وهي لا تدري أن حبه لي مهما يكن شأنه هو بعض حبي له.
وحسب هذا الحب عمقا أنني وأنا رجل صناعتي الكلام عاجز كل العجز أن أصف بعضا منه. (5) حمام والديب وأحمد عبد الغفار باشا
لا أذكر متى عرفت مصطفى حمام، ولكن المؤكد أنني عرفته ونحن بعد في بيت الملك الناصر، وقد تركنا هذا البيت، وأنا بين الحادية عشرة والثانية عشرة. والحقيقة أنني لم أعرف في حياتي شخصا قادرا على أن يجعل الجلسة ممتعة شيقة مثل مصطفى حمام.
لقد كان كل جالس يجد عنده ما يشتهي؛ فهو راوية خيارة للشعر يحفظ أجمله، وأرفعه، وأكثره رقة، وهو راوية لا مثيل له للزجل. وهو قبل شاعر إذا شاء ارتجل الشعر ارتجالا وتحسبه جهد في صنعه كل الجهد؛ فأنت ترى في شعره جمال السبك ، وحلاوة اللفظ، وتماسك المعاني وتدافعها. ومهما أحاول فإنني لن أستطيع أن أنقل إليك المتعة الرائعة التي يفيضها حمام على أي مجلس هو فيه. يؤيده في ذلك ذكاء بارع في اختيار ما يقال في كل مجلس بحاسة لا تخطئ، يختار حديثه، فإذا هو يجتذب الجالسين كفعل الساحر الخبير.
وأشهد أنني لم أسمع حمام عمري يذم إنسانا، أو ينتقص منه. وهو يملك لسانا عذبا يرضي به كل متحدث إليه، ولعل من أطرف المواقف التي رأيته فيها يوم طلب أبي من القاهرة، وكنا نحن مع أبي في بلدتنا غزالة. وأخبرني أبي أنه قادم إلى غزالة، وأراد أبي أن يفاجئه، فأمر فتجمعت من رجال البلدة مظاهرة ضخمة في مقدمتها طبال القرية وزمارها، وأعدوا للقادم حصانا صافنا أصيلا، وذهبت أنا بالمظاهرة ننتظر حمام على القطار في محطة أبو الأخضر التي تبعد عن غزالة كيلومترين. ووقف القطار، وارتفع الهتاف يحيا الأستاذ حمام، وذهل الرجل، فقد كان يتوقع أن يكون السائق في انتظاره، وإن جمح الخيال فلأكن أنا مع السائق، أما مظاهرة وطبل وزمر وحصان وأنا، فهذا فوق ما كان يتخيل. نزل مبهورا وركب الحصان، ولم يكن قد ركب حصانا في حياته، وشاء حظه أن يكون الحصان عربيا راقصا فراح يوقع بحوافره مع موسيقى الطبل والمزمار. وكاد يغمى على حمام، واستحلفني أن يركب حمارا وإلا مات من الخوف في وسط الطريق، ورحمته وأركبته حمارا وجدنا بالصدفة في طريقنا، ووصل الموكب والزعيم القادم يركب حمارا، واستقبله الشاعر الكبير ابن غزالة أحمد عبد المجيد الغزالي بقصيدة عصماء كان مطلعها:
أتيت فمرحبا بك يا حمام
وفي كنف العلا يحلو المقام
وقضى معنا في غزالة أياما لا تنسى.
أراد حمام أن يقدم عبد الحميد الديب إلى أبي، فجاء به وألقى عبد الحميد أبياتا لأبي رائعة أذكر منها:
جابر المحروم وهاب المنن
Unknown page