4
وهي شيعية الهوى، ثم توقفت الدار عن النشر بعد الجزء الأول «علوم القرآن، من المحمول إلى الحامل». وصادقني صاحبها الذي هدمت دار نشره في حرب 2006م بين حزب الله وإسرائيل، وعرفني بالسيد حسين فضل الله، وهو المؤسس الفعلي لحزب الله والذي أهداني بعض مؤلفاته، ورأيت أن موضوعاته عن الطاقة والحركة والقوة تشبه أفكاري الأولى وأنا أضع خطة رسالتي للدكتوراه، الصورة الاستاتيكية، التصور والنظام، والصورة الديناميكية، الطاقة والحركة، وهو ما سميته يومئذ «المنهاج الإسلامي العام». وهو نوع العنوان تقريبا لكتيب لأبي الأعلى المودودي، ثم غيرته إلى «مناهج التفسير في علم أصول الفقه». وظنت أننا سنبقى أصدقاء إلى الأبد، صاحب دار النشر وأنا، ثم توقف بعد الجزء الأول «علوم القرآن» لأنه فيما يبدو لا يعبر عن عقائد الشيعة في الإسلام، ثم توجهت إلى الهيئة العامة للكتاب التابعة لوزارة الثقافة في عهد محمود الشنيطي مؤسسها والتي طبعت لي عملي الثاني وهو ترجمتي لإسبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة» والذي راجعه فؤاد زكريا. وقد كان عملي الأول 1968م «نماذج في الفلسفة المسيحية» (أوغسطين، أنسليم، توما الأكويني) بمساعدة علي سامي النشار في «دار الكتب الجامعية» بالإسكندرية. وبعد طول انتظار، طبعت الهيئة العامة للكتاب ضمن مؤلفاتي الكاملة الجزء الأول «علوم القرآن، من الحامل إلى المحمول»، والجزء الثاني «علم الحديث، من نقد السند إلى نقد المتن»، والجزء الثالث «علوم السيرة من الرسول إلى الرسالة»، ثم توقفت، ربما خشيت من الجزأين الأخيرين «علم التفسير»، و«علم الفقه». ولكي أشجع الهيئة تنازلت عن كل حقوقي بشرط إصدار كتاب كل شهر أو شهرين، ووقع العقد رئيس الهيئة أحمد مجاهد. وانتظرت سنتين ولم يصدر شيء، ربما لأسباب رقابية، فذهبت إلى مدبولي الابن فلم يطبع الجزء الأول «علوم القرآن». وربما خاف من العنوان بعدما حدث للكثيرين بالاغتيال أو التقديم إلى القضاء أو مغادرة البلاد. وأنا في هذه السن المتأخرة، أربع وثمانين عاما، لا أتحمل هذه النتائج بالرغم من أني لا آخذ أي حقوق عن مؤلفاتي، يكفي نشرها، وكان مدبولي الأب يقول: لماذا تريدون حقوقا؟ نحن تجار، نستثمر مكسبنا في بناء العقارات، وأنتم مؤلفون، تشتهرون وتنشرون أفكاركم عن طريقنا، فلا تزاحمونا في المال، ونحن لا نزاحمكم في الشهرة. ثم أصدرت الهيئة العامة للكتاب القسم الأول من «مناهج التفسير» بعد أن قررت طبعه في قسمين لكبره وصعوبة تغليفه، وإلى الآن لم يصدر شيء، وتأخرت سنوات، وكانت الحجة أنني ذكرت سيد قطب في كتابه الأخير «معالم في الطريق» الذي كتبه تحت آثار التعذيب وتكفير النظم السياسية، والقول بالحاكمية مع أنه الشاعر في «الشاطئ المجهول» والقصاص في «أشواك» و«طفل من القرية». والناقد الأدبي في «النقد الأدبي، أصوله ومناهجه»، و«التصوير الفني في القرآن الكريم» و«مشاهد القيامة في القرآن الكريم» وسبق ذلك كله «الإسلام حركة إبداعية في الفن والحياة». والاشتراكي في «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«الصراع بين الرأسمالية والإسلام»، ثم المفكر الإسلامي في «المستقبل لهذا الدين» و«خصائص التصور الإسلامي ومقوماته».
