «سيد أمير علي» وليس في كتابيه ما يؤيدها، ومحاولة «إدوارد سل» أن يجعل جملة ما ورد في القرآن من لفظ «إسلام» وما اشتق منه مؤديا معنى الانقياد الظاهر والطاعة بالجوارح فقط محاولة لا تقوم على أساس؛ لأن ما ذكر في القرآن من لفظ «إسلام» وما اشتق منه مقابلا للإيمان ومخالفا له - بحيث يدل الإسلام على العمل الظاهر والإيمان على التصديق - لا يعدو ثلاث آيات على ما ورد في كتاب «حجج القرآن»،
9
أو لا يعدو أربعا كما هو الواقع؛ إذ ترك صاحب هذا الكتاب آية 5 س66 (التحريم، مدنية)، أما إجماع المفسرين على استعمال لفظ إسلام في معنى آلي فغير صحيح كما يتضح لكل مطلع على التفاسير المختلفة للقرآن، وسيأتي ما يؤيد ذلك فيما يلي، وعدم ورود لفظ «إسلام» في السور الأولى لا ينتج ما يريد أن يستنتجه المؤلف؛ فقد وردت صيغة اسم الفاعل من «أسلم» في 39 آية، المكيات منها 24 والمدنيات 15، وبعض هذه المكيات في سور غير متأخرة كما في آية
أفنجعل المسلمين كالمجرمين (آية 35 من سورة 68، القلم، مكية) وهي السورة الثانية في ترتيب نزول القرآن على ما نقله صاحب الفهرست عن نعمان بن بشير، وكما في آية:
وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا (آية 14 من سورة 72، الجن، مكية) التي ورد فيها الفعل أيضا.
ولكارا دي فو
Carra de Vaux
رأي في معنى كلمة «إسلام» وأصلها، بينه على الوجه الآتي:
كان من تبع إبراهيم يسمى حنيفا، ومعناه المائل؛ لأنهم مالوا عن عبادة الأصنام التي كانت قد فشت في العالم، أو يسمى المسلم أي الذي يجدد ويصون الشيء سالما، ذلك بأنهم جددوا وصانوا التوحيد الخالص، وتفسير «مسلم» بأنه المستسلم لله أو المسلم نفسه لله أبعد غورا في التصوف من أن يكون المعنى الأصلي.
10
وهذا الرأي غير وجيه من الناحية اللغوية؛ فإنه ليس في مادة «إسلام» ولا صورتها ما يؤيده على مقتضى أصول اللغة وقواعد الاشتقاق، فما علمنا بأن من مدلولات هذه المادة التجديد أو الصون، ولا رأينا أن صيغة أفعل تفيد أحد هذين المعنيين.
الفصل الثاني
الرأي الراجح في العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكلمة «إسلام»
(1)
من تأمل فيما ذكره اللغويون من معاني مادة «سلم» على اختلاف ألفاظها وصيغها متحريا البحث عما يصلح أن يكون أصلا يتفرع عنه سائر المعاني؛ وجد في كتب اللغة المعتبرة - مثل: كتاب الاشتقاق لابن دريد، والصحاح للجوهري، والمفردات في غريب القرآن، ولسان العرب لابن منظور، والمصباح المنير للفيومي - أن «السلم» بكسر السين و«السلم» بكسر اللام الحجارة الصلبة، سميت بذلك لسلامتها من الرخاوة والواحدة سلمة، واستلم فلان الحجر الأسود هو افتعل من السلمة، وأن «السلم» بفتحتين شجر عظيم له شوك ورقه القرظ يدبغ به، واحده «سلمة» بفتحتين أيضا، كأنما سمي بذلك لاعتقادهم أنه سليم من الآفات، ويقال: منه سلمت الجلد (بفتح اللام) أسلمه (بكسرها) إذا دبغته بالسلم. ولعل هذه المعاني هي التي ينبغي أن تكون هي الأصل الأول لمادة سلم، وعنها تفرعت جميع الاستعمالات الأخرى؛ ذلك بأن هذه المعاني هي أمور مادية محسوسة قريبة إلى حياة البداوة، فهي أجدر أن تكون أصلا لوضع المعاني المجردة. وقد ولد العرب من هذه المعاني معاني أخرى وضعية حقيقية قائمة على معنى الخلوص الذي هو ملحوظ في المعاني الأولى.
