وبينما أنا أتعرف على زوجتي الحبيبة وعرفت بعد صحبة قصيرة أترجم لها بعض العبارات الفرنسية الواردة في مسرح يعقوب صنوع؛ موضوع رسالتها للماجستير، دعوتها إلى حضور حفل أوبرا عايدة الذي كانت تقيمه الفرقة المصرية للموسيقى والأوبرا تحت سفح الهرم الأكبر، وكان الجو صيفيا مريحا، وبعد الانتهاء من غناء راداماس وعايدة عند القبر بعد الحكم على قائد الجيش المصري لوقوعه في حب عايدة ابنة إمبراطور الحبشة المهزوم بعد الحكم عليه بالإعدام، قابلنا عند خروجنا الدكتور الأهواني، أستاذ الأدب العربي بقسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، وهو أيضا خارج من نفس المسرح المكشوف، حياني وسألني: «هل هذه خطيبتك؟» وكان يعلم أنني رجعت من فرنسا حديثا ولم أتزوج بعد. فاحترت ماذا أقول! خطيبتي! ونحن لسنا مخطوبين بعد، زوجتي! ونحن لم نتزوج بعد، صديقتي! والصداقة بين الفتاة والرجل غير مستحبة في المجتمع المصري دون غطاء شرعي. فقلت: «صديقتي» خوفا من أن أقول خطيبتي قبل الأوان فتحزن من هذا التسرع في الإعلان عن علاقة ما زلنا لم نصل إليها، ويبدو أن الدكتور عبد العزيز الأهواني شعر بنفس الحرج، هل يبارك لنا قبل الأوان؟ فلم يرد وحيانا، وغادرنا. ونحن في طريق العودة ويبدو أننا من جمال الأوبرا واستمتاعنا بها، تأثرنا، فمسكت بيدها ووضعت هي رأسها على كتفي ورآنا سائق التاكسي في المرآة العاكسة فأدار لنا بوجهه وقال: «أنا لا أحب هذه الأشياء في سيارتي.» فأصبنا بالخجل، وفي نفس الوقت شعرنا بالحزن؛ لأننا لم نكن نفعل شيئا مريبا، وأن الحب البريء في هذا المجتمع ما زال حراما بلغة الثقافة الشعبية. ولو أن الحبيب كان عربيا ذا عقال والحبيبة كانت مأجورة من الشارع لما قال ما قاله وانتظر المقابل «البقشيش»، بل واقترح عليهما فندقا في شارع الهرم وهو يعمل دليلا لهما.
وبدأت أنا وحبيبتي نستعد للخطوبة ونحن لا نملك المال لشراء دبلتين من الذهب وأسورة من الذهب أيضا أو الألماس كشبكة لها؛ فأرشدنا أحد الأصدقاء بأن هناك نوعا من الدبل من الذهب الأصفر «الفالصو» يبلغ ثمنها ثلاثة جنيهات؛ ففرحنا، وقمنا بشرائها، وذهبنا نحتفل بشراء الدبل في مقهى أعلى بناية أمام سينما ريفولي. جلسنا نتناجى ونحن نلبس الدبل. وكنا نخشى من النادل أن يغضب من تصرفاتنا؛ فالحب عندنا مكروه في العلن، محبوب في السر.