ويمكن تصنيفهم إلى أنواع طبقا لدرجة صدقهم؛ فهناك الصدق المطلق مثل الهيئة العامة للكتاب ولكن تتأخر في الطباعة عدة سنوات قد تصل إلى خمس سنوات لأنها هيئة حكومية. ومنها بعض دور النشر في جيل الآباء المؤسسين مثل الأنجلو المصرية قبل أن تتحول مثل باقي الناشرين. ومثل دار غريب التي أسسها الأب فكان له طموح اللجنة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، وما إن توفي حتى اختلف الأبناء على الإرث، فتفرقوا، ولم يحافظ أحد على تراث الأب، وأسس أحدهم الشركة المصرية السعودية. ودار الطليعة في بيروت التي حاسبتني بالجنيه المصري بدلا من الدولار عندما انخفض الجنيه وارتفع الدولار. وثانيا هناك الكذب المطلق الذي أخذ الكتب ولم يعط الحقوق، دار التنوير التي نشأت في 1982م ببيروت، أسسها أحد تلاميذي السوريين بلبنان. وطبع كتبي الأولى ووزعها، وتوسع في توزيعها، وأقام الصفقات، وطبع بعض مؤلفاتي مثل «من العقيدة للثورة» في بيروت بالتعاون مع المركز الثقافي العربي المغربي اللبناني، المركز يقوم بالطباعة، وهو يدفع حقوق المؤلف، رأيته عدة مرات في بيروت والقاهرة، واختفى. وسمعت أنه نصب على غيره من الناشرين، وظل يهرب حتى سمعت أخيرا أنه قضى نحبه. ومثل دار ماي اللبنانية الليبية، وطبع لي «محمد إقبال» و«من الفناء إلى البقاء» و«من النص إلى الواقع»، وأعطاني حقي في الكتاب الأول ثم اختفى بالكتابين الأخيرين، وطباعته الفاخرة يبيعها في الخليج. وقد أخذت منه وعدا بطباعة كتبي طبعة شعبية لفقراء العرب، وتحجج بأنني طبعت الكتابين طبعة مصرية رخيصة توزع في الوطن العربي، فغرقت السوق. وأخيرا قررت الطباعة على نفقتي الخاصة، الجزأين الأخيرين: من «النقل إلى العقل: مناهج التفسير، من التفسير الطولي إلى التفسير الموضوعي»، و«علوم الفقه: من أحكام الفقه إلى أحكام الوجود» ثم «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى» ثم «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم». وأنا الآن أفكر في طباعة هذه «الذكريات» على نفقتي الخاصة. وهناك الصدق النسبي الذي يعطي جزءا من الحقوق ثم يختفي.
5
والثالث المحايد الذي لا يأخذ ولا يعطي مثل دار «الكتاب للنشر» ودار «عين». وهناك من يأخذ ولا يعطي مثل دار «الكتاب المصري» الذي أخذ كل ما لدي من مؤلفات من دار «غريب للتوزيع»، وبعد أن أعلن صداقته لي، وأنه يريد أن يكون ناشري وموزعي مثل «مركز دراسات الوحدة العربية» ببيروت وتعاقده مع الجابري ليكون ناشره وموزعه والمحافظ على حقوقه. وهناك دور نشر صادقة في سوريا حمى الله شعبها وخلصها من حكامها الظالمين وقادتها المنتخبين. أما المغرب فقد نشر «حوار المشرق والمغرب»، وتونس «التراث والتجديد» ولم آخذ حقوقا نظرا لاعتزازي بثقافتهم وتقديري لمثقفيهم.
وكما تعبت مع الناشرين تعبت مع السكرتارية التي تساعد في المنزل؛ فقد أتت سكرتيرة من دار قباء تعمل وقتا إضافيا عندي على نفقتي الخاصة، وكانت مدعية الإسلام، وتتظاهر بأشكاله وعباراته النمطية في الصلاة والسلام على الرسول، واقترضت مبلغا من المال تعمل به، ثم لم أرها بعد ذلك، بل إنها أخذت الكومبيوتر الخاص بي للعمل في المنزل اختصارا للوقت، ولم تعد. وتكررت الواقعة مع العديد من السكرتارية الآخرين، يقترضون المال للعمل به، ثم لا يعودون. وآخر يعمل لحسابه الخاص حتى استهلك ما لدي من إنترنت مدعيا أنه يقوم بما كلفته به من أعمال. وكل له دينه، ولا فرق في النصب والاحتيال بين دين وآخر؛ فالأخلاق تجمعهم. ومنهم من اقترض آلاف الجنيهات واختفى. وعلمت أنه كان يسرق قطع الكومبيوتر من مركز الدراسات الاجتماعية مما اضطر مديره إلى ترقيمها. كما علمت ممن يليه أنه أصيب بفشل كلوي، وأنهم يجمعون له المال في القصر العيني، ثم اقترض من أتى بعده بحجة أنه صعيدي أمين، ثم اختفى. وكنت أحمل لهم بنفسي الإفطار في رمضان، فكان يأتي بعد عمله، ويصل قبل الإفطار، ويفطر ثم يعمل لمدة ساعة ثم يغادر نظرا لزحام المواصلات. وسمعت أنه ضرب امرأته وطردها من المنزل. وكنت أعطيهم جميعا العيديات والمكافآت في المناسبات.
