لم تنته حكاية الشيخ؛ فقد كان يريد مني كمحام أن يعد الإجراءات لزواجه، نعم زواجه هو ابن الستين أو أبو الستين منها، منها هي، نعم وأنها في الرابعة والخمسين.
وبعد أيام ذهبت إلى العم في القرية أهنئه بالزواج وأهنئ به العمة الجديدة، كانا جالسين هناك بين النخيل فكنت أرى فيهما قوة أقوى من النخيل ومن الأيام ومن الحروب ومن القادة الذين يشعلون نيران العالم، لقد تغلبا على كل السفاكين الذين أراقوا دماء البشرية. وتزوجا آخر الأمر وإن كان هو في الستين وإن كانت هي في الرابعة والخمسين ولكن ماذا يهم، لقد التقت فيهما حياة واحدة عاشت سنين طويلة، طويلة جدا حياتين.
قال ودمعة فرحانة تتلألأ في عينيه مترددة بين بقاء أو انهمار: لقد تزوجت شبابي يا بني، لقد تزوجت شبابي، ووجدت دمعة تطفر إلى عيني أنا الآخر جعلت العمة ليزا تقول في فرح: ولم يسمح له تأثيره أن يعيد ما قال واستطعت أن أتغلب على خلجاتي الفرحانة لأترجم لها جملته. وطفرت إلى عينها هي الأخرى وهي تقول: إنه زوجي من أربعين عاما.
يا لها من أيام
زوجان، أحدثها عن شأني وما عرض لي في يومي، وتحدثني عن شأنها وما مر بها من أمور، وما كان أتفه ما أرويه لها، وما كان أبسط ما تحكيه لي .
طويل هذا الليل ولكن، أين هو من الزمن؟ إنه نقطة لا تزيد من كتاب الزمن الكبير الذي حارت في بدايته العقول وجهلت المقادير نهايته، نقطة هذا الليل لا تزيد، ولكنه طويل، وما أنا الذي أحسه طويلا، رقم من ملايين الأرقام، بل من ملايين الملايين، ولكن أنا كل شيء، أنا هذا العالم، فما العالم بالنسبة إلي إن لم أكن أنا فيه، أحس بذاتي، بعظمتها وقد يراني الناس لا شيء، ولكن ما لي وللناس وما يظنونه، ما يضيرني رأيهم ما دمت أرى نفسي شيئا خطيرا جديرا بالاحترام، آه، يا لها من فلسفة بائسة أصطنعها لنفسي اصطناعا فما تجدي، وأظل يومي وليلي هذا الطويل ألقنها كرامتي الجريحة فما تشفي الجراح ولا تبرئ الطعنة ولا هي تلهمني من الصبر بصيصا أذود به عن نفسي هذا البؤس الذي يحيطها.
أعظيم أنا؟ يا لها من سخرية كبيرة، أخطير شأني؟ يا لي من ضائع لا قيمة له، ويا لي من أحمق أعجل إلى الأمر لا أدري بواعثه أو عواقبه.
أحببتها، نعم أحببتها كما أحبت طفولتي الباكرة، وشبابي الندي، وأيامي الفتية، وأحلامي المنضورة.
أحببتها منذ الأيام صغار قصار يملؤها مرح الطفولة وبسمات الملعب وعبث الصغر، وكبرنا فكان للقلب عند اللقاء وجيب عرفناه منذ دقاته الأولى، إنه الحب يعلن نفسه باسمه الصريح بعد أن كان متخفيا وراء كرة الملعب وعبث الصبية، هو الحب كاملا كما عرفه قيس وليلى، وجميل وبثينة، وروميو وجولييت وغيرهم ممن دمغوا التاريخ بحبهم أو ممن خلق الكتاب حبهم.
وكان أبي وأبوها صديقين، وفي ظل هذه الصداقة اتصل الحب دون أن ينمو؛ فقد كان بالغا مداه لا يملك بعد عنفه ولا بعد نموه نموا. ومرت بنا الأيام أروي حبي بلقاء قصير، أو ابتسامة حلوة، أو كلمة منغومة، لم أخطبها ولم أكن في حاجة إلى خطبتها؛ فقد كان زواجنا أمرا مقررا لا يحتاج إلى خطبة.
Unknown page