وحددنا موعد الخطوبة، ودعونا أساتذة قسم اللغة العربية، وأهلي بطبيعة الحال، وكانت ليلة ما زلت أذكرها لبساطتها وصدقها، وسعادة الجميع بالخطيبين، كان ذلك في أكتوبر سنة 1969م. وأثناء تعرفي على زوجتي الحبيبة ومقابلتها في نادي التوفيقية لمدة أسبوع للغداء هناك، كانت والدتي تعد الطعام لي ولوالدي في المنزل، فلما تعددت مرات خروجي وقت الظهر ولا أحد يأكل ما تطبخ قالت لي مرة وأنا خارج: «ولاد الناس يا أبو علي!» ظانة أنني ألعب بالبنات؛ فقلت لها: «لا يا نينة، هذه المرة جادة.» وبعد الخطبة كنت أذهب إلى الجامعة الأمريكية لإحضار خطيبتي معي للغداء في منزلنا مع الوالد والوالدة، ولما تكررت الزيارات لمدة ستة أشهر ونحن نعد بيت الزوجية فاجأني والدي مرة وأنا خارج مع خطيبتي لتوصيلها قال والدي المحافظ: «البنات على الذواق.» وكما عند الصوفية «من تذوق عرف.»
وكنت أذهب لزيارتها يوميا بعدما أنتهي من الكتابة عند التاسعة مساء، فأصل إليها التاسعة والنصف، فكانت والدتي تحتج أيضا ضاحكة: «يا أبو علي حد يزور خطيبته بعد التاسعة والنصف مساء؟» فأقول لها: «يا نينة، أنا عندي شغل لحد تسعة مساء ولا أستطيع التفريط في ذلك.» وهو ما كنت أقوله لخطيبتي عند بداية التعرف عليها بأنها ستكون زوجتي الثانية، والعلم زوجتي الأولى. ومن على ناصية الطريق الذي تمر به الحافلة من العباسية إلى ميدان الحجاز حيث تسكن خطيبتي، كنت أشتري قطعا من الجبن الرومي وأقفز إلى الحافلة، وكانت شبه فارغة، وكان شارع الحجاز شبه فارغ أيضا حيث تسكن خطيبتي في آخره بالقرب من ميدان الحجاز، فكنت أخجل وأنا أطرق الباب وأوقظ النائمين، والدتها وأختها وأولادها، فتفتح لي وتدخلني وهي بنصف ابتسامة، ولا أدري مبتسمة لأنني أتيت، ونصف مبتسمة لأنني تأخرت؟ فماذا سيقول الناس عنها إذا هم رأوني أجلس معها وهي تتناول طعام العشاء وتستخرج لباب الخبز الرقيق أصلا من الرغيف الشامي وأنا أتأمل هذا الوجه الجميل. وأسرع بالخروج لألحق بآخر مترو من ميدان الحجاز إلى العباسية حيث كنت أقطن قريبا منه، وكنت أجد أهلي نياما وأنا أستلقي وأنام بمجرد الدخول للمنزل ولكي أستيقظ مبكرا إما للكتابة أو الذهاب إلى الجامعة في اليوم التالي.
وقبل الزواج وإعداد المسكن، أوصاني بعض الأصدقاء بالذهاب إلى حارة لا أذكر اسمها وربما تكون «الصنادقية» المتفرعة من حي الأزهر وشوارعه التي تشتهر بصناعة الأثاث من خشب «الأرابيسك». فذهبت إلى هناك ورأيت بالفعل محلات الأثاث ومجموعة من الدواليب والكراسي والشبابيك من الأرابيسك دون أن أجد مكتبا واحدا بهذا الأسلوب العربي. ورأيت محلا يجلس على بابه صاحبه فسألني وهو ينظر إلي: «هل تبحث عن شيء معين؟» قلت: «أريد مكتبا وكرسيا من الأرابيسك.» فقال: «أصنعه لك ويكون جاهزا في ظرف شهر، وتكون تكلفته ألفي جنيه، تدفع النصف عربونا، والباقي عند التسليم.» فرحبت بالعرض وأعطيته ما اتفقنا عليه. ثم مر شهر ولم يتصل بي صاحب المحل، فذهبت