وهذه المعاني الحقيقية المولدة هي: (1) معنى الخلوص من الشوائب الظاهرة أو الباطنة، وفي معاجم اللغة أن السلم بفتح فسكون والسلام والسلامة تكون بمعنى الخلوص والتعري من الآفات الظاهرة أو الباطنة. (2) معنى الصلح والأمان، ويقول اللغويون: إن السلم والسلم بكسر السين وفتحها لغتان في الصلح، يذكران ويؤنثان كالسلام. (3) معنى الطاعة والإذعان، فالسلم بفتحتين على ما في كتب اللغة والسلم بفتح فسكون والسلم بكسر فسكون الاستسلام والإذعان والطاعة.
ويرد اللغويون «السلام» - الذي هو اسم من أسماء الله، والسلام بمعنى التحية والدعاء - إلى معنى الخلوص والسلامة من المكاره والآفات، ورد السلم بمعنى السلف
1
إلى هذا المعنى غير عسير.
وفعل أسلم يستعمل في اللغة على وجهين؛ أحدهما: أن يستعمل لازما، والآخر: أن يستعمل متعديا.
واللازم يكون بمعنى الدخول في السلم بمعنى الصلح أو الطاعة، وقد ذكر علماء الصرف أن صيغة أفعل اللازم: تأتي بمعنى الدخول في شيء كأصبح بمعنى دخل في الصباح، وأقحط : دخل في القحط، وأعرق: دخل في العراق.
وأما المتعدي: فصيغة أفعل فيه ترد للتعدية وهي تصيير الفاعل قبل دخول الهمزة مفعولا، فأسلم الشيء لفلان منقول بالهمزة عن سلم الشيء لفلان: خلص له من غير منازع، كسلمه له تسليما المنقول بالتضعيف، وحقيقة معناه: أخلصه له وجعله له سالما.
ولفظ «إسلام» مصدر «أسلم» لازما كان أم متعديا فهو صالح للدلالة على كل ما يدل عليه الفعل من المعاني السالفة.
هذه هي جملة المعاني اللغوية لمادة «سلم» وما تفرع عنها. وقد ورد في القرآن استعمال كثير من صيغ هذه المادة في معانيها اللغوية.
فورد معنى الخلوص والبراءة من الشوائب الظاهرة والباطنة في قوله:
قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها
2
وفي قوله:
إلا من أتى الله بقلب سليم .
3
وورد في غير هاتين الآيتين أيضا، وجاء معنى الصلح في مثل قوله تعالى:
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم
4
وقوله:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم .
5
واستعمل القرآن بعض صيغ هذه المادة في معنى الانقياد والخضوع كما في قوله:
بل هم اليوم مستسلمون .
6 (2)
على أن القرآن استعمل لفظ «إسلام» وفعله والوصف منه في معنى شرعي خاص، وقد اختلفوا في هذا المعنى الشرعي على مذاهب ثلاثة: (أ)
قال قائلون: إن الإسلام هو الإيمان، ومعنى الإيمان باتفاق أهل العلم من اللغويين وغيرهم التصديق كما في لسان العرب، وذهب هذا المذهب الفخر الرازي في تفسيره لآية:
إن الدين عند الله الإسلام
مستدلا عليه. (ب)
وقال آخرون: إن لفظ «إسلام» يطلق في لسان الشرع على معنيين؛ أحدهما: الإيمان، والثاني: معنى أعم من الإيمان، وهو الانقياد بالقلب أو بالظاهر، وقد نقل هذا المذهب النووي في شرحه على صحيح مسلم عن الخطابي.
ومن القائلين بأن لفظ «إسلام» يطلق في لسان الشرع على معنيين من يفسر هذين المعنيين بما فسرهما به الراغب الأصفهاني؛ فيذهب إلى أن أحد المعنيين هو الإيمان، ويفسر الإيمان بالاعتراف باللسان، وأن الثاني فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف باللسان اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل واستسلام لله في جميع ما قضى وقدر. (ج)
وقال قائلون: إن الإسلام يطلق شرعا على ثلاثة معان، وعلى هذا جرى الغزالي في الإحياء، وهذه المعاني الثلاثة هي:
أولا:
إطلاق الإسلام بمعنى الاستسلام ظاهرا باللسان والجوارح، مع إطلاق الإيمان على التصديق بالقلب فقط، وبذلك يكون الإيمان والإسلام مختلفين.
ثانيا:
أن يكون الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والقول والعمل جميعا، ويكون الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب، فالإيمان أخص من الإسلام.
