وما خلت البلاد حتى في أيام عظماء العباسيين من دعاة يدعون إلى إرجاع الملك للأمويين، فوضعوا لذلك ملحمة بنوها على معرفة المستقبل، زعموا أنه يظهر رجل من بني أمية اسمه السفياني، فاعتقد الناس بظهوره، كما اعتقد أهل المغرب بالمهدي، وفي خلافة الأمين - والعباسيون يشتغلون بأنفسهم - ظهر هذا السفياني، اسمه علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، وهو الملقب بالعميطر، وكان من أهل العلم والرواية، فدعا إلى نفسه، وكان أصحابه يوم ادعى الخلافة يدورون في أسواق دمشق، ويقولون للناس: قوموا بايعوا مهدي الله. وكان يفتخر بقوله: «أنا ابن شيخي صفين» يعني عليا ومعاوية؛ لأنه كان ينتسب لبني أمية من جهة أبيه، ولآل أبي طالب من أمه، وتعصب على اليمانية وقاومه القيسية، فنهب دورهم وأحرقها، وقتلهم وفتك بأهل دمشق، وكان أصحابه يمرون بالدار فيقولون: ريح قيسي نشم من هذه الدار. فيضربونها بالنار، فهرب القيسية من دمشق، وكان من لم يبايعه سمر عليه بابه. ثم قام رجل آخر من الأمويين فنازع العميطر السلطة، فلقيت دمشق بسبب هذه الفتنة شدة، وأعظم ما لقيت من تنازع قيس ويمن أو النزارية واليمانية، وبقي الاختلاف في الشام بين هذين الحيين من العرب إلى العصر الأخير.
دمشق في عهد ملوك الطوائف
كان أول من اقتطع جزءا عظيما من جسم الخلافة العباسية أحمد بن طولون التركي، استولى على مصر نائبا عن أحد أمراء الأتراك في بغداد أولا، ثم صفت له أصالة واستولى على الشام، وكان حكمه فيها وفي الثغور ضئيلا ، وسده إلى بعض العمال الذين ارتضاهم، ولما هلك ابن طولون، وكان أحسن سيرة من بعض المتأخرين عن خلفاء العباسيين، خلفه ابنه خمارويه في الشام ومصر، فأحسن هذا لأهل دمشق. ولما انقرضت دول الطولونيين سنة 292 وقضى العباسيون على القرامطة الباطنية الذين جاءوا دمشق وأزعجوا أهلها وأخذوا منهم جزية عظيمة وأموالا كثيرة حتى يكفوا عن تخريب بلدهم، ظهرت الدول الإخشيدية دولة محمد بن طغج، فصادر الإخشيد أغنياء دمشق، واستصفى أموالهم.
وقد وجد بدار الإخشيد في مصر رقعة مكتوب عليها «قدرتم فأسأتم، وملكتم فبخلتم، ووسع عليكم فضيقتم، وأدرت عليكم الأرزاق فقطعتم أرزاق العباد، واغتررتم بصفو أيامكم، ولم تتفكروا في عواقبكم، واشتغلتم بالشهوات واغتنام اللذات، وتهاونتم بسهام الأسحار وهن صائبات، ولا سيما إن خرجت من قلوب قرحتموها، وأكباد أجمعتموها، وأجسام أعريتموها، ولو تأملتم في هذا حق التأمل لانتبهتم، أوما علمتم أن الدنيا لو بقيت للعاقل ما وصل إليها الجاهل؟ ولو دامت لمن مضى ما نالها من بقي؟ فكيف بصحبة ملك يكون في زوال ملكه فرج العالم؟ ومن المحال أن يموت المنتظرون كلهم حتى لا يبقى منهم أحد ويبقى المنتظر به، افعلوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، وثقوا بقدرتكم وسلطانكم فإنا بالله واثقون، وهو حسبنا ونعم الوكيل».