وباستثناء اثنين، بقي أحدهما معي ما يفوق العشر سنوات، مثال في الأمانة والصدق والإخلاص وهو شريف صبري، وما زال يمثل ذراعي الأيمن، هو الذي يرد على المراسلات، ويكتب الخطابات. ويعد أوراق الدعوات للمؤتمرات، بالإضافة إلى الأبحاث والأوراق المقدمة في الندوات. وما تبقى له من وقت يساعدني في كتابة الأبواب والفصول للمؤلفات. والثاني محمد فاروق مثال آخر في الصدق والأمانة والولاء بالرغم من صعوبة وضعه المالي الاجتماعي. بدأ كل يوم بعد الظهر، ولما مرض عمل ثلاثة أيام. ولما أرهق عمل يومين في الأسبوع، ويحدد بنفسه حقه آخر الشهر، يكتب أيضا الأبواب والفصول لمؤلفاتي، ويراعي المكتبة، ويسجل ما يأخذه الناشرون. وما زلت أبحث عن ثالث لطباعة «ذكريات» الذي انتهيت منه هذا الأسبوع، وقد تكون ابنتي. ثم وجدت أخيرا شريف سعد، وقد كنت مشرفا وعضوا في مناقشة رسالته للماجستير، وهو أيضا مثال الكفاءة والأمانة، بالإضافة إلى ثقافته الفلسفية. وأرجو أن يظل الشريفان، صبري وسعد معي حتى أغادر هذا العالم، أمناء على مكتبتي واستمرارا في الرد على المراسلات التي تأتيني، واستقبال الزيارات التي تأتيني، وتصوير النصوص التي يشاؤها الطلاب. وجميعهم يدخلون المنزل ويخرجون بمفاتيح خاصة بهم، أستأمنهم في كل شيء في حياتي العامة والخاصة.
وكان الخاسر الأكبر في هذه الرحلة الطويلة هو الجسد؛ فقد بدأ الوهن يدب فيه: عملية القلب المفتوح لتغيير أربعة شرايين بعد أن اكتشفت ابنة أختي د. داليا عندما رأت وجهي أصفر في زيارة لأخي سيد، وأخذتني عنوة على القصر العيني، وقرروا إجراء العملية فورا، ولم يشأ الجراح أن يقوم بها في القصر العيني حيث يعمل بل في مستشفى السلام الدولي، أول طريق المعادي، ثم أجريت عملية جراحية أخرى لاستئصال المرارة خوفا من تجمع حصاوي فيها، كما أجريت عملية البروستاتا خوفا من كبرها في المستقبل. وأجريت عملية العمود الفقري بعد أن تداخلت الفقرة الرابعة والثالثة معا في انزلاق غضروفي. ولما وقعت في المنزل وأنا خارج من الحمام وانكسر فخذ الرجل اليمنى المرتبط بالحوض غيرته بمفصل حديدي، وبعدها لم أستطع السير بسهولة. ولما تعب البصر من كثرة إجهاده أجريت عمليات الماء الزرقاء والماء البيضاء. ولما لم يتحسن البصر حقنت ثلاث مرات في العين. ولما لم يتحسن البصر كثيرا أجريت عملية في العينين بالليزر. ولم يتحسن البصر حتى الآن؛ فالعصب قد ضعف بسبب السكر، ولا حل لذلك إلا القطرات طول العمر حتى لا يضعف أكثر. ولبست نظارة ميكروسوبية لتكبير الحروف، مستوردة من ألمانيا، ولكن عيناي كانت تدمعان، ثم وضعت عدسة مكبرة على الصفحة ولكن الأمل ضعيف في أن أرى بسهولة ويسر، وأنا الآن لا أرى الألوان، كل شيء أبيض وأسود أمامي، ولا أتحمل ضوء الشمس، ولا أتعرف على من يأتيني للتحية، كما أنني أجلس على كرسي متحرك في الذهاب وفي الإياب. ويرافقني ممرض قدير أطال الله في عمره، محمود محمد الدهروطي، ثقافته العامة والفنية واسعة، ضحوكا، قادرا على القيام بكل ما يطلب منه في شئون المنزل، يوفر لي كل وسائل الراحة أربعا وعشرين ساعة يوميا، بل إنه يصاحبني في الحل والترحال مثل أبو ظبي وعمان والسودان وتونس وتركيا، في المنزل والجامعة، وزوجته وأولاده في بني مزار بمحافظة المنيا، والتي منها مصطفى عبد الرازق. يذهب إليهم كل شهر مرة. ويأتي بديل له ليس له نفس القدرات ، ويصعب عليه أن يتعود علي في عدة أيام، وهذا جزاء من يجلس على كرسي متحرك.