ثالثا:
أن يجعل الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والظاهر جميعا، وكذا الإيمان، وعلى هذا فالإسلام والإيمان مترادفان. (3)
وأثر الفرق الإسلامية ظاهر قوي في هذا الخلاف المرتبط بمسألة احتدم فيها النزاع بين الفرق، وهي مسألة الكفر بارتكاب الكبيرة.
فالأشعرية لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه ما لم يرتكبه مستحلا له غير معتقد تحريمه، خلافا للخوارج القائلين بأن مرتكب الكبائر يكفر ويزول عنه الإيمان، وخلافا للقدرية والمعتزلة القائلين بأنه يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فيكون بين الكفر والإيمان.
7
بل إن الفرق جعلت مسألة المعنى الشرعي للإسلام والإيمان من أسس نزاعها صراحة؛ فالأشعري يقول في الإبانة: «ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا.»
8
ويقول الطبرسي الشيعي في تفسيره مجمع البيان: «والإسلام والإيمان بمعنى واحد عندنا وعند المعتزلة.»
9
فالخلاف على هذه المسألة إنما هو في الحقيقة من تمحلات الفرق والتماسها دقائق البحث اندفاعا وراء جموح النظر؛ فهو مصطنع اصطناعا. (4)
ولكنهم يريدون أن يلتمسوا سببا لهذا الخلاف في القرآن نفسه، وعندهم أن منشأه أن علماء الإسلام وجدوا في آيات القرآن ما ذكر فيه الإسلام مقابلا للإيمان على وجه يشعر بالتغاير بينهما:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ،
10
عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات ،
11
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات ،
12
الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ،
13
كما وجدوا في آيات ما يدل على أن الإسلام والإيمان واحد:
وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ،
14
فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ،
15
يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين .
16
وقد أرادوا التحلل من هذا الإشكال بأن جعلوا للإسلام في لسان الشرع معاني مختلفة.
على أن الأمر لا يدعو إلى ذلك فإن القرآن استعمل من مادة «سلم» صيغا كثيرة في معانيها اللغوية كما استعملها العرب، ولكنه استحدث للفظ «إسلام» وما اشتق منه معنى واحدا شرعيا استعمله في آيات غير قليلة؛ وهذا المعنى هو: التوحيد وإخلاص النفس لله وحده لا يكون فيها لغيره شريك يعبد ويسمى إلها، وهو معنى مولد من المعنى اللغوي الذي هو الخلوص والسلامة. قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: «واشتقاق المسلم من قولهم أسلمت لله؛ أي سلم له ضميري.»
17
أما سائر استعمالات القرآن لهذه المادة فاستعمالات لغوية جارية على الأوضاع والاستعمالات العربية الحقيقية. وقد ذكر ما يفيد ذلك الزمخشري في الكشاف عند تفسير آية:
إن الدين عند الله الإسلام . (5)
والأدلة على أن المعنى الشرعي للإسلام هو التوحيد وإخلاص الضمير لله تظهر في عدة مواطن:
أحدها:
أن القرآن يقرر أن الدين واحد على لسان جميع الأنبياء وهو الإيمان بما يجب الإيمان به، وإنما تختلف الشرائع، أي الأحكام العملية:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ،
18
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ،
19
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا .
20
ودين الله الواحد الذي لا يدخله النسخ ولا يختلف باختلاف الأنبياء هو في عرف القرآن المسمى إسلاما :
إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب * فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ،
21
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ؛
22
وهذه الآية الأخيرة نزلت يوم عرفة في حجة الوداع، قالوا: ولم يعش النبي بعدها إلا 81 ليلة، وهي تدل على أن الدين الذي هو الإسلام هو التنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع التي كملت في القرآن؛ أما الأحكام العملية فهي تختلف باختلاف الأنبياء والأمم، وقد تتغير بتغير المظان، ولم يجمعها القرآن إلا إجمالا بتبيينه الأصول التي تستمد منها تلك الأحكام، ولم تكن كملت عند نزول الآية.
23
وقد ثبت بما ذكرناه أن الدين في عرف القرآن هو الإيمان بالأصول الدينية التي هي حقائق خالدة لا يدخلها النسخ ولا تختلف فيها الأنبياء، وأن الإسلام هو هذا الدين؛ إذ لا دين غيره عند الله.
ثانيها:
أن صيغة «إسلام» وردت في القرآن مضافة وغير مضافة في ثمان آيات، منها ست آيات مدنية، وآيتان مكيتان.
فأما المكيتان فهما:
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ،
24
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ،
25
والآيتان صريحتان في أن الإسلام فيهما هو الإيمان الخالص الذي موضعه الصدر أي القلب.