قالوا إن الإخشيد بقي بعد هذه الرقعة في هواجس، وسافر إلى دمشق فمات فيها سنة 334، وفي السنة التي قبلها كان سيف الدولة بن حمدان استولى على حلب ودخل دمشق، ودهش بغوطتها، فصرح بأنه سيستولي عليها جملة، فكتب أهلها إلى المتغلب على مصر كافور الإخشيدي، فبعث جيشا طرده عنها وضمها إلى مصر، فنجت دمشق من جشع سيف الدولة وتحكمه في أصحابها.
وآذنت شمس الإخشيديين بالأفول سنة 357 ولم تلق دمشق من دولتهم ودولة الطولونيين سوى راحة نسبية، ما خرجت عن حد ما كانت تلقاه في أدوار عظماء الخلفاء من بني العباس.
وجاءت دولة الفاطميين أو العبيديين فاستولت على هذه المدينة سنة 359، وخطب على منبرها للمعز الفاطمي الشيعي، وانقطعت خطبة بني العباس السنيين، وعادت دمشق تشهد حظها يسود ، والفتن فيها تتكاثر وتشتد، وكان من سياسة الفاطميين ألا يولوا الولاة مدة طويلة، وبذلك كان سوء الإدارة ماثلا في أيامهم، ومن ضعفهم أن يتولى أمر دمشق رجل كان ينقل التراب على الحمير اسمه قسام الحارثي من تلفيتا في جبل قلمون، ولا تقدر الدولة على نزع السلطة منه، وكانت أرسلت لحربه الأمير الأفضل، فحاصر دمشق وضاق بأهلها الحال، ثم رضي القائد عن قسام، وأعاد إليه حكم البلد.
واستولى الأحداث على دمشق، فأرسل الفاطميون أحد قوادهم جيش بن الصمصامة، فتلقاه أهلها خاضعين، فأمنهم واستخص رؤساءهم، واستحجب جماعة منهم، وكان يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجيء معهم من أصحابهم، وأمرهم ذات يوم إذا فرغوا من الطعام أن يحضروا إلى حجرة يغسلون أيديهم فيها، وأوعز إلى أصحابه إذا دخل رؤساء الأحداث الحجرة أن يغلقوا بابها ويضعوا السيف فيمن دخلها، فقتل من أصحابهم بهذه المكيدة نحو ثلاثة آلاف رجل، ثم قبض على الأشراف واستأصل أموالهم، وأتى على نعمهم، ووظف على البلد خمسمائة ألف دينار.
وبعد سنين قليلة ثار بدمشق رجل من أهلها يعرف بالجزار، فاجتمع إليه جمع كثير من أحداثها، فقبضوا عليه وقتلوه، وأظهروا الطاعة للفاطميين، وذلك بعد أن اجتمع على الناس بدمشق الجوع والحريق والنهب والقتل. وفي سنة 461 وقع الخلف بين الدمشقيين والعسكرية، فطرحت النار في جانب من المدينة فاحترقت، واتصلت بالجامع الأموي، وكانت دمشق في هذه الحقبة قد خربها أعراب البادية وأهل العيث والعيارون وانتقل أهلها إلى حمص، وهذا القرن من أشأم القرون على دمشق، فقد أصيبت في سنة 467 بكارثة لم يسجل تاريخها أعظم منها، وذلك بانتشار الطاعون أولا، ثم عمت المجاعة البلاد من قابل، فلم يبق من أهل دمشق سوى ثلاثة آلاف إنسان بعد أن كانوا خمسمائة ألف كما قال المؤرخون، أفناهم الغلاء والجلاء والوباء، وكان بها مائتان وأربعون خبازا فصار بها خبازان، وخلت الأسواق وأقفرت القصور والدور، ونعق البوم في البراري، والدار التي كانت تساوي ثلاثة آلاف دينار ينادى عليها بعشرة دنانير فلا يشتريها أحد، والدكان الذي كان يساوي ألف دينار ما يشترى بدينار، وأكلت الكلاب والسنانير والميتات، وأكل الناس لحم الآدميين، وهذا هو الطاعون الأسود الذي عم العالم، وأصاب مصر ما أصاب الشام من فجائعه.
دمشق في عهد السلجوقيين
Unknown page