ولما هلك أمير دمشق يزيد بن أبي سفيان وسدت الإمارة إلى شقيقه معاوية، فتولاها عشرين سنة أميرا، وعشرين سنة خليفة، وسدت إليه الخلافة بعد وفاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فوضع أساس ملك بني أمية، وكان على غاية التسامح، عهد بوزارة ماليته إلى سرجون بن منصور من نصارى دمشق، ثم إلى ابنه من بعده ، وكان بعض أطبائه من النصارى، وكان في جيشه الأنباط والجراجمة والعجم وغيرهم من العناصر غير العربية وغير المسلمة. ثم تولى الخلافة ابنه يزيد بن معاوية، ثم معاوية الصغير أياما قليلة، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك، وتولى الخلافة الأموية في دمشق أربعة من أبناء عبد الملك؛ فدعي لذلك بأبي الأملاك ومفتاح الخير، وهم سليمان بن عبد الملك، والوليد بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك، وتولاها منهم عمر بن عبد العزيز حفيد عمر بن الخطاب لأمه، وضرب المثل بعدله وحسن سياسته، وكان آخرهم مروان بن محمد، وهو من خيرة خلفائهم، ولكن قضت الأقدار أن تسقط على يده الخلافة. قال جستاف لوبون: «أبان العرب عن تسامح مع كل مدن الشام، فرضي أهلها بسلطانهم، وطرحوا النصرانية وقبلوا دين الفاتحين، وتعلموا لسانهم». وأصاب دمشق من عناية بني أمية ما أصبحت به عاصمة أعظم دولة، وبهمتهم وعبقريتهم امتد عمرانها، وذاق سكانها طعم العدل، وعرفوا الغنى والسؤدد، وكانت دمشق بهم أعظم عواصم العالم وأجملها.
مدحهم شاعرهم الأخطل النصراني بقوله:
حشد على الحق عياف الخنا أنف
إذا ألمت بهم مكروهة صبروا
شمس العداوة حتى يستقاد لهم
وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
وكانت دمشق في أيام الأمويين كرومية في نظر أهل النصرانية، وما كانت قبلهم تعد في العواصم الكبرى. وللأمويين ابتكارات في الإدارة والسياسة لم ينسجوا فيها على منوال غيرهم، ولهم على العرب فضل لا ينسى على وجه الدهر، وهو أن أبا سفيان والد معاوية وجده حربا، نقلا من الحيرة الخط إلى جزيرة العرب.
دمشق في عهد العباسيين
فتح عبد الله بن علي عم الخليفة العباسي السفاح مدينة دمشق سنة 132ه، ووضع السيف في أهلها، واستصفى أموالها، ودخلت أباعر جيشه جامع بني أمية وظلت فيه سبعين يوما، وقتل من النصارى واليهود خلق، كما قتل كثير من العلماء والأمراء، ونبشوا قبور بني أمية وأحرقوا جثثهم بالنار وذروها في الهواء، ونقضوا أسوار البلدة حجرا حجرا. انتقم العباسيون من الأمويين أحيائهم وأمواتهم انتقاما فظيعا، وصفت لهم دمشق، إلا أنهم لم يجعلوا فيها دار خلافتهم، وصيروها قصبة ولاية، فذهب ما كان لها من عظمة على عهد الأموي.
ومع هذا كان عظماء رجال بني العباس أمثال إبراهيم بن المهدي وعبد الله بن طاهر يتولون أمرها، وأعظم من عطف عليها من خلفائهم الرشيد، وكان أميرا عليها قبل أن يلي الخلافة، وكذلك ابنه المأمون، كانا يختلفان إليها ويعدلان في أهلها، حتى لقد ذكراهم بما كانوا يلقون من عدل بني أمية أيام سلطانهم.
Unknown page