وأما الآيات المدنية فهي:
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين ،
26
وتفسير الإسلام في هذه الآية بالإيمان تدل عليه الآيات اللاحقة دلالة ظاهرة.
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا
27
والإسلام في هذه الآية مذكور في مقابلة الكفر، وقد قوبل الإسلام وما يشتق منه في القرآن بالكفر كما في هذه الآية، وكما في آية:
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ،
28
وآية:
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ،
29
وقوبل الإسلام بالشرك في آيات عدة؛ منها:
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ،
30
وآية:
قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين .
31
أما باقي الآيات المدنية فهي:
يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ،
32
وهي من الآيات التي ذكرها كتاب «حجج القرآن» في حجج القائلين بأن الإيمان والإسلام واحد، وآية:
إن الدين عند الله الإسلام ،
33
وآية:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ،
34
وآية:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
35
وقد بين الزمخشري وغيره من المفسرين في تفسير هذه الآيات: أن الإسلام فيها هو التوحيد وإسلام الوجه لله، وذلك يقتضي أن لفظ «إسلام» لم يرد في القرآن إلا مستعملا في معناه الشرعي مرادفا للإيمان.
ثالثها:
أن القرآن سمى أتباع دين محمد
الذين آمنوا ؛ في آيات منها:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ،
36
وآية:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؛
37
وآية:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ،
38
وسماهم كذلك المسلمين في آيات منها:
وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا
39 ... وآية:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ،
40
وفي ذلك إشعار بأن معنى الإيمان والإسلام متفق غير مختلف. (6)
وإذا كان الإسلام في عرف القرآن هو القواعد الأصولية التي يجب الإيمان بها والتي جمعها القرآن كاملة بحيث يعرف الإسلام بأنه هو ما أوحاه الله إلى نبيه محمد في القرآن، وأمره بتبيينه للناس كما تشير إليه آية:
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم
41 ... فقد تطور استعمال لفظ الإسلام إلى ما يشمل الأصول الاعتقادية، أو الفروع العملية، وتطور استعمال لفظ «الدين» كذلك فأصبح تعريف الدين عند المسلمين هو: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل، وهذا يشمل العقائد والأعمال.
42
ومع هذا التطور فقد بقيت بين المسلمين آثار العرف الشرعي إلى اليوم، فهم يقسمون الدين إلى فروع وأصول باعتباره منقسما إلى معرفة هي الأصل وطاعة هي الفرع، ويقولون إن العقائد يقينية؛ فلا بد أن تكون ثابتة بطريق ديني يقيني قطعي وهو القرآن وحده؛ إذ هو المقطوع به وحده في الجملة والتفصيل، أما الأحكام العملية فيكفي فيها الظن.
43
ويقولون: إن النسخ لا يكون في مسائل علم الكلام وإنما يكون في مسائل الفقه.
ثم إن الخلاف بين المسلمين في شئون الأحكام العملية ليس له خطر الخلاف في الأمور الاعتقادية، فالآراء المتباينة في الأولى تسمى مذاهب، وأتباع كل يعتقدون أن مذهبهم صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرهم خطأ يحتمل الصواب، بل يرى بعضهم: أن الحق يتعدد في المسائل الاجتهادية؛ باعتبار أن الله لم يكلف الناس إلا بأن يبذلوا جهدهم في تحري الصواب، فما وصلوا إليه بجهدهم فهو بالنسبة لهم الحق لا يجوز العدول عنه، ولست تجد شيئا من ذلك في أمور العقائد التي يؤدي الاختلاف فيها إلى تفرق الفرق يكفر بعضها بعضا، والحق في مسائل الاعتقاد واحد لا يتعدد وكل ما سواه باطل، أحسن الفروض بالنسبة لصاحبه أن يعذر فينجو من عقاب الأخذ بالباطل.
44
هذا والأعمال البدنية نفسها لا يكون لها اعتبار في دين المسلمين بحسب صورها الظاهرة، وإنما هي معتبرة بالنيات والهيئات النفسانية التي هي مصدرها،
45
وفي القرآن:
لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم
46 ... ويروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم
حديث هو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقال الشافعي وأحمد: إنه يدخل فيه ثلث العلم، وهو من أصح الأحاديث النبوية وأشهرها، حتى زعم بعضهم أنه متواتر،
47
واعترافا بمكانه بين السنن تجده في فاتحة كثير من كتب السنة المعتبرة، وهذا الحديث هو: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.»
انتهى طبعه في 5 من ذي الحجة سنة 1364 / 10 نوفمبر سنة 1945.
Unknown page