وأصبحت زوجتي وأنا من كبار السن، لا يستطيع كل منا أن يقوم بشئون نفسه؛ فلا أنا أستطيع الحركة بعد الوقوع على الأرض، ولم تعد هي قادرة على القيام بشئون المنزل، وفي حاجة إلى من يساعدها. وقد عانينا الأمرين مع الشغالات؛ فالمصرية تسرق حتى ولو كانت كفؤا، والنيجيرية تصر على أخذ أجرها بالدولار بعد ارتفاعه، والسودانية أفضلهن، ومع ذلك لا يوجد منهن أحد خاليا من العيوب. فالكل بشر مع أننا نقف بجوارهن دائما في حالة الاحتياج. جاءت إحداهن معي إلى البنك وأنا أسحب بعض المال من حسابي، واستكثرت المبلغ مع أني أصرف حوالي خمسة عشر ألفا من الجنيهات، مرتبات شهرية، المرافقين والسكرتيرين والبواب وصيانة المصعد والكهرباء والمياه والأدوية، والغذاء آخرها وأقلها كلفة، فأخبرتني أن أمها بالمستشفى تجري عملية في المخ، وبأن المطلوب منها ثلاثون ألفا من الجنيهات، وإلا تقضي نحبها، فتأثرت، وأعطيتها ما طلبت، وكتبت على نفسها وصل أمانة، فقطعته أمامها، كما فعل نجيب الريحاني مع تحية كاريوكا في «لعبة الست»؛ فالعمل الإنساني لا يحتاج إلى أوراق. وكنت قد ركبت في أسنانها طاقما لأنها يبدو أنها ضربت عند من كانت تعمل عنده قبلي، ثم ضبطت وهي تبيع مسروقات شرقية في خان الخليلي. فقبضت عليها الشرطة التي اتصلت بي كضامن لها فرفضت. وقدمت للمحاكمة، ولا أدري كم شهرا سجنا كان الحكم. والثانية كانت مرحة تعتبر نفسها من أهل البيت، تجلس معنا وتسافر معنا. ومرة أخبرتني أن سقف غرفتها فوق السطح قد وقع، وهي في العراء، وأن ثلاجتها قد توقفت عن العمل، وهناك تخفيض لا يعوض لشراء ثلاجة جديدة، فأعطيتها ما أرادت، ثم سرقت أموالا من درج مكتبي، آلاف الجنيهات، ثم غادرت، ولم ترجع، وغيرت أرقام تليفوناتها. وثالثة كانت تسرق من المطبخ ما تشاء من أوانيه، ثم اختفت فجأة، وعلمت أنها هاجرت إلى أمريكا، وتزوجت أمريكيا رأسماليا أقام لها مصنع مشغولات شرقية، وأنها أصبحت من الرأسماليين. ورابعة كان يأتيها زوجها في الصباح الباكر، وتسلم له ما تستطيع من أواني المطبخ من الشباك، ونحن في الدور الأرضي. القصص كثيرة، ولا أدري ما السبب، الأخلاق كما يقال أم الفقر؟ لا يعني ذلك أنني لم أعرف الأمينات؛ فقد عرفت بعضهن منذ ثلاثين عاما في شقتي القديمة: قبطية، تعمل هي وابنتها، وتجلس بعد أن تنهي العمل في انتظار عودتنا من العمل، صامتة لا تتكلم، كفوء وأمينة في عملها. فهل تغير الزمن؟
ولما كنت لا أستطيع قيادة السيارة فلزمني سائق كان يعمل لابني حاتم وزوجته وأولاده وأصدقائه. ولما غادرت الأسرة استعملته أنا، وكنت كريما معه. وفي يوم طلب أن أقرضه ستة آلاف جنيه لحاجته الماسة لها، ويردها كل شهر ألفا، ففعلت لأني لم أر منه شيئا قبيحا، وكان في كل مرة أحتاج شيئا يحضره لي وأكافئه الضعف، ورد ثلاثة أشهر متتالية، وفي الشهر الرابع قال لي: هل تصبر علي هذا الشهر؟ ففعلت. وحتى أسهل عليه رد المبلغ المتبقي، وهو حوالي النصف، طلبت منه أن يعمل به، في كل مرة يوصلني إلى الجامعة أو إلى الجمعية الفلسفية المصرية أخصم الأجر سدادا لما عليه من دين، واعترض على ذلك، كيف يعود إلى أسرته مساء وجيوبه فارغة؟ ولما رأيت كثرة التلاعب منه أوقفت التعامل معه، ولم يرد باقي السلفة حتى الآن.
Unknown page