Din Insan
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Genres
ويسمي ابن عربي الوحي الذي يتلقاه الأئمة والأولياء بالوحي الإلهي الخاص، فهو يقول: «فإذا أراد الحق أن يوحي إلى ولي من أوليائه بأمر ما، تجلى الحق في صورة ذلك الأمر لهذه العين التي هي حقيقة ذلك الولي الخاص، فيفهم من ذلك التجلي ما يريد الحق أن يعلمه به، فيجد الولي في نفسه علم ما لم يكن يعلم.»
8
ولعل أوضح مثال من التراث الصوفي الإسلامي على هذا النوع من الوحي الخاص، ما تركه لنا النفري في مواقفه ومخاطباته؛ فعندما يبتدئ النفري موقفا من مواقفه بالقول «فأوقفني في ... وقال لي ...»، أو عندما يبتدئ مخاطبته بقوله «يا عبدي ...»، فإنما يعبر عن أشد حالة من حالات الوحي التي يمكن أن يتعرض لها بشر من خلال تجربته الدينية الفردية، بعد تجارب الأنبياء، يقول: «أوقفني في الأمر وقال لي ... أنا ناظرك وأحب أن تنظر إلي، والإبداء كله يحجبك عني؛ نفسك حجاب، وعلمك حجاب، ومعرفتك حجاب، وأسماؤك حجاب، وتعرفي إليك حجاب، فأخرج من قلبك كل شيء، وأخرج من قلبك العلم بكل شيء وذكر كل شيء، وكلما أبديت لقلبك باديا فألقه إلى بدوه، وفرغ قلبك لتنظر إلي ...»
9
أما في المخاطبات فتغيب صيغة «أوقفني وقال لي ...» ليحل محلها خطاب الحق مباشرة على لسان النفري: «يا عبد اصحبني إلي تصل إلي ... يا عبد إذا رأيتني ضننت بك على الطرق إلي فلم أقمك بسواي بين يدي.»
10
وفي المجتمعات الشامانية، حيث لم يصل الدين بعد إلى درجة كافية من التقنين والتنظيم للتجربة الروحية الجمعية، تتركز الحياة الروحية للقبيلة حول شخصية واحدة فذة هي الشامان. إن ما يميز الشامان في مجتمعات الصيد هذه عن الكاهن في المجتمعات الزراعية المستقرة، هو تفرد التجربة الروحية الفردية للشامان عمن سبقه وعمن سيليه من الشامانات؛ إنه لا يسير في طريق سلكه سلفه، ولا يعبد طريقا لخلفه، بل يرتقي بقواه الخاصة ثم لا يعمل على تقنين تجربته لتكون حذوا لغيره. أما الكاهن فإنه (رغم القوى الخاصة التي يتمتع بها، والتي أهلته أصلا لأن يلعب دور الموجه الروحي) يلعب دورا مرسوما بدقة في دين الجماعة المؤسس منذ القدم على قواعد ثابتة، وما على الكاهن إلا السير على مسالك من سبقه من الكهنة. وهذا ما يفرق الشامان أيضا عن مؤسس الديانة الجديدة؛ لأن طريقة الشامان تنتهي بموته، أما طريقة مؤسس الديانة فتغدو نمطا لكل الجماعة ولكل من يجيء بعده خليفة.
يمر الشامان قبل ارتقائه لمنصبه الروحي الرفيع بتجربة وجدية فردية بالغة الغرابة والشدة، فيصعد إلى السموات العلا ويهبط إلى الدرك الأسفل من الجحيم؛ لكي يتمرس بالعوالم القدسية أبيضها وأسودها، فيصبح بعد ذلك أهلا لوظيفته، التي تقوم على التوسط بين عالم الناس وعالم الأقداس. وعندما ينهي المرشح تجربته بنجاح يرسم شامانا طيلة حياته من قبل أفراد القبيلة، ليدافع عنهم ضد الأرواح الشريرة والأمراض والسحر الأسود، وينمي بينهم الصحة والحياة السليمة والخصب. وقد جمع الأنتروبولوجيون المعاصرون عددا من الشهادات المباشرة عن تجربة الشامان الروحية، وهذه شهادة شامان من سيبيريا، حيث نعثر على الشامانية في شكلها الأنقى، يقول: «لقد دفعتني أرواح أجدادي من الشامانات في هذا الطريق دون خيار، فصرت شامانا ولم أتعد الخامسة عشرة من عمري. في البداية، اضطجعت مريضا مدة عام كامل، وكانت نوبات من الإغماء تأتيني على فترات متتابعة مصحوبة بتعرق شديد، فكنت أصرف المرض عني بالإنشاد. بعد ذلك جاء أسلافي فأنهضوني فنصبوني دريئة لسهامهم يطلقونها علي حتى غبت عن الوجود، عندها قاموا بتقطيع أوصالي ونزعوا لحمي عن عظمي. وبعد انقضاء صيف كامل أعادوني إلى سيرتي الأولى، بدون ذلك ما كان لي أن أغدو شامانا.»
11
ويصف آخر المعراج الذي تقوم به روح الشامان في فترة التهيئة، فيقول: «هنالك في العلا، شجرة معينة تتعهد أرواح الشامانات بالرعاية حتى يمتلكوا قواهم الشامانية كاملة، وعلى أغصان هذه الشجرة أعشاش لسكن تلك الأرواح، وكلما كان العش الذي تأوي إليه روح الشامان أعلى كلما اكتسبت قوى أكبر. وفيما بعد، وكلما أراد الشامان استخدام قواه، ترتقي روحه تلك الشجرة حتى تصل ذرى السماء.»
Unknown page