إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا
من كان يألفهم في المنزل الخشن
ولذلك كان همه أول ما أثرى وجمع مالا طائلا أن يقوم بمشروع كانت تحدثه نفسه به منذ صباه.
فإنه في ذات يوم أعلن في البلاد كلها إعلانا غريبا ألصقه في الشوارع وفرقه في الناس وبعثره في الطرق والأسواق، ومحصل هذا الإعلان أن كل فتى وكل فتاة يجولان في الشوارع بلا شغل ولا رزق إذا قصداه فإنه يعطيهما شغلا ورزقا واسعا، فلم يمض على هذا الإعلان أسبوع واحد حتى بلغ عدد الفتيان الذين قصدوه 3245 فتى وعدد الفتيات 3120، فاشترى الشيخ سليمان هذا السهل الواسع الذي أمامنا ومساحته 5000 فدان، وأسكن أولئك الفتيان والفتيات فيه وأحضر لهم زراعا وصناعا يدربونهم على الزراعة والصناعة، وأقام منهم حكومة لهم، وسن لهذه الحكومة قوانين وجعل فيها قضاة وجندا ورئيسا أعلى، نعم إن ذلك كان مضحكا في بدء الأمر ولكنه لم يلبث أن صار جديا مهما، فإن أولئك الفتيان والفتيات الفقراء الذين اجتمعوا من كل الجهات انتقلوا بهذه المعاملة من حالة إلى حالة، فبعد أن كانوا مثلا يجمعون أعقاب السكائر من الشوارع والأسواق ليبيعوها إلى تجار الدخان، أو يطوفون المدينة بالنهار بأثواب بالية قذرة يستعطون قوتهم أو يطلبونه من فضلات المنازل في المزابل، وفي الليل ينامون أكداسا أكداسا في زوايا الطرق على البلاط البارد حتى في أشد ليالي الشتاء بردا كأنهم حيوانات لا بشر - صاروا يشتغلون بشرف واجتهاد في أماكن معدة لذلك ويلبسون من أجرة شغلهم ثيابا نظيفة ويتغذون بأطعمة مغذية، ولم تعد ترى في عيونهم ذلك القلق الشديد الذي كان فيها حين كانوا في تيار تلك المعيشة الهائلة التي لا يكون فيها الإنسان على ثقة حتى من بلغة يسد بها رمقه في المساء أو في الصباح لتدوم له حياته، بل حل محل ذلك القلق طمأنينة تامة لثقة ذلك العامل الصغير بأن حياته صارت مضمونة، ولذلك صار يبتسم للحياة ابتسام الراحة والارتياح بعد أن لم يكن يبتسم من قبل إلا ابتسام عدم المبالاة بشيء حتى بالحياة، ومما زاده راحة وسعادة حكومته نفسه بنفسه تحت مراقبة الشيخ سليمان وصيته، فإنه لم يمر على هؤلاء الأولاد نحو سنة من الزمان حتى صاروا يشعرون بالتبعة التي عليهم ولذلك صاروا يراعون الحدود في سلوكهم، ومن هذا اليوم يبدأ تاريخ نهوضهم من عثرتهم.
فقطع الشاب كلام الشيخ وقال: إذا أجداد سكان هذه المدن الثلاث كانوا من فضلات الأزقة والشوارع.
فقال: نعم يا بني ولكن تذكر أن الورد لا ينبت إلا من الشوك والنرجس لا يخرج إلا من بصل، على أننا نحن سكان هذه القرية كنا نود لو اقتصر سكان هذه المدن الثلاث على المعيشة التي عاشها أجدادهم أولئك الفتيان العاملون؛ لأن في ذلك راحتنا من الاضطرابات والفتن التي قام قائمها بين السكان في الأزمنة الأخيرة، فأولئك الفتيان كان لا هم لهم غير زراعة أرضهم وإتقان مصنوعاتهم والمعيشة بسلام بعضهم مع بعض، أما أصحابنا هؤلاء فإن دأبهم النزاع والخصام، فنعم الآباء ولكن بئس ما ولدوا.
فقال الشاب: وما سبب نزاعهم وخصامهم؟
فقال الشيخ: أنت ترى يا بني أن هذه المدن ثلاث، فإحداها تدعى مدينة المال لأن أهلها كلهم يشتغلون بجمع المال، والثانية تدعى «مدينة العلم» لأن أهلها كلهم يشتغلون بالعلم، والثالثة تدعى «مدينة الدين» لأن أهلها كلهم منقطعون إلى الدين، وقد حدث هذا الانقسام على ما ترى منذ زمن بعيد، فإن أولئك الفتيان والفتيات الذين أسسوا هذه الجمهورية الصغيرة بعد اشتغالهم بزراعة الأرض وإتقان المصنوعات أصابوا نصيبا من الثروة والسعة، فلما تزاوجوا وتكاثروا جاء أبناؤهم أرقى منهم وأكثر ميلا إلى الشؤون النفيسة، فعكف بعضهم على التجارة وبعضهم على العلم وبعضهم على الأدب وبعضهم على الدين، كل بحسب استعداد نفسه وقابليتها، فلم يمر زمن طويل حتى قام النزاع بينهم على ساق وقدم، فارتأى بعض منهم زيادة في توسيع المعيشة على السكان أن ينشئوا بلدتين أخريين قريبتين من البلدة الأصلية، ثم رغبة في حصر النزاع في مكان واحد أو منعا للنزاع قرروا أن تسكن كل طبقة في بلدة، فطبقة المال تسكن في البلدة الشرقية وطبقة العلم في البلدة الغربية وطبقة الدين في البلدة الجنوبية، ولكن هذا التدبير قد ذهب سدى بلا جدوى لأن النزاع ما زال قائما بينهم.
الفصل الثاني
الحب
Unknown page