لا أذكر أن عمي عبد الله ضربني بعد ذلك قط إلا مرة واحدة، وكان أبي جالسا. كنا على المائدة في منزله، وكنت أضع الملعقة وتجويفها إلى أعلى، فنبهني عمي عبد الله أن أجعل التجويف إلى أسفل، وسهوت وكررت الخطأ، فنبهني ثانية، ثم سهوت وكررت الخطأ، ووضعت يدي بجانب الملعقة، وكان يجلس أمامي، فإذا هو في حركة مفاجئة يقف ويهوي بمنتهى العنف على يدي، ويأمرني أن أصحح وضع الملعقة.
ربما كنت في الثانية عشرة من عمري في ذلك الحين. فأنا أذكر الواقعة تماما، وأذكر أن أبي امتعض مما صنعه عمي، وظهر الامتعاض على وجهه، ولكنه لم يعلق مطلقا مع أن عمي كان يعامل أبي معاملة الابن لأبيه، حتى لقد كتب له إهداء على إحدى صوره إلى أبي وأخي وأستاذي ومثلي الأعلى.
أنا والتعليم
كانت أغلب إقامتنا بالقرية؛ فأنا أكبر إخوتي، ولم أكن قد انتظمت في المدارس بعد، ولم يكن يربطنا بالقاهرة إلا مجلس النواب حين تكون هناك جلسات، وكان أبي لا يتخلف مطلقا عن المجلس، ولكن لا أدري لماذا أذكر أن إقامتنا بالقرية كانت تتطاول ربما كان المجلس معطلا في هذه الفترات.
وأذكر أنني ذهبت قبل أن أبدأ التعليم مع أبي إلى الإسكندرية مرات، وكان أبي يستأجر بيتا مفروشا هناك.
وأذكر أنه كان يصحبني إلى شاطئ سان ستيفانو، وكان عم أحمد بخيت خادمه الخاص يذهب معنا، وكان أبي يجعلني أمسك برجليه ويسبح بي في الماء، وندخل إلى الأعماق، ولهذا أذكر أنني لم أخف حين بدأت تعلم العوم بعد ذلك على يد خالتي، وكان تعليمها ساذجا، وما زال هو زادي من السباحة حتى اليوم، فإذا رأيتني في الماء، ورأيت سباحتي أدركت أنها سباحة من يستطيع أن يبقي أنفه فوق سطح الماء فقط؛ فهي سباحة عاجزة بلا أسلوب ولا إتقان، ولكني سعيد بها غاية السعادة؛ فأنا عن طريقها أستطيع أن أصل من الماء إلى حيث لا تلامس أقدامي الرمال، وأنا ليس لي مأرب في البحر أبعد من هذا.
بدأت تعليمي الدراسي إذن في غزالة، وقد شاء القدر أن يختار أبي من بين جميع المدرسين الإلزاميين مدرسا أعتبره أنا حتى اليوم أعظم مدرس للأطفال يمكن أن تجود به الحياة.
إنه الأستاذ أحمد حسين القرعيش الذي أصبح الحاج أحمد حسين القرعيش، وقد كان لحمله هذا اللقب قصة في غاية الطرافة؛ فقد كانوا ينادونه بأحمد أفندي؛ لأنه كان يلبس الحلة والطربوش وهو في طريقه إلى المدرسة الإلزامية التي كان يدرس بها؛ فقد كان يعمل بمدارس قرى أخرى، وكان يخترق قرى عديدة، فكان لا بد أن يلبس حلته كاملة والطربوش، فلم يكن عجيبا أن ينادوه بأحمد أفندي. وظل هذا لقبه حتى بعد أن نقل إلى مدرسة غزالة؛ فقد ظل أيضا يلبس حلته كاملة في المدارس إطاعة منه لأوامر الوزارة .
ثم حج، وعاد من الأراضي الحجازية، وراح أهل القرية ينادونه بأحمد أفندي على عادتهم، فإذا هو يصيح بهم: يا نهار أسود! أكنت حججت ودفعت مائة جنيه وزيادة لتقولوا أحمد أفندي؟! من لا يقول الحاج أحمد لن أرد عليه.
وكان الحاج أحمد شاعرا رقيقا، وإني أذكر كثيرا من شعره، ولكنني أحب له هذه الأبيات:
Unknown page