إليه متسائلا عن المكتب. فأجاب: «في التشطيب يا أستاذ ينقصه فقط الأدراج والمقابض والأقفال، فهي غالية الثمن، وصرفت العربون كله في الخشب والعمل عليه.» وكان من أفضل أنواع الخشب «الماهوجني». وطلب أن أدفع باقي المبلغ حتى يشتري باقي التجهيزات، فأعطيته الألف الثانية وطلب شهرا آخرا. وبعد أن مر الشهر الثاني ذهبت إليه فلم أجد شيئا. فسألته من جديد: «أين المكتب؟» فقال: «في التشطيب يا أستاذ، نحن نشتري مستلزماته الآن.» ففرحت. وبعد مرور أسبوعين آخرين ذهبت إليه فقال: «ما زال.» فعرفت أنه نصاب أخذ ثمن المكتب ولم يسلم العمل. فذهبت إلى قسم شرطة الأزبكية وقصصت على الضابط ما حدث. فاستعجب وقال: «لا تخف سآتي معك لهذا الرجل النصاب.» ففرحت لأن شعار «الشرطة في خدمة الشعب» يتحقق أمامي بالفعل، ودخلنا الحارة. فقام جميع أصحاب المحلات من النجارين يحيونه قائلين: «اتفضل يا بيه، اتفضل يا باشا.» وهو يبادل التحية بأحسن منها، وبعد أن طفنا بالحارة ووصلنا عند النجار النصاب وعد بتسليم المكتب في ظرف أسبوع. فشكرته، ولم يأت هذا الأسبوع إلى الآن، فتركت الأمر وليس عندي وقت للذهاب للمرة الرابعة للسؤال عن المكتب، وقلت لنفسي إنه سيلقى عقابه في الدنيا قبل أي مكان آخر.
ونصحني بعد ذلك صديق بالذهاب إلى دمياط والتي تشتهر بصناعة الأثاث وفيها أكبر المصانع والمحلات، فذهبت بصحبة أستاذ من جامعة المنصورة، فدهشت لهذا الإتقان في الصناعات الخشبية، وتعرفت على شاب. وعرف مني ماذا أريد، ووعدني بإنجاز العمل، المكتب وأربعة وعشرين كرسيا ومنضدة اجتماعات من الأرابيسك، وهو لا يريد عربونا أو مقدما وأن كل ذلك سيكون جاهزا في ظرف شهر، وبالفعل ذهبت إليه مع الصديق من جامعة المنصورة ووجدت ما أطلب جاهزا على أكمل وجه ودون أن أدفع قرشا واحدا كعربون. ففرحت هذه المرة وأحضر لي عربة لنقل الأثاث إلى القاهرة، وأتى معي لتركيب طاولة الاجتماعات والتي بلغ طولها ما يقرب من الخمسة أمتار وعرضها مترين، والكراسي الأربعة والعشرين، ومكتبي في الغرفة المجاورة. وضعتهم في بدروم المنزل الذي بنيته وكان كل مساحة البدروم مخصصة للمكتب والمكتبة والكتب. ودفعت للرجل الثمن دون مناقشته في التكلفة والأسعار، يكفي حسن أخلاقه والتزامه وجودة ما صنع.
وبعد أن جهزنا المسكن، ونصف الجهاز بما كان لدي من مبلغ معقول كمهر، حددنا موعد الزفاف في 30 أبريل 1970م. وأدركت أن الزوجة تجمع بين الحب العذري وما بعده، بعد أن كانا منفصلين منطقيا بالنسبة لي. فالحب العذري لا ينتهي بالزواج، والزواج لا يبدأ بالحب العذري. الأول شعور إنساني رقيق، وعاطفة إنسانية جميلة، أقرب إلى الفن والشعر، نهايته في بدايته، وبدايته في نهايته. أما ما بعد الحب العذري، فإنه قضاء وقت، وانبساطة مؤقتة، لا يبدأ بالحب العذري، ولا ينتهي به.
أما الزواج فإنه يبدأ بالحب العذري، وينتهي بالزواج.
فالحب العذري مقدمة، والزواج نتيجة.
فالحب حرارة، والزواج تدفئة.
Unknown page