وانتظمت الصفوف من خلفه ولكن مسعود لا يطيق. لم تعد الأيام القادمة تحمل له من المجد الضائع شيئا فهو ينفتل من باب البيت ويلحق به محمد العضل، أهذا هو سعد الله! ها هو ذا يقيم الصلاة شأن القرية جميعا، لكم غررت به الأحلام.
شاع أمر سعد الله بين الناس، وتسامعت القرى من حوله أنه قد تاب إلى صراط مستقيم وأنه يقيم الصلاة ولا يقبل الحرام، وباركوا منه هذه التوبة وفرح هو بمباركتهم، وسعت به وبهم الأيام، عجيب أمر هؤلاء الناس ما له يرى من كان يحييه خائفا مرحبا قائما غير جالس قد أصبح اليوم يلقاه في يسر وهدوء وجالسا غير قائم؟ أتراه اختار طريقا غير جدير به؟ أين التحايا الهاتفة؟ أين الترحاب المشرق، أين الإجلال والإكبار حيث بدا؟ أين هذا جميعه؟ بل إن بعضهم قد زاد الهوان هوانا فأصبح يطالب بحقه في ري أرضه قبل أن تروى أرض سعد الله، وإن بعضهم ليطالب بالجرن قبل أن يدرس قمح سعد الله، حاول أن يقول «اختشوا» أو «النار لا تأكل حطبها كله.» أو يقول أنا سعد الله، فلا يرى إلا ابتسامة متهافتة ووجها مزورا وحديثا على الشفاه يوشك أن يقول: «كان زمان»، لولا أن تمسك به بقية من خوف أو بقية من ذكرى.
بل إن مسعود لم يعد يأتي إليه فإن مر أحدهما بالآخر فتحية عابرة لا أثر فيها من الماضي الطويل، بل الأدهى من ذلك، محمد العضل الذي أحس في أول لقاء لهما أنه يحمل له إكبارا وتقديسا، هذا المحمد العضل الهزيل الضامر القميء ينظر إليه في سخط وكأن بينهما ثأرا دفينا. هيه يا دنيا، أهكذا، ألا بد لي أن أحمل السلاح الصاخب القاتل حتى أنال التبجيل والاحترام؟ أما يكفي سلاح الإيمان والطيبة؟ والاسم القديم ألا يكفي؟ ألا يكفي؟
تحمل سعد الله هذه الأيام في صبر راض نفسه عليه، لا يبدو منه غير الصمت، ولكنه في دخيلته كان مرجلا يغلي، وكان يحس أنه يصبر فيزيده شعوره بأنه يصبر ثورة على ثورته.
وفي يوم صحا سعد الله من نومه فلقيه من أهله وجوم وصمت، ما لبث أن عرف أسبابه، لقد سرقت البهائم في الليل، جاموسة وثور وبقرة.
لم يكن بين البركان في نفسه وبين أن يثور إلا قشرة رقيقة إن هي انتزعت فهي الثورة الآخذة الماحقة. ولم يكن ما انتزع قشرة. وإنما هي ضربة تغور في أعماق النفس وتغور حتى تصل إلى القاع، هل قدر لسعد الله أن يقبل هذا؟ لا، ودون ذلك الحياة والموت.
لم يتمهل سعد الله فقد طالما تمهل، انطلق إلى مسعود: سلاحك عندك؟ - نعم. - هاته واتبعني.
وانسعر سعد الله الهادئ الطيب ليعود سعد الله الجامح الذي لا يقف به أحد أو شيء، هو النار، قتل الأكتع أول ما قتل واسترد بهائمه، ثم أصبح يقتل الناس ويأخذ بهائمهم، ثم أصبح يأخذها ويردها بعد دفع الفدية عنها، ومحمد العضل يتسمع هذه الأنباء فتعود نفسه إلى إكبارها لسعد الله ويزداد الإكبار ويزداد؛ فقد أصبح يسمع الأحداث ويشهد آثارها، وإنه اليوم ليتقرب إلى سعد الله ولكن سعد الله اليوم يشيح عنه في عزة واستكبار، وعادت القرية تقف لسعد إن لاح ظله أو شبيه لظله من بعيد، وعادت الحياة: تسقى أرض سعد أول ما تسقى. وأصبح الجرن يدرس قمح سعد الله أول ما يدرس، عاد سعد الله على أروع ما يمكن أن يعود.
وبلغت به الجرأة أنه صار يعلق البندقية على كتفه ويطلب البهائم في رائعة النهار فإذا مقودها في يده ثم ما هي إلا يوم أو بعض يوم حتى تلحق به الفدية.
وفي يوم قصد سعد الله إلى حيث يربط محمد العضل بهائمه وطلب إليه البهائم. وذهل العضل؛ فهو لم يفكر يوما أنه سيكون ضحية لسعد الله، إنه يحبه ويعجب به ويقدره على أن تكون الضحايا قوما آخرين، أما هو، إنه لم يتصور هذا في يوم من الأيام، وبفم فاغر من الدهشة وقلب كسير من الحزن أسلمه مقود البهائم، وعاد إلى أبيه يخبره أن سعد الله يطلب خمسين جنيها فدية للجاموسة والبقرة والحمار، وثار أبوه ثم خرج يدبر أمره. لم يهتم العضل بالخمسين جنيها وإنما راعه هذا الذي حدث، إذن فهذه هي البطولة التي كان يحلم بها، إذن فتلك هي آماله وأحلامه ومثله العليا، يا لضيعة عمره، أهذا هو المجد الذي لم يتصوره إلا ويثب اسم سعد الله إلى ذهنه وروحه وقلبه؟!
